ذهنية التسلط – مرحلة ما بعد الدكتاتورية/عبد الباري الحمداني
Thu, 8 Nov 2012 الساعة : 22:39

من المستحيل علميا وعمليا أن يوجد بشكل سريع مجتمع يسوده الوعي والسلوك الديمقراطي،على خلفية من التعلم طويل الأمد من السلوك التسلطي والتماهي بالمتسلط ،مع وراثة منظومة من الأعراف والتقاليد المضادة للتغير والتحول من السكونية والركود وعبادة التسلط والمتسلط والذوبان في الجماعة العرقية أو العشيرة أو الطائفة مقابل الحركة والاعتداد بالذات والثقة بالقدرات الذاتية والتخلص من الاتكالية،من التفكير بطريقة تسودها الخرافة والكليات المطلقة والاعتماد على الماورائيات بشكل مفرط يتخلل تفاصيل الحياة جميعها،إلى التفكير المنهجي العلمي،الذي يعتمد حصر المشكلة وتحديدها بدقة،بغية اكتشاف القوانين المحركة لها،من الإيمان بالسياق إلى الإيمان بالقانون،من التصرف القائم على القلق والخوف والتهديد إلى التصرف الواعي القائم على التخطيط والتوقع والسيطرة،كل منظومة من المنظومتين المتناقضتين تشكلان طريقة تفكير الفرد الذي ينتمي لكل منهما وأسلوب حياته ومنظوره عن العالمWorldview ، الأولى نتاج أحساس الفرد بأنه مغلوب على أمره عاجز عن التغلب على مصدرين من القهر(الطبيعي وقهر السلطة) ،متثبت على حرمانه ونقصه،والثاني يؤمن بالقدرات الإنسانية والإبداع الفردي والجمعي،غير منهمك بذاته ونقصه.
التبخيس أو خفض القيمةDepreciation ،عملية يهدف المتسلط لغرسها في تفكير وعاطفة،وبالتالي سلوك المستضعف وتوجهاته،تتضمن أن يتمثل المستضعف عدوانية وقهر المتسلط ذاتيا،على شكل مشاعر إثم وعدوانية،يزدري ويخجل من ذاته ولا يستطيع مواجهتها،يود لو هرب منها،كما ينقم عليها في الوقت ذاته.يكيل التهم والنعوت السيئة لذاته متهما إياها دوما بالتقصير والتخاذل والجبن.يميل لمعاقبة ذاته حتى بالقهر والظلم.بحيث يصبح باللاوعي حليفا للمتسلط الأول في حربه ضد وجوده ووجود الآخرين من أمثاله،وبينه وبين الآخرين تنشأ علاقة ازدراء ضمني لأنهم يعكسون له مأساته وعاره(شعوره بالخزي)،تكون الحلقات الأضعف في المجتمع هي الأكثر عرضة لهذا النوع من القهر والظلم(المرأة،الطفل،كبش الفداء التاريخي)
الإعجاب بالمتسلط (الاستسلام له في حالة من التبعية الكلية)،بمقدار ما ينخفض عنده تقديره لذاته،يرتفع عنده تقدير المتسلط بحيث يرى فيه نوعا من الإنسان الفائق.وتتشكل علاقة ماسوشية بين المقهور والمتسلط ،يصبح على الأول حق الخضوع والإذعان وللثاني حق التسلط والقهر،وله حق في السيادة والتمتع بكل الامتيازات.لذلك تبرز أنماط من العلاقات القائمة على التزلف والاستزلام والتقرب.والحقيقة أن من يعطي الفرص لهذا الشكل من العلاقة ليس المتسلط أنما المقهور ذاته،لأنه يرى ان ذلك حق عليه باللاوعي لينال قسطا مؤقتا من الإحساس بالأمن والقوة المستمدة من الضعف،وهذا بدوره يوفر للمتسلط المزيد من استخدام البطش والعدوان وللمقهور المزيد من مشاعر الذنب والقلق،دافعا إياه إلى حالة من الهاجس أو الاستحواذObsession، الذي يتضمن فكرة تسلطية مفادها أن استمداد القوة والتخلص من القلق لا يتحصل إلا بالمزيد من الإذعان والرضوخ. هذه العلاقة ليست جامدة بهذا الشكل،وبصفة مستديمة،أنما يغلب عليها ما يطلق عليه التجاذب الوجداني ambivalence،التذبذب بين التبعية والرضوخ-وبين الرفض والعدوانية،فالإنسان المقهور يحاول الانتقام بأساليب خفية،(الكسل والتخريب)،أو رمزية(النكات والتشنيعات)،وهذا يخلق ازدواجية في العلاقة،رضوخ ظاهري وعدوانية خفيه،وابرز مثل لهذه الازدواجية،هو موقف الرياء والخداع والمراوغة والكذب والتضليل،وتصبح محاولة النيل من المتسلط قيمة بحد ذاتها،الإنسان المقهور متربص دوما بالمتسلط كي ينال منه كلما استطاع،والحقيقة أن المتسلط يعي ويشعر بذلك باستمرار،فهو كذلك قلق ومترقب،والحقيقة أن تلك الازدواجية هي مرحلة نامية من مراحل العلاقة بين المتسلط والمقهور،تشكل مرحلة وسط الطريق بين الرضوخ والتمرد.ولكن المقهور في هذه المرحلة يستخدم أسلوب المتسلط نفسه،ويخاطبه بلغته ذاتها،فالمتسلط يستخدم الكذب والخداع في الوعود المتمثلة في الإصلاح والإنماء والأعمار والرقي والتقدم،وهي جميعها هراء في نظر المستضعف والمقهور،والمقهور يكذب على المتسلط في إظهار الولاء والتبعية له.
المشكلة تكمن في الفترة التي تلي التسلط أو التحرر من قيود المتسلط ،فالكذب والخداع الذي اعتاد عليه الناس كميكانزم أساسي للعلاقة مع المتسلط ،أصبح جزأ من النسيج الاجتماعي ونتاج لمنظومة تعلم طويلة الأمد،ساعد على تعميم الكذب،على الحب والزواج والصداقات والكذب في ادعاء القيم السامية،كذب في ادعاء الرجولة،كذب في المعرفة،والإيمان،يكذب المسئول على المواطن،كما يكذب رجل الشرطة حينما يدعي الحفاظ على النظام والأخلاق،كما يكذب الموظف على صاحب الحاجة،التاجر على المشتري،الحرفي على الزبون،معظم العلاقات زائفة،والحوار تضليل وخداع،تزين الأمور والكلام ليستغل الواحد من الناس الآخر،ويصبح صاحب النية الطيبة أو الذي لم تصبه أدران المتسلط ساذجا وغبيا،فالآخر هو أداة نخطط لاستغلالها،لا شخصا مكافئا . وتتطور شخصية المقهور تاريخيا لتبرز عدة عقد من أهمها،عقدة النقص،وعقدة العار(مع اضطراب الديمومة واصطباغ التجربة الوجودية بالسوداوية)،وجميعها تؤدي بالإنسان المقهور أن يمارس الاتكالية والنكوص والقدرية والاستسلام وطغيان الخرافة على التفكير والنظرة للوجود.
يعاني المقهور نمطين من مصادر القهر الأول ذاتي يتمثل في عجزه عن مواجهة الطبيعة والتحول في أنماط العيش والحياة،فهو متخلف لأنه لا يمتلك القدرة على التفكير والإبداع،وهو لا يمتلك أدوات التفكير ومنهجيته،والثاني مصدره المفهوم غير المرن للسلطة في ذهنيته،والقطيعة التاريخية بينه وبينها،وهذا وحده كافيا لتبرير اندفاع المقهور إلى الاعتقاد بالخرافة وعدم الموازنة بين ما هو غيبي وما هو علمي،يجد نفسه دوما في وضعية المغلوب على أمره،يغلب عليه طابع الانتظار بمفهومه السلبي،يغلب عليه فقدان الثقة بالتغيير، يمتاز بانعدام الكفاءة الاجتماعية والمعرفية،فهو يتجنب كل جديد،ويتجنب الوضعيات غير المألوفة،يشعر بانحسار الذات والغربة لو خرج من دائرة حياته الضيقة،يخشى التجريب لأنه قلق،يتشبث بالقديم،ويتعامل مع التكنولوجيا الحديثة باعتبارها كيان سحري يمت إلى عالم يتجاوز عالمه وإمكانياته،بدلا أن يكتشف القوانين الرياضية والفيزياوية التي تتحكم بها.
وهو في حالة دفاع بسبب عجزه،فكل فكرة تهدده،وكل نجاح افتضاح لعجزه،فهو منهمك بالإطار الخارجي الذي يجب أن يظهر به للآخرين،وهو بهذا فريسة لجدلية ما يخفي وما يظهر،وهو في امتحان دائم،يخشى فقدان توازنه من خلال فقدانه لدفاعاته،فهمه الأول ما يقوله الآخرون عنه،تعليقاتهم،أرائهم،ولهذا فان مفردات العزة والكرامة تحتل مكانه في لغته وخطابه ورسائله،لكنها في الحقيقة الكرامة المهددة والعزة المثلومة.
التصرفات الاستهلاكية المتمثلة في التمجيد والتضخيم وخداع الذات بالجاه والكرم والحظوة التي ليس لها أساس في الواقع،ما هي إلى ميكانزم لاشعوري للتخلص من التوتر بسبب الإحساس بالنقص والقصور الذاتي،فالتبجح بالأجداد العظام أو التعبير الأسطوري عن الأسلاف وإضفاء الكرامات والبطولات ما هو ألا صورة من صور سد النقص في مجاراة ومباراة العالم المتقدم،وفي اشد حالات العجز يندفع المتخلف المقهور إلى نعت الآخرين بالكفر والنجاسة،او أنهم اخذوا علومهم منه.
اضطراب الديمومة،يتمثل في ان يعيش الإنسان المكان ولكن بمقاييس زمان آخر، فبسبب انعدام ضمان مستمر للمستقبل نتيجة الحاضر المضطرب،يعمد المقهور إلى النكوص للماضي،وفي إحدى مذكراته يقول علي الوردي،كنت في أمريكا ودار جدل حاد بين زملين حول أحقية" الامام علي" و"انتهازية عمر"،ووصل النقاش إلى الشتائم والاشتباك بالأيدي،وكان من بين الحاضرين من الامريكين،يريدون معرفة ما حدث،هل المتحاورين-الذين تحولوا إلى متخاصمين،اختلفوا في مرشحين للرئاسة،أم اختلفوا في برامجهم للحد من البطالة وتخفيض خط الفقر،وعندما عرفوا أن الخلاف يعود إلى أكثر من الف سنة،استلقى الامريكان على قفاهم من الضحك،لأنهم لم يتمكنوا من استيعاب قياس المكان بزمان آخر.
الاضطهاد ألرضوخي يقابله على الطرف الآخر من المتصل اضطهاد تمردي،وتؤثر بنية المجتمع على التجاذب بين هذين النوعين من حيث الكم والاتجاه والتحويل أو الترميز،وعلى المستوى الفردي تتأثر العلاقة بين النمطين على البناء النفسي والنزوعي للفرد،ولا يعني ان جميع الأفراد لهم ذات المستوى من الرضوخ أو التمرد،أنها مرحلة يمر بها المجتمع ليصبح فيه الإحساس بالاضطهاد دافعا للاضطهاد التمردي وفق الصيغة( متسلط يضطهد،مقهور يتقبل الاضطهاد برضوخ- مقهور يعي ويشعر انه مضطهد،نشوء وبداية الاضطهاد التمردي)، وبهذا فان مرحلة الإحساس والشعور بالاضطهاد،تصاحبها درجة عالية من التوتر الانفعالي-الوجودي العام،يدخل في مرحلة تسمى(الغليان الداخلي للعدوانية)،التي كانت مقموعة بشده،ولمتسلط في تلك المرحلة يبدع ويمعن في وسائل القهر الفردي والجماعي من خلال(العقاب الجماعي بالتهديد،التجويع،القمع المسلح ،مصادرة الأملاك)،أو العقاب الفردي(السجن،النفي،الإعدام،الاهانات الرمزية كقطع الأذن أو أجبار الأهل على التوقيع على إعدام أبنائهم،أو اخذ ثمن الاطلاقة التي يقتل بها أبنائهم ومنعهم من ممارسة الطقوس الخاصة بالميت شرعية كانت أم اعرافية)،ألا أن جميع تلك التصرفات وبالتراكم البطيء تتحول الى أداة تقتل المتسلط، فآلية التبخيس الذاتي،تحيل عدوان المضطهد من كونه عدوان مرتد على الذات إلى عدوان موجه لمصدر الإحباط والقمع والكبت،لان الإنسان بطبيعته لا يمكنه احتمال التبخيس الذاتي بشكل دائم،وسبب تأخر بعض الأفراد او الجماعات للوصول إلى هذه الدرجة،ساعدت عليه عوامل عدة،أبرزها طبيعة بنية المجتمع نفسه(مرور المجتمع بمرحلة الطفولة)،المتمثلة بعدم كشفه لحيل العصر واللعبة الدولية الكبرى وتصديقه المسبق بنموذج البطل والقائد ،بنية النظام العالمي الداعم للدكتاتوريات،الآلية الإعلامية التضليلية،تسلط الأراذل على الأفاضل،بث ميكانزمات الرعب من خلال نماذج أو أمثلة (كإعدام المقربين من المتسلط، إعدام الشخصيات التي تمثل في قتلها رسائل ذات مغزى للآخرين كالعلماء والوطنين المخلصين واللذين يأمرون بالقسط من الناس)،وعوامل أخرى تتمثل في حيل وأساليب المتسلط الشيطانية(كالإغراء المادي والمعنوي)، والاهم من كل ما تقدم أحساس وشعور المقهورين بأنهم مغلوب على أمرهم ولا يمكنهم مواجهة ماكنة وطاحونة المتسلط.
ان فشل تحقيق الذات ،فشل الوصول إلى قيمة ذاتية تعطي للوجود معنى،يولد اشد مشاعر الذنب إيلاما للنفس، فالمتسلط يعمل على تصميم وبناء برنامج لتحقيق الذات من خلال مشروع عام يخطه للمجتمع المقهور تذوب فيه ذات الفرد كما يفترض هو في ذات الكل ويصبح كل شئ من اجل المعركة،وكل السواعد من اجل استعادة العزة والكرامة وتحقيق امة واحدة ذات رسالة خالدة،تبعث المجد القديم بثوبه الجديد حتى وان تيتم الأطفال وترمل النساء وتهدر الثروات وتستباح الأعراض،والحقيقة أن تلك إرادته هو لا ارادة الأمة الافتراضية التي يريد أن يبعثها هو، وسط هذه الشعارات ووسط هذا القتل لذات الفرد، تتولد وتتفجر بدورها عدوانية شديدة تزداد وطئتها وشدها بمقدار تراكمها الداخلي، عندما تتجاوز العدوانية حدها الطبيعي ترتد نحو الذات وتحطيمها، ليصل حد العدوان إلى إسقاطه على الآخرين من خلال كبش الفداء التاريخي،لان لب الشعور بالاضطهاد هو البحث عن مخطئ، ليحمله المضطهد وزر العدوانية المتراكمة داخليا،والمشكلة أن ذلك الشعور يبقى مستمرا حتى بعد زوال الدكتاتور والتسلط بسنوات،انه عدوان تحويلي يتخذ أنماط مختلفة(التكاسل،اللا أدرية،الفساد الإداري والمالي،الانتقام بأخذ المال العام باعتباره حق شخصي هدر منذ سنوات)،ولهذا فان بعد كل مرحلة تسلط تبرز إلى السطح مظاهر تتمثل في صعود طبقات ونزول أخرى،المنتفع الوحيد في تلك المعادلة هو الانتهازي الذي ضل ماشيا بجانب حائط الدكتاتور ودخل بتجربته التحايلية طويلة الأمد مستثمرا إياها في الاندماج مع المتسلط الجديد،أو الحاكم الجديد.