القرآن الكريم ودحض شبهة الإقتباس من شعراء الجاهلية !-الجزء الاول/مير عقراوي

Wed, 7 Nov 2012 الساعة : 22:28

 

تقدمة كلمات ؛ لقد تعرّض القرآن الكريم في العصر الحديث ، كما العصور التي سبقته ، وبخاصة في بدايات القرن الواحد والعشرين وما تلاه – بشكل أخص - الى أشرس وأشنع الحملات والشبهات والإفتراءات . بالحقيقة لقد كانت الحملات في بداية القرن الجديد حملات غير عادية ، وحملات غير مسبوقة أبدا . لهذا يمكن القول بأن القرآن لم يتعرّض في طول تأريخه الى مثل هذه الحملات الممنهجة والمدروسة والمخططة لها سلفا ! .
لكنه في كل مرة ، وفي كل عصر ، وفي كل صٍراع خرج القرآن الكريم ظافرا ومُظفّرا ، شامخا وسامقا عالٍيَ الراية ومنتصرا ، وإنه سيبقى كذلك الى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها ، كيف لا ، وهو كلام الله سبحانه العليم الحكيم الذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولامن خلفه ! ؟ .
من أحد الشبهات المفترية على القرآن هو أن رسول الله محمد – عليه وآله الصلاة والسلام – قد آستقى وأخذ معلوماته ، أو الآيات القرآنية من شعراء العرب قبل الاسلام ، أو ممن كان معاصرا له منهم ، أو أنهم أمدّوه وآستقرأوه القرآن وآياته ! .
وهذا لعمر الحق من أوهن الشبهات فسادا وأكثره بطلانا ، لأنه لماذا هذا الشاعر الجاهلي ، أو ذاك ، في ذلك العصر لم يواجه نبي الله محمد – ص – ليقول له : إن ما تتلوه على الناس وتنشره هو من أشعارنا ومعلوماتنا ، ثم إن كان هؤلاء على هذا القدر العظيم من العلم والمعرفة والثقافة لماذا لم ينشروا كتابا كالقرآن بإسمهم لابإسم غيرهم ، مع أن القرآن – كما هو معلوم – ليس بشعر ولا نثر على الإطلاق ، ولماذا أيضا لم تواجه قريش رسول الله محمد في بداية دعوته للاسلام لتكشف السٍرَّ ولتثبت للعرب أن مايتلوه محمدا ما هو إلاّ تكرار لأبيات فلان وعلاّن من الشعراء ، حيث هم كانوا ، في ذلك الزمن الغابر أحوج الناس الى تلكم الإدّعاءات لإثبات صدق مدّعاءاتهم ؟ . لقد قالت قريشا إن ما يتلوه محمد هو من الشعر أو غيره ، لكنهم لم يقولوا مرة واحدة بأنه من أبيات فلانا وعلاّنا من شعراء العرب ، لأن الكثيرين من العرب يومها كانوا يحفظون الأشعار والمعلقات الشعرية الطوال لشعراء العرب المشهورين لديهم ، وعلى ظهر قلب فلم يجدوا أيّ تشابه ولاتوافق بينها ، وبين ما يتلوه رسول الله محمد . لهذا لم يستطيعوا مواجهته الصريحة هذه إلاُ باللغو والمبهمات من الشبهات والمفتريات . وقد سجّلَ القرآن الكريم ذلك في قوله تعالى ؛ { وقال الذين كفروا : لا تسمعوا لهذا القرآن وآلْغَوْا فيه لعلكم تَغْلٍبُونَ } فُصٍّلت / 26 .
بالحقيقة إني لم أستغرب في أمر كإستغرابي من شبهاتيي اليوم ، لأنهم ما فتأوا يشكٍّكون بالقرآن والحديث والسيرة والتاريخ الاسلامي تشكيكا أبعدهم عن جادة الحق والصواب ، فما بالهم يؤمنون ويجزمون بصحة وسلامة أبيات متناثرة ومجهولة الأصل والمصدر ومحشوة بالمتناقضات والمفضوحة إنتحاليتها وحداثتها الشعرية ! .
كما يبدو جليا إن هؤلاء لايفعلون ذلك إلاّ للمكايدة والعناد واللغو التشكيكي في صحة القرآن الكريم وسلامته ، مع العلم أنه قد ثبت بطلان الأبيات الشعرية المزعومة بثبوت إنتحاليتها وزيفيتها .
1-/ إمرؤ القيس ( 545 – 497 ) : إسمه خُندُج بن حجر بن الحارث الكندي ويلقّب بآمريء القيس ، وبالمَلٍك الضّلّيل ، لأنه أضاع المُلْكَ بعد مقتل أبيه الملك ، مع محاولاته الجادة لإعادته ، لكنه أضلّ الطريق ولم يفلح وحسب ، بل إنه هلك فيها .
و؛ ( نشأ خندج في نجد من أسرة توارثت المُلْكَ ، ودانت لها قبائل العرب من ربيعة ومضر ، ومضى يتردد بين أسرة أبيه وأسرة خاله المُهَلْهَل في تغلب ، مُزهوا بنفسه وبملك أبيه ، غارقا في لذائذ الدنيا .
إن مال الى اللهو وجد بين الإماء والقٍيَانِ طِلْبته ، وإن طلب الطرد والقنص سار في ركابه فتيان مَجان يبغون ما يبغي من نزو على الجياد ومطاردة للفرائس .
وعندما تمادى آمرؤ القيس في ضلاله طرده أبوه ، فلم يزد الطرد مجانته إلاّ إطرادا ، وإلحاحا على الغَيٍّ ، إذ راح ينفق عمره في الشهوات ، ويعايش مَنْ شَذَّ وتصعلك ، ومَنْ غوى وفَسَقَ . وبينما هو غارق في لذائذه ، وقعت واقعة نقلته من المجون الى الشجون ، ومن الخمر والقمر الى الغم والهم .
وعندما وصله خبر أبيه قال ؛ [ ضَيَّعَني صغيرا وحَمَّلني دمه كبيرا لا صحو اليوم ، ولاسكر غدا ، اليوم خمر وغدا أمر ] ) أنظر ( ديوان آمرؤ القيس ) إعتنى به وشرحه الأستاذ عبدالرحمن المصطاوي ، ص 09 – 10 .
المستوى الشعري ومراحل امريء القيس الشعرية :
يتفق المحققون والأدباء والنقاد على أن شعر امريء القيس كان ( في المرحلة الأولى من حياته غزلا ووصفا لمجالس الأنس والخمر ، والحصان رفيقه في الصيد ، ومطيّته في ميادين القتال ، وفي المرحلة الثانية غلب على شعره المدح والهجاء والفخر بالملك القديم ووصف الناقة في قطع الفلوات .
ومن حيث العواطف كان شعره في المرحلة الأولى يتفجّر حيوية وتفاؤلا وزهوا ، وآعتزازا ، فلما فُجِعَ بأبيه ، غرق في الشكوى والحزن والتذمّر من غدر الناس والزمان .
وفي الأسلوب كانت ألفاظ الشاعر في المرحلة الأولى أقرب الى العذوبة والوضوح والإنسياب ، ولم يفارق أسلوبه هذه الخصائص في المرحلة الثانية ، لكن العاطفة شابها المقت ، وخالطتها الكآبة ) أنظر نفس المصدر السابق والشارح للديوان المذكور ، ص 10 – 11 .
مكانة آمريء القيس الشعرية :
يعتبر آمرؤ القيس ( من شعراء الطبقة الأولى في العصر الجاهلي ، وهم زهير بن أبي سُلمى ، والنابغة الذبياني ، والأعمش ميمون ، وآمرؤ القيس ) أنظر نفس المصدر السابق والشارح للديوان ، ص 11 .
الأبيات الشعرية المنحولة والمنسوبة لإِمريء القيس :
إن هؤلاء لفرط ما هم عليه من الكيدية يتشبثون بكل شيء ، ولو كان هيّنا وآفتراء ، مثل تشبثهم بعدد من أبيات الشاعر الجاهلي لإمريء القيس ، أو غيره للإدّعاء بأن نبي الله محمد – عليه وآله الصلاة والسلام – قد آستلهم الآيات القرآنية منها ، أي عن أبيات آمريء القيس . ولايهمهم في ذلك صحة وسقم هذه الأبيات ، أو هل إن هذه الأبيات أصيلة أم أنها دخيلة ومنحولة نُسِبَتْ الى آمريء القيس ، أو هل أن هذه الأبيات ثابتة أو لا في مختلف الدواوين المطبوعة والمنشورة لإمريء القيس ، ولايهمهم كذلك تناقض المستوى الأسلوبي والشعري والعقدي كلية مع الأسلوب الشعري والعقدي المعروف لإمريء القيس !؟ . لايهمهم كل ذلك من معايير النقد وموازينه ، بل المهم ، لا بل الأهم عندهم هو الإدّعاء الفارغ واللغو وصناعة الشبهات وإلقاء المفتريات على عواهنها ، أي التشكيك بهدف التشكيك وليس لأجل الوصول الى الحقيقة ! .
ما نُسِبَ الى آمريء القيس من أبيات شعرية منتحلة ! :
[ يتمنّى المرءُ في الصيف – حتى اذا جاء الشتاء أنكره
فهو لايرضى بحال واحد – قُتِلَ الإنسان ما أكفره ] !
ونُسِبَ اليه أيضا :
[ إقتربت الساعة وآنشق القمر – من غزال صاد قلبي ونفر ] !
ومن المنسوب اليه كذلك :
[ اذا زُلْزِلَتِ الأرض زلزالها – وأخرجتِ الأرض أثقالها
تقوم الأنام على رسلها – ليوم الحساب ترى حالها
يحاسبها ملك عادل – فإما عليها وإما لها ] !
وما نسب اليه أيضا :
[ دنتِ الساعة وآنشق القمر – من غزال صاد قلبي ونفر
مر يوم العيد في زينة – فرماني فتعاطى فعقر
بسهم من لحاظ فاتك – فَرَّ عنّي كهشيم المُحتظر
واذا ماغاب عني ساعة – كانت الساعة أدهى وأمَرَّ ] !
وأخيرا ما نسب اليه كذلك :
[ أقبل والعُشّاق من خلفه – كأنّهم من كل حَدَبٍ ينسلون
وجاء يوم العيد في زينته – لمثل ذا فليعمل العاملون ] !
ثم قابلوها بما جاء في القرآن الكريم من آيات ، هي :
1-/ { قُتِلَ الإنسانُ ما أكفرهُ } عبس / 17
2-/ { إقتربت الساعة وآنشق القمر } القمر / 01
3-/ { اذا زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض أثقالها } الزلزلة / 01
4-/ { إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظِرْ } القمر / 31
5-/ { بَلِ الساعة أدهى وَأمَرّ } القمر / 46
6-/ { حتى اذا فُتِحَتْ يأجوجُ ومأجوجُ وهم من كلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ } الأنبياء / 96
7-/ { لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون } الصافّات / 61
مناقشة هذه الإنتحاليات وإثبات زيفها :
بدءً ينبغي القول بأن هذه الأبيات لا وجود أيَّ ذِكْر لهاٍ في ديوان آمريء القيس كله ، وبالاطلاق ، وعلى آختلاف طبعاته ونسخه ورواياته إذن ، لو صحّت نسبة هذه الأبيات المضطربة والمتهافتة الى آمريء القيس لأَتِيَ على ذِكْرها في ديوان واحد ، على الأقل من دواوينه المختلفة والمتعددة الطبعات والنسخ والروايات ، منها النسخ التي حققها ونشرها أئمة اللغة والأدب والنحو كأبي الحجاج يوسف بن سليمان الأندلسي المعروف ب( الشنتمري ) ، وأبو محمد عبدالله بن محمد بن السيد المعروف ب( البطليوسي ) ، وأبو الحسن علي بن عيسى المعروف ب( السكري ) وغيرهم من الأعلام ، حيث لايوجد مطلقا في نسخهم المنشورة أيَّ ذِكْرٍ لتلكم الأبيات الإنتحالية والشاذّة ! .
إضافة الى ذلك ، حتى الدراسات والبحوث التحقيقية والتاريخية المعاصرة التي آهتمت وآعتنت بميراث آمريء القيس : شعره وحياته وتاريخه وديوانه ، أو حتى ما نُسِبَ اليه لم تذكر أحدا منهم بأيِّ شكل من الأشكال شيئا من هذه الأبيات البيّنة الإنتحال والإفتعال ، منها : الدراسة القيمة والهامة والواسعة للأستاذ المحقق محمد أبو الفضل ابراهيم وشروح الأستاذ عبدالرحمن المصطاوي على ديوان آمريء القيس وغيرهم كثيرون ! .
الأبيات المنحولة المذكورة في ميزان النقد والتقييم ! :
لاشك فيه إن أيَّ شخص له إلمام صحيح وفصيح باللغة العربية ، ناهيك عن الباحث والناقد والمتخصص في الشعر والأدب العربي يتّضح له خلال قراءة أولية لتلكم الأبيات بأنها غريبة وشاذة ، وإن معالم الخلل والقصور والنقص بادية عليها ، وإنها بعيدة عن الأسلوب اللغوي والشعري المحكم لإمريء القيس ، فضلا عن تناقضها مع معتقداته .
فهذه الأبيات بائنة عليها الحداثة والتصنّع والتكلّف الشعري ، مع الركاكة في الأسلوب . لهذا فهي لاتشبه ولاتتشابه مع أشعار آمريء القيس ، ولنقارن الآن بعضا من أبيات الشعر لإمريء القيس مع الأبيات المنحولة المنسوبة اليه :
[ قد أشهد الغارة الشعواء تحملني – جرداء معروفة اللّحْيَيَنِ سُرْحُبُ
كأنَّ صاحبها ، إذ قام يُلْجمها – مَغْدٌ على بكرة زوراء ، منصوب ] أنظر المصدر السابق والشارح لديوان آمريء القيس ، ص 81
فالناظر المتأمل لهذه الأبيات لإمريء القيس يرى فيها بوضوح البناء الشعري القوي وتماسكه المحكم . وذلك بخلاف الأبيات المنحولة التي نقلناها ، وبخاصة حول مصطلح { الكفر } الذي أدْخِلَ مع العبارة في الشطر الرابع من البيت الثاني ، لأن مصطلح { الكفر } هو مصطلح ديني إستخدمه القرآن الكريم كثيرا في آياته ! .
وقد قرأت ديوان آمريء القيس كله بيتا فبيتا ، شعرا فشعرا فلم أعثر على لفظ { الكفر } من بين أبياته كلها ، وفي ديوانه الشعري كله مرة واحدة . لذا هل من المعقول أن آمريء القيس قد نطق بذاك المصطلح مرة واحدة فقط في أشعاره ! .
أما الأبيات الأخرى المنسوبة لإمريء القيس فإن إنتحاليتها هي أظهر من الشمس الساطعة في وضح النهار . وذلك لتناقضها مع بعضها من ناحية الشعر وشروطه ودلالاته ، وبخاصة على مستوى المصطلحات الدينية الواردة فيها ، فقوله :
[ إقتربت الساعة وآنشق القمر – من غزال صاد قلبي ونَفَرَ
مَرَّ يومُ العيد في زينة – فرماني فتعاطى فعقر
بسهم من لحاظ فاتك – فَرَّ عنّي كهشيم المحتظِر]
كما نلاحظ بوضوح حشو لفظ { الساعة } في البيت الأول ، مع آقتباس بَيِّن لكلمات أخرى من أول سورة القمر . لهذا فالإنتحال واضح عليه ، لأن مصطلح { الساعة } هو أحد المصطلحات القرآنية ليوم القيامة ، ثم إن الشطر الثاني من البيت المذكور يفضح السر، وهو قوله ( من غزال صاد قلبي ونفر ) ، والمراد هنا بالغزال هي فتاة ، أو إمرأة فاتنة الجمال كالغزال فصادت قلبه . عليه فإن الشطر الأول لايتواءم ولايتجانس أبدا من حيث المعنى الديني المقصود مع الشطر الغرامي العشقي الغزلي الثاني . وإن قال أحد ؛ ربما الشاعر يقصد بالساعة ساعة لقاء الغزال ، وإن كان كذلك فما هو المعنى من { إنشق القمر } !؟ . ومن جانب آخر ليس من معهود آمريء القيس في الشعر إستخدام مثل هذه المصطلحات في أشعاره أبدا .
ثم ما علاقة { الساعة } و{ آنشقاق القمر } بالغزال الذي صاد قلبه ؟ . ومن جهة أخرى إن المشركين العرب لم يكونوا يؤمنون بيوم القيامة ، وبالبعث والنشور . وقد سجّلَ القرآن الكريم عقيدتهم في ذلك ، فقال : { وضرب لنا مثلا ونَسِيَ خلقه قال : مَنْ يُحيي العظام وهي رميم ، قل : يحييها الذي أنشأها أول مرّة وهو بكل خلق عليم } يس / 78 – 79 . على هذا يتبين زيفية الأبيات المذكورة وإنتحاليتها الفاضحة . مع العلم إن العرب لم يشتهروا بأعياد خاصة إلاّ بعد ظهور الاسلام ، حيث جرى ومازال يجري الإحتفاء والإحتفال بين المسلمين بعيدي الفطر والأضحى المباركين . وبغض النظر عن ذلك فإن آمريء القيس لم يذكر مصطلح العيد حتى مرة واحدة في ديوانه المطبوع والمنشور بطبعات ونسخ مختلفة ! .
ثم يمضي الشعر المفتعل المنتحل بأنه في ( يوم العيد ) رماه الغزال بسهم ، والمقصود هنا هو سهم العين إذن ، فما هو المعنى والمغزى والفائدة أيضا في قوله ( فتعاطى فعقر ) وحشو تينك الكلمتين إلاّ أن تكون الإضافة إضافة أخرى في قباحة الأسلوب والصياغة والرداءة في المعنى والمغزى !؟ .
والسبب هو إن مصطلح { العقر } إن قُصِدَ به الذبح ، فهذا خطأ جسيم وفادح ، لأن { العقر ] هنا لايأتي في اللغة إلاّ في الناقة ، أو الخيل ، وإن قُصِدَ به المرأة العاقر ، فهذا أيضا مما يزيد الطين بِلّة . لكن المعنى المقصود في البيت هو الذبح ، وهذا خطأ كذلك كما قلنا ، لأن العرب لم تستخدم لفظ { العقر } للذبح العام للحيوانات كالماعز والخراف وما شابه ، بل هو مخصوص للناقة . يقول إبن منظور في قاموسه : [ عَقَرَ الناقة : يَعْقِرُها ويَعْقُرُها عَقْرَا وعَقَّرَا اذا فعل بها ذلك ، حتى تسقط فَنَحَرَهَا مستمكنا منها ] أنظر قاموس ( لسان العرب ) لؤلفه إبن منظور ، الحرف [ ع ] ، ج 10 ، 223 . فكيف إذن ، غابت هذه المعاني الأولية والبسيطة والعامة عن شاعر متمكن وفطحل كآمريء القيس وجهلها كل الجهل ، بحيث كان الرعاة العرب في الجزيرة العربية يومذاك يعرفون معاني تلكم المصطلحات والألفاظ ومدلولاتها ! ؟
لهذا فإن القرآن الكريم إستخدم مصطلح { العقر } بمعنى الذبح للنوق ، أو للنياق ، أو للمرأة العاقر فقط ، كما في قوله تعالى حيث تم آجتزاء لفظي { فتعاطى فعقر } من آية قرآنية وحشوهما في الشطر الثاني من البيت الإنتحالي المذكور ، يقول القرآن : { إنا مُرْسِلُوا الناقة فتنة لهم فآرتقبهم وآصطبر ونَبِّئهُمْ أنًّ الماءَ قسمة بينهم * كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَر* فنادَوا صاحبهم فتعاطى فَعَقَرَ } القمر / 27 – 29
يعني إن الله تعالى سوف يُخرج الناقة من الجبل ، أو من الصخرة العظيمة الصمّاء كما سألوا ذلك نبيهم صالحا عليه الصلاة والسلام كمعجزة له . والنقة كانت آختبارا لهم ، ثم على صالح النبي الترقّب والصبر والمصابرة على أذى قومه له ، مع إبلاغ قومه أن الماء الذي بالوادي ينبغي أن يتم تقسيمه بينهم بالتساوي ، حيث كل منهم يأخذ قسمته وما يحتاجه . لكن قوم صالح بالرغم من ذلك لم يؤمنوا فنادوا وناشدوا شَرَّ الناس عندهم { فتعاطى } ، أي إجترء على إقتراف الجريمة فأخذ السيف فعقر الناقة التي كانت تَدُرّ الحليب لهم ! .
ثم قوله تعالى ؛ { فعقروا الناقة وعَتَوّا عن أمر ربهم } الأعراف / 77 ، وفي قوله تعالى ؛ { فعقروها ... } ، أي نحروا الناقة ، هود / 65 .
وعليه فالإنتحالية تكشف مخازيها أكثر فأكثر ، وذلك بعد أن رُمِيَ بسهام ، كما في قوله ( فَرَّ عنّي كهشيم المحتظِر ) . وهذا مما لاجدى منه ولامعنى له بتاتا ، لأن الهشيم هو الحشيش اليابس ، أو إنه حشائش الحظائر المداسة بحوافر الأغنام وسائر الحيوانات فتهشّمت ، أو العظام النخرة البالية المتكسِّرة والمتفتِّتة تفتيتا ، يقول إبن منظور ؛ [ الهشيم : النبت اليابس المتكسِّر ...] أنظر قاموس (لسان العرب ) لمؤلفه إبن منظور ، الحرف [ هاء ] ، ج 15 ، ص 66
ثم ما وجه العلاقة بين الحشائش اليابسة المتفتتة ، وبين فراره ، هل أن أحد ما يَفِرُّ كالتبن اليابس المتفتت والمتهشم !؟ . وهذا إن دَلَّ على شيء فإنه يدل فقط على أقصى درجات الرداءة في التمثيل الشعري وأسلوبه وفنونه ، وأين هذه الرداءة والركاكة الصارخة في التمثيل والتشبيه من قوله تعالى ؛ { إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المُحْتَظِرْ } القمر / 31 ، أي بعد أن أتت قوم صالحا الصيحة المدويّة الكبرى ، حيث إنها صَخَّت آذانهم وقطعت أنفاسهم وأخمدت أبدانهم أصبحوا كالحشائش اليابسة الممزقة المفتتة المتهشمة تهشيما ، وهذا هو معنى الهشيم المحتظر ! .
أما قوله التالي في الأبيات الثلاثة الأخرى فهي أكثر وهنا وآضطرابا وفضحا من سابقاتها :
[ اذا زلزلت الأرض زلزالها – وأخرجت الأرض أثقالها
تقوم الأنام على رسلها – ليوم الحساب ترى حالها
يحاسبها ملك عادل – فإما عليها وإما لها ] !
لايمكن بأيِّ نحو من الأنحاء أن تصدر مثل هذه الأبيات عن آمريء القيس ، لأنها ليست من معهود شعره ، ولا هي من أفكاره وتصوراته العقدية ، لأنها تتناقض مع معتقداته بشكل خاص ، ومع معتقدات العرب في الجاهلية بشكل عام . وذلك لعدم إيمانهم بالبعث ولا بالنشور ولا بالحشر ولا بيوم القيامة ، مضافا الى ما ذُكِرَ من تفاصيل إخراج الأرض وطرحها لأثقالها وقيام الأنام ، أي الخلائق ، ثم حضور الأنبياء ، ثم حساب الله تعالى للخلائق أجمعين . إن هذه المعتقدات ليست من معتقدات وتصورات آمريء القيس ، وهي غريبة عنه ، مع خُلُوِّ ديوانه الشعري بالكامل منها ، ومن هذه التصورات والمعتقدات الايمانية ، أو على أقل تقدير لايوجد في ديوانه حتى تصورات متقاربة مع المعتقدات والتصورات الايمانية المذكورة ! .
وقوله :
[ أقبل والعُشَّاقُ من خلفه – كأنهم من كل حَدَبٍ يَنْسِلُونَ
وجاء يوم العيد في زينته – لمثل ذا فليعمل العاملون ] !
إن بداية الشطر الأول من هذا البيت المزعوم يفند جميع الأفكار والتصورات الواردة في الأبيات المزعومة والمنتحلة والمنتسبة الى آمريء القيس ، فالرجل ، كما قرأنا عنه في البداية كان من أهل الغزل والغرام والطرب واللذائذ والشهوات والخمر والسكر والعربدة ، أو الصيد والقنص في الصحاري والفلوات والسهول ، فلم يكن يشغل باله ولا فكره ولا أوقاته غير ذلك أبدا . ولذلك طرده أباه من البيت شَرَّ طردة ، حتى إن آعتقاد آمريءَ القيس بالموت هو آعتقاد غريب ، مثل قوله ؛
[ ولو أنّي هلكتُ بأرضِ قومي – لقلتُ الموتُ حقٌّ ، لاخُلُودا ] أنظر ( ديوان آمرؤ القيس ) إعتنى به وشرحه عبدالرحمن المصطاوي ، 89 . وهذا بالعكس تماما من آعتقاد الانسان المؤمن الذي يرى الموت حق في أيِّ أرض كان ، وفي أيِّ بلاد كان ! .
والذي يتوافق ويتجانس مع تصورات ومعتقدات آمريء القيس هو الآتي من أبياته ، وبقوله ، حيث موجزها هو انه حَلَّ ضيفا على بيت فخان الضيافة والبيت وأهله حينما تغازل مع زوجة المضيف وأراد ما أراد منها ، وهي بإمرة رجل آخر :
[ نظرتُ اليها والنجومُ كأنها – مصابيحُ رُهبانٍ تُشَبُ لقُفّال
سَمَوْتُ اليها بعد ما نامَ أهلُها – سُمُوَّ حَبَابِ الماءِ حالا على حال
فقالت: سَبَاكَ اللهُ ، إنّكَ فاضِحي - ألَسْتَ ترى السُمَّار والناسَ حولي
فقلتُ : يَمِيْنُ اللهِ أبْرَحُ قاعدا – ولو قَطَّعوا رأسي لديكِ وأوصالي
حَلَفْتُ لها باللهِ حِلْفَةَ فاجِرٍ – لَناموا فما إن من حديث ولا صال
فلما تنازعنا الحديث وأسْمَحَتْ – هَصَرْتُ بغُصن ذي شماريخَ مَيَّالِ
وَصِرْنا الى الحسنى وَرَقَّ كلامُنا – وَرُضْتُ فذَلّتْ صَعْبَةً أيَّ إذلال
فأصبحتُ معشوقا وأصبحَ بَعْلُها – عليه القَتَامُ سَيءَّ الظنِّ والبالِ ] والقتام هو غبار الذل الذي لحق وتعلّق بزوجة المضيف ، فتأمل !!! . أنظر المصدر السابق والشارح لديوان آمريء القيس ، ص 137 .
إذن ، هكذا كان آمريء القيس ، وهذه هي حقيقة أفكاره وسلوكياته وحياته ، ولو تقصّينا كل ذلك من الحالات والأفكار له لطال بنا الكلام جدا ، لكن حسبنا بما أشرنا اليه من الحال والمقال والكلام والمعتقد له ، ومن لسانه هو ! .
وفيما قلناه آنفا عن آمريء القيس من حيث معتقداته وتصوراته فإننا نستثني الحنفاء العرب يومذاك في الجزيرة العربية ، ولم يكن آمريء القيس منهم ! .
تأسيسا على ما ورد حتى الآن فقد آتضحت إفتعالية وإنتحالية الأبيات المذكورة كلها ، هذه الأبيات التي تمت نسبتها الى آمريء القيس ، وهو بريء منها كل البراءة . ذلك إن هذه الأبيات تنضح بحداثتها الزمنية ، أي إنها أحدثت وآنتحلت في حقب طويلة ما بعد ظهور وآنتشار الاسلام ، والراجح إن هذه الأشعار وأشباهها قد آنتحلت في أيام الحجاج الثقفي من العصر الأموي ، أو خلال العصر العباسي . لهذا حدا بالدكتور طه حسين الى تكذيب ودحض هذه الأشعار في كتابه [ في الشعر الجاهلي ] .
وإن كان آمريء القيس يعتقد بهذه المعتقدات ويؤمن بها لذكرها في شعر واحد ، أو في بيت واحد فقط من أبياته وأشعاره الكثيرة ، إذ لا يوجد شيء من هذا القبيل وحسب ، بل يوجد ما يتناقض مع تلكم التوجهات والتصورات التي تم لصقها بآمريء القيس لصقا ! .
التناقض الكبير بين المصطلحات القرآنية وبين مصطلحات آمريء القيس :
هناك بون شاسع وإختلاف كبير جدا لايمكن قياسه بين المصطلحات والمواضيع والقضايا والشؤون التي آستخدمها القرآن الكريم في آياته الحكيمات المحكمات ، وبين القضايا والمصطلحات التي آستخدمها آمريءَ القيس في أشعاره كلها . وبحسب إستقرائي لديوان آمريء القيس يوجد فيه المئات من المصطلحات التي تتناقض مع المصطلحات القرآنية ، أو أن القرآن لم يستخدم تلك المصطلحات والألفاظ إطلاقا ، وعلى سبيل المثال فقط أورد المقارنة التالية بين المصطلحات والمفردات والألفاظ التي آستخدمها آمريء القيس وخلافها من المصطلحات والمفردات والألفاظ القرآنية ، حيث المقارنة تبيّن مدى البون الشاسع جدا بينهما :
مصطلحات امريء القيس معانيها حيث هي لشارح ديوانه المصطلحات القرآنية
________________ _________________ _________
1-/ النّصيف ، المِعْقَب الخِمَار الخِمار
2-/ الأسحم الأسود الأسود
3-/ البَكْرَة ، العنَنْس ، القُلَص الناقة الناقة
4-/ الجَذِم السريع السريع
5-/ الزِيَمْ المكتنز المكتنز / الإكتناز
6-/ التّهام الحزن الحزن
7-/ السّبَرَات الغدوات الغدوات
8-/ المُسْنَد الدهر الدهر
9-/ العدِف الأكل الأكل
10-/ الأتِيِّ السيل السيل
11-/ الزيوف الدراهم الدراهم
12-/ السرحان الذئب الذئب
13-/ السُرْعُوفة الجراد الجراد
14-/ الماوية المرأة المرأة
15-/ الجَلْعَد القوي القوي
هكذا توضّح من خلال هذه المقارنة الأولية والشديدة الإيجاز مدى التفاوت اللفظي والفرق المفرداتي والنقيض المصطلحي بين ماآستخدمه آمرؤ القيس والقرآن الكريم ، ولولا خشية الإطالة لأوردت المئات من المصطلحات الفرقية والاختلافية بينهما . وهذا يبين مدى شقة الخِلاف الهائلة بين الألفاظ التي إستخدمها امريءَ القيس ، وبين الألفاظ التي استخدمها القرآن الكريم ، حيث تُثبتُ الإستقلالية القرآنية في المصطلحات والألفاظ والمعاني والمقاصد والأهداف والتصورات والتوجهات والتعاليم وغيرها عن آمريء القيس وأمثاله أيّاً كانوا ! . 
Share |