الرسول محمد (ص) بين حجة الوداع وغدير خم/رحيم حبيب الطائي
Fri, 2 Nov 2012 الساعة : 12:48

مبحث اخذ من رسالة الماجستير :
( الإبعاد الاجتماعية للسيرة النبوية في العهدين المكي والمدني ) والمقدمة الى الجامعة العالمية للعلوم الإسلامية ، لندن
--------------------------
بعد ان تم القضاء على منابع الشرك في شبه جزيرة العرب وكان لفتح مكة اكبر الأثر في ذلك و التي أصبحت فيما بعد تحت الحكم الإسلامي، بانت علامات الرحيل للرسول (ص) في السنة العاشرة للهجرة، وأوضح ذلك الى السيدة فاطمة الزهراء(ع) فقال لها : (( ان جبريل عليه السلام كان يعارضني بالقران في العام مرة وانه عارضني به العام مرتين ولا اراه الا قد حضر اجلي ...)
ايقن النبي (ص) بدنو اجله وانه راحل عن هذه الدنيا الى الرفيق الأعلى ، لهذا كان من الواجب ان يحج بيت الله الحرام ويوضح بعض المعالم العامة للشريعة الإسلامية والتي تعد الركيزة الأساسية لقيام المجتمع الإسلامي واستمراريته على المسير نحو الأهداف التي رسمها له (ص) خلال سني دعوته في العهدين المكي والمدني.
ولما دخل شهر ذو القعدة تجهز النبي (ص) لحج بيت الله الحرام ، وامر الناس بالجهاز له ، وكان عددهم مائة وعشرون الفا وقيل أكثر أو اقل من ذلك ، فخرج النبي من المدينة قاصدا بيت الله ودخل مكة نهارا واستقر فيها يزاول مناسك الحج.
فبعد ان رمى جمرة العقبة وقف عند زمزم ، خطب في الناس واشار في مطلع خطبته بعد ان امر ربيعة بن امية بن خلف بأن يقول ما يقوله (ص) ويسمعه الى الناس ،الى المضامين الآتية:
1- دنو اجله (ص) وانه لا يلاقهم بعد هذا العام ،) ( اني لا ادري لعلي لا القاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف ابدا))
2- حرمة دم ومال المسلم على أخيه المسلم، (( فان الله حرم عليكم دمائكم وأموالكم كحرمة بلدكم هذا وكحرمة شهركم هذا وكحرمة يومكم هذا))
3-عدم ظلم الناس وبخس أشيائهم والإفساد في الأرض وأوصاهم بأداء الأمانة (( اتقوا الله ولا تبخسوا الناس أشياءهم ... ))
4-أكد النبي (ص) ان المعيار الأساس لتقييم الآخرين هو التقوى وليس التمييز العنصري الذي يستند على القرابة والنسب (( ان الناس في الإسلام سواء ... لا فضل لعربي على اعجمي ولا اعجمي على عربي الا بالتقوى... ))
5- هدم بعض عادات الجاهلية التي كانت سائدة ومنها طلب الثأر والربا والنسئ ، وابتدأ بذلك بقرابته ،(( واول دم أضعه دم ادم بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب))
اما الربا فقال (ص) : (( واول ربا اضعه تحت قدمي ربا العباس بن عبد المطلب))
6- استوصى الرسول(ص) بالنساء خيرا فبين مالهن من حقوق بذمة ازواجهن وما عليهن من واجبات لأزواجهن، وبين المراتب التي يستخدمها الرجل حين يتم النشوز من زوجته، واتم هذه الفقرة بما ملكت اليمين من العبيد والإماء فقال(ص) :(( فأطعموهم مما تأكلون والبسوهم مما تلبسون...))
7- بين الاسباب التي من اجلها يقاتل الناس فقال (ص) : (( اني امرت ان اقاتل الناس حتى يقولوا لا اله الا الله واني رسول الله...))
8- حذر النبي (ص) من الرجوع من بعده كفارا واشار اليهم الى السبيل الذي يحول بعدم وقوع الكفر هو التمسك بالقران الكريم والعترة من اهل بيته فقال (ص): (اني قد خلفت فيكم ما ان تمسكتم به لن تظلوا : كتاب الله وعترتي اهل بيتي ...)
وكان (ص) يختم كل فقرة من خطبه بقوله: (( الا هل بلغت)) فيأتي الجواب من المسلمين بنعم.
واورد الطبري في تاريخه نفس المضمون لهذه الخطبة ، لكنه تصرف في ذيل المروية بقوله: (( وتركت فيكم ما ان اعتصمتم به فلن تظلوا ابدا، كتاب الله وسنة نبيه)) ، فقام بإبدال العترة بالسنة - وربما غيره- وهذا امر قد عهدناه منه كما هي عادته في حديث الدار !.
مع العلم ان الصحيح هو ما نقله اليعقوبي في تاريخه: (( كتاب الله وعترتي اهل بيتي)) ويشهد بذلك من روى هذا الحديث من كتـّاب التاريخ والحديث، وان كان هناك اختلاف في بعض الفاظه الا ان محصلته بكافة طرقه مفادها
ان الرسول (ص) اوصى بالتمسك بالكتاب والعترة من اهل بيته .
ويلاحظ ان الرسول(ص ) من خلال حجة الوداع تطرق الى اشياء سبق وان عالجها، بل القسم منها نزل فيها قرآن كريم، لكنه أشار إلى مسالة في غاية الأهمية وهي وجوب التمسك بالكتاب والعترة من اهل بيته ، لانهما يقفان حاجزا عن قانون الضلال كما هو الظاهر من دلالة الحديث الشريف : ((ما ان تمسكتم به لن تظلوا: كتاب الله وعترتي اهل بيتي...) ،بل نلاحظ ان الحديث جاء في بعض مروياته كما نقل ذلك الترمذي واحمد بن حنبل واللفظ للأول ، قال بسند عن زيد بن أرقم قال النبي (ص) : (( اني تارك فيكم ما ان تمسكتم به لن تظلوا بعدي، احدهما اعظم من الأخر كتاب الله حبل ممدود بين السماء والأرض ، وعترتي اهل بيتي ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما))
ويفاد من الحديث الشريف :
1- يدل الحديث على عصمة القران الكريم وهذا لا يختلف فيه احد ، وكذلك عصمة العترة لان النبي (ص) في متن الحديث ارجع الأمة الإسلامية في البعد عن الضلال والنجاة من الهلاك اليهما معا ، وهذا المعنى واضح عندما جعل الرسول (ص) العترة عدلا للقرآن، فكما ان القران معصوم (( لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ )) ، كذلك العترة وإلا لا يصح ان يجعلهم في منزلة واحدة كما هو الظاهر من متن الحديث .
2- اشار الحديث الشريف الى أعلمية العترة من غيرهم وذلك لاقترانهم بالقرآن الكريم وإرجاع الأمة اليهم، فلو كان في الامة اعلم من العترة لكان من القبح الرجوع اليهم .
3- ان الزمان بعد وفاة الرسول (ص) لا يخلو من فرد من هؤلاء العترة وانهم باقون مع القرآن الكريم ولا يفترقان حتى يردا الحوض ، واشار الى المعنى الأنف ابن حجر في الصواعق المحرقة قال :((وفي احاديث الحث على التمسك باهل البيت اشارة على عدم انقطاع متأصل منهم للتمسك به الى يوم القيامة كما ان الكتاب العزيز كذلك ولهذا كانوا اماناً لأهل الأرض)) وهذا يوافق ما اشرنا اليه سابقا في حديث الخلفاء من بعدي اثنا عشر ، وهو ايضا موافق لنظرية الشيعة الأمامية الاثنا عشرية بأن الارض لا تخلو من حجة .
وعلى أية حال ان الرسول(ص) ختم خطبته في حجة الوداع بإشارته الى صمام الامان الذي من خلاله يتم به حفظ المجتمع الإسلامي من الانحدار في مهاوي الضلال ، ولم تكن هذه المناسبة الوحيدة التي أشار فيها النبي(ص) بحديث الثقلين ، بل هناك عدة مناسبات اشار فيها الى ذلك ومنها حادثة يوم الغدير كما سيأتي .
ولما انهى رسول الله(ص) مناسك الحج قفل راجعا الى المدينة، فبينما هو على مفترق طرق يقال له غدير خم ، لثمان عشرة ليلة خلت من ذي الحجة ، نزل جبريل بأمر مهم ومشوب بالتهديد الى النبي (ص) من قبل الله تعالى : (( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)) .
وذكر احد المفسرين بصدد الآية الكريمة ان:(( اسلوب هذه الآية ولحنها الخاص وتكرار توكيدها وكذلك ابتدائها بمخاطبة الرسول(ص) " يا أيها الرسول..." التي لم ترد في القرآن الكريم سوى مرتين، وتهديده بأن عدم تبليغ هذه الرسالة الخاصة انما هو تقصير- وهذا لم يرد الا في هذه الاية وحدها - كل ذلك يدل على ان الكلام يدور حول امر مهم، حيث ان عدم تبليغه يعتبر عدم تبليغ للرسالة كلها )) .
قوله بأن التهديد لم يرد بهذا الشكل للرسول (ص) في القرآن صحيح، لكنه في كتب الحديث والتاريخ ورد التهديد في الحديث القدسي كما جاء ذلك على لسان جبرائيل (ع) يوم حديث الدار بقوله: (( يا محمد انك الا تفعل ما تؤمر به يعذبك ربك))
وبضميمة السبب الذي من اجله قال جبرائيل(ع) العبارة الأنفة ، وهو دعوة الأقربين للإسلام وحضور مراسيم تنصيب من يخلف النبي (ص) في الوسط الخاص الى سبب نزول الآية- والذي سيأتي لاحقا- ان الأمر ناظر الى قضية واحدة كان من اجلها هذا التهديد ، وهو تنصيب من يخلف النبي(ص) في مهامه كافة .
ذكر الواحدي في أسباب نزول الآيات بسنده عن ابي سعيد الخدري قال: (( نزلت هذه الآية - يا أيها الرسول بلغ ما انزل اليك من ربك- يوم غدير خم في علي بن ابي طالب "رض" )) .
فبعد ان صلى رسول الله(ص) صلاة الظهر جماعة في حر الهجير بغدير خم ، وقف في وسط القوم على اقتاب الإبل وخطب فيهم بعد ان حمد الله واثنى عليه، واخبرهم بدنو اجله واقرهم على التوحيد والنبوة والجنة والنار والساعة والموت ، وان الله يبعث من في القبور ... ثم قال :(( ايها الناس الا تسمعون ؟ قالوا : نعم . قال : فأني فرط على الحوض وانتم واردون علي الحوض، ... فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين فنادى مناد : وما الثقلان يا رسول الله؟ قال : الثقل الاكبر كتاب الله طرف بيد الله عز وجل ، وطرف بأيديكم ، تمسكوا به ولا تظلوا والأخر الاصغر عترتي ، وان اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض فسألت ذلك لهما ربي فلا تقدموهما فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا ، ثم اخذ بيد علي(ع) فرفعها حتى رؤي بياض آباطهما وعرفه القوم اجمعون ، فقال: ايها الناس من اولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم ؟ قالوا : الله ورسوله اعلم ، قال : ان الله مولاي وانا مولى المؤمنين وانا اولى بهم من انفسهم ، فمن كنت مولاه فعلي مولاه ، يقولها ثلاث مرات وفي لفظ احمد امام الحنابلة : اربع مرات ، ثم قال : اللهم وال من والاه وعاد من عاداه واحب من احبه وابغض من ابغضه وانصر من نصره واخذل من خذله وادر الحق معه حيث دار ، الا فليبلغ الشاهد الغائب)) .
ثم لم يتفرقوا حتى نزل امين وحي الله بقوله: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا )) .
وقال رسول الله (ص) : (( الله اكبر على اكمال الدين واتمام النعمة ورضى الرب برسالتي والولاية لعلي من بعدي ، ثم طفق القوم يهنئون امير المؤمنين (ع) وممن هنأه في مقدم الصحابة الشيخان ابو بكر وعمر كل بقوله : بخ بخ يا ابن ابي طالب اصبحت وأمسيت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة ، وقال ابن عباس : وجبت والله في اعناق القوم ))
ويعد حديث الغدير من الاحاديث المتواترة عند المسلمين، فقد رواه الصحابة والتابعين وعلماء الحديث في كل قرن بصورة متواترة.
ذكر صاحب الغدير ان عدد الصحابة الذي تم روايتهم للحديث بلغ (110) صحابي ومن التابعين(98) ومن العلماء والمحدثين(3500) ، وفي ضوء هذا التواتر لا يبقى أي مجال للشك في صحة الحديث.
واتماما لما قدمنا من إفادة في حديث الثقلين نستنتج من حديث الغدير:
1- يلاحظ ان النبي (ص) بعد ان اخذ الإقرار من الجموع المجتمعة حوله بالتوحيد والنبوة والمعاد أشهدهم على أنفسهم بأنه (ص) اولى بهم من أنفسهم ، ثم فرع على ذلك بقوله: من كنت مولاه فعلي مولاه فأثبت(ص) ماله من الولاية على الناس لعلي بن ابي طالب(ع) ، وعليه ان مهام النبي(ص) بعد وفاته ستكون لعلي (ع) ، ولعل الحديث المشهور الذي أوسمه الرسول(ص) لعلي (ع)عند غزوة تبوك ناظر الى المعنى نفسه، قال رسول الله(ص) : (( الا ترضى ان تكون مني بمنزلة هارون من موسى الا انه لا نبي بعدي))
2- يفاد من قوله:(( فلا تقدموهما فتهلكوا ولا تقصروا عنهما فتهلكوا) ، وفي لفظ الطبراني أضاف: ( ولا تعلموهم فأنهم اعلم منكم) ، ان تأهل المناصب الدينية والدنيوية من قبل غيرهم بوجود العترة ( علي وأولاده من بعده) هو الهلاك والضلال بعينه، وقد أشار ابن حجر في الصواعق بعد ان أورد مقولة الرسول(ص) ، قال: (( دليل على حق تأهل منهم للمراتب العلية والوظائف الدينية كان مقدما على غيره))
وبهذا التبليغ من الرسول(ص) في غدير خم أوضح السبيل والطريق التي تسير فيه الأمة الإسلامية، نحو الكمال عن طريق تمسكها بالقران الكريم والعترة من أهل بيته وعلى رأسهم الإمام علي بن ابي طالب(ع) .
ولعل الاحاديث التي رواها كلا الفريقين عن النبي (ص) ، والتي تشبههم بسفينة نوح تارة ومرة بباب حطة .ناظرة الى المعنى نفسه الذي أشار اليه الرسول (ص) في حديث الغدير وكل ذلك كان حرصا من قبله (ص) لحماية المجتمع الإسلامي من السقوط في مهاوي الضلال