الاحزاب الاسلاميه والربيع العربي/عبدالمناف عبدالعظيم الوائلي

Sat, 20 Oct 2012 الساعة : 1:14

 

في الوقت الذي أخذت عبارات الارتياح والطمأنينة تجتاح جسد الشارع العربي بوصول الأحزاب الإسلامية إلى سدة الحكم، أصبح ينظر إلى معضلات الأنظمة السياسية العربية والدولة المدنية ومستقبل الأقليات، وكأنها معضلات بسيطة يمكن حلها بسرعة، غير مدركين أن المجتمع العربي يعاني من إشكاليات ومعضلات لازمت التاريخ العربي، الأمر الذي يلزمه عملية تشريح فكري سلوكي بين الماضي والحاضر لقراءة المستقبل.
صناديق الاقتراع والوجه الحقيقي لتفسير الحال العربية
ما أن تربع الإسلاميون على قاعدة أفرزتها صناديق الاقتراع، حتى بدأت التكهنات وسط العديد من التداعيات على مستقبل الأقليات ومدى اندماجها ضمن الإطار المستقبلي للحقبة الإسلامية القادمة، وكذلك التداعيات المستقبلية لشكل الأنظمة السياسية ومستقبل الدولة المدنية.
وسط تلك التأملات والتأويلات فإن المرآة التي لا يستطاع من خلالها رؤية الوجه الحقيقي لتفسير الحال العربية، إلا من خلال صناديق الاقتراع، إنما هي صورة مخيالية لقراءة الواقع لتكون حكماً علينا، ونحن نعرف أن الحال العربية متخمة بكثير من الإشكاليات وصراع الأضداد، وتحتاج إلى قراءة واقعية وعقلانية ونقدية تاريخية، تتناسب مع وضعية المجتمع المنوي معالجته، وليس الاكتفاء بصندوق تُعَلقُ عليه الآمال، وفق تقمص إيديولوجي يصبغ القراءة بالطائفية والحزبية والقبلية، وتهميش الأضعف (عددياً أو أيديولوجيا) أمام الغالبية الانتخابية.
فإشكالياتنا لا يمكن معالجتها بما تفرزه تلك الصناديق وفق نظريات لا تراعي وضعيتنا العربية، فأهل مكة أدرى بشعابها، وعلينا أن نعرف أن الغرب حينما كان يعالج مشكلاته الداخلية، كان في الوقت حينه يصدرها للبلاد المنوي استعمارها، أما نحن العرب فكنا دائما ومازلنا في موقف المدافع، ما بين الكراهية والإعجاب بالـ«آخر».
فالمعضلة العربية ليست كالتعريفات الرياضية، والطبية، والهندسية المستوردة، وليس من الفطنة تعريفها بالانسلاخ عن الواقع والاكتفاء بـ - صندوق انتخابي يفرز أحزاباً تقف منبهرة أمام انهيار مفهوم الدولة والذات العربية والثقافة السياسية-، بل نقدها بعيداً عن المثالية التي تعتبر الوطن العربي خال من المعضلات بوصول الإسلاميين، فالمنظور الأميركي (مثلاً) المبني على تعريفات هنتنغتون وفوكوياما تجاه العالم العربي، أخطأ مساره التاريخي بإغفاله عامل التراكم الديمقراطي للحال الأميركية، وتوهم أن مفهوم الديمقراطية عصاً سحرية يمكن تطبيقها في أي مجتمع، بعيداً عن المنظور التاريخي الخاص بالمجتمعات.
وصول الإسلاميين إلى السلطة بين حيرة السؤال وثقافة المجتمع
دار بيني وبين مجموعة من أصحاب الفكر اليساري على موقع الحوار المتمدن الالكتروني حديث تتأدلج عليه “لغة الضاد وصراع الأضداد” ما بين سنديان الإجابة ومطرقة السؤال، ولسان حالهم يقول: “رغم المشاركة الفعّالة للقوى اليسارية والتقدمية في الثورات الأخيرة في عدد من الدول العربية في منطقة الشرق الأوسط والعالم التي هزت الرأي العام العربي، وغيرت الكثير من الرؤية النمطية لشعوب هذه البلدان، وقادت إلى تغيير الكثير من حكوماتها، إلاّ أن النتائج التي أفرزتها هذهِ الثورات إلى الآن صبّت إلى مصلحة قوى الإسلام السياسي وحركتها في الشارع العربي”.
وعلى الرغم من تلك الإجابة، إلا أنهم وكما رأيتهم متفائلين؛ لأنه أصبح في مقدور القوى اليسارية والشيوعية والديمقراطية أن تمارس اليوم عملها بشكل علني وفي ظروف هي أفضل عموماً مما كانت عليه من قبل.
أمام هذا الحديث، وأمام هذا التفاؤل أيقنت على الفور ما يدور في مخيلة اليساريين الجالسين الذين طرحوا السؤال ولسان حالهم ثانية يقول: “ربما يُحتم على هذهِ القوى موازنة حركتها وإعادة تقييمها ومواكبة التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والإعلامية الجارية في الساحة وجعلها تصب في خدمة التحرر والعدالة الاجتماعية والمساواة والثقافة المدنية العصرية وبناء المجتمع المدني الديمقراطي الحديث، وتطوير برامجها وخطابها السياسي وأساليب نضالها بما يتناسب والوضع السياسي الذي أفرزتهُ هذهِ الثورات، والاستفادة قدر الإمكان من التطور العلمي والمعرفي والطاقات الشابة والنسائية التي ساهمت بشكل مباشر في إسقاط الأنظمة العربية، ولكن! هل هذا يتلاءم وثقافة المجتمع العربي؟ ”.
في حقيقة الأمر لا نستطيع استثناء أي دور جماهيري ضمن التحركات التي شهدتها المنطقة العربية، إلا أن المدى الذي تنحصر به تلك المشاركة ينعكس على أرض الواقع حسب الثقافة التي تتجذر في أوساط المجتمع العربي، فعلى سبيل المثال تونس والمغرب ومصر وما أفرزته الانتخابات بفوز الأحزاب الإسلامية، دليل على أن الثقافة عامل يؤدلج السلوك.
ما يعني، أن للمجتمع العربي خصوصية لا يستطيع أي احد من تجاوزها، فالثقافة المشتركة، والتاريخ المشترك، والمصير المشترك، وخصوصاً عنصر الدين، هي عناصر ومحددات تجتمع ضمن الإطار الثقافي للخلطة العربية.
الأنظمة السياسية ومستقبل الدولة المدنية
قبل الحديث عن الأنظمة السياسية ومستقبل الدولة المدنية، يجب معرفة الماضي وقراءة معضلة الحاضر لاستشراف المستقبل، في الوقت الذي يجب فيه طرح أسئلة كثيرة تجلّت في الساحة السياسية العربية منذ القدم؛ لتشريح الماضي وطرحه حاضراً للوصول إلى المستقبل، ابتداءً من اجتماع سقيفة بني ساعدة، في ظل عدم وجود نظام سياسي يحدد طبيعة الحكم، والتدرج في جمود الفكر «السياسي» العربي، وعودة القبلية العصبية، والتناحر على السلطة، وسياسة التوريث.
* الاستيلاء على السلطة معضلة قديمة
أسئلة كثيرة أمام أحداث مصيرية عديدة، أدت إلى استمرار التأزم السياسي العربي، مروراً بموقعة الجمل وصفين وتبعاتهما، وتغيرات الحكم، التي انتهجها معاوية بتولية ابنه يزيد بالقوة، مجسداً في ذلك حكماً أموياً، يليه انتقام عباسي مسيطر على سدة الحكم، وتبع ذلك صراع سياسي ما بين البداوة العربية والبداوة الآسيوية، أدى إلى انقسام الدولة العباسية، وسقوط السلطة المركزية، ثم احتضارها، الذي أوقع المجتمع العربي في الضياع وسط تعدد القوميات، والإثنيات، ما جعل من المنطقة العربية لوحة فسيفسائية سريالية عصيّة على الحل.
وسط هذا الزحام للاستيلاء على السلطة، كان الفرد العربي مغيبا عن خوض الحراك السياسي، بسبب صنمية الحكم التقليدي، والقرارات الإقصائية، وغياب التنشئة والثقافة السياسية، ليتبلور في ذلك مفهوم سياسي مبني على تداول الدولة وليس السلطة.
* فترة الخلافة العربية وانتهاجها طريق التوريث
إن فترة الخلافة العربية وما شابها من إرهاصات، لم تستطع أن توظف عامل القومية كعامل اتصال ما بين الحاكم والمجتمع لبلورة ثقافة سياسية، بل تم إقصاء الرابطة القومية لمصلحة الرابطة الدينية، من دون أن تمر في عملية الصهر والمزج، حتى أخذ المجتمع بالانزواء تحت راية القبيلة والعشيرة؛ لأن فترة تلك الحقبة ركزت على الحروب والفتوحات، فكيف يتم صهر المجتمعات غير العربية في المجتمع العربي، في الوقت الذي لم يستطع فيه صهر القومية العربية (عربياً) بين الحاكم والمحكوم من أجل إنشاء وصياغة رابطة الانتماء الطوعي؟.. إلى أن جاءت فترة التنوير العباسية المتأثرة بالفكر اليوناني والفارسي، فلم تجد طريقاً للنجاح؛ لأن عملية الصهر الداخلي ما بين «القومية والرابطة الدينية» لم تتم، وكذلك هناك الكثير من الإرهاصات الفكرية، والثورية، الأمر الذي أدى إلى بزوغ الدويلات، وسيطرة البداوة الآسيوية لأكثر من ألف عام، إلى أن بدا واضحاً مرض تلك البداوة وظهور الدولة القطرية.
* لغة المشاركة السياسية
هكذا هي الساحة العربية، جمود في الفكر السياسي، وحقبة طويلة أدت إلى تغييب الفرد العربي عن معترك السياسة، بدل لغة المشاركة السياسية، ما جعل من هذا الفرد يتمرد على كل السلطات الآنية، لينادي باسم القومية العربية وأحيائها، لبناء دولة عربية تحمل في حناياها وحدة العرب التكوينية، وهو الشيء عينه الذي جعل من الإسلاميين (السلفيين) ينادون بإرجاع الخلافة الإسلامية إلى أصحابها العرب، فدخلت المنطقة العربية في صراع الضد بين الفكر القومي والفكر السلفي وسط الاتهام والإقصاء.
* خطاب ديماغوجي
ومع انهيار السلطنة العثمانية وقدوم الاستعمار، تناست الحركات القومية والإسلامية «السلفية» وجوب التحرر من ثقافة الإرهاصات الماضية، فالحلول المستقبلية تستوجب علاجاً داخلياً وجوهرياً، وكما قال هشام شرابي: «يجب إحداث ثورة داخل الثورة»، من دون الاندفاع الى طريق مجهول لا يحمل الا المناكفة.
اندفعت تلك الحركات لتدخل معترك المجال السياسي وفق خطاب ديماغوجي، ودون الاهتمام بالمجالات الاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية، لتبقى المنطقة العربية في مخاض صعب لبناء تلك المجالات، ذلك لأن من أساسيات المجال السياسي وجود مجال اجتماعي تصاحبه مسؤولية فردية مبنية على الواجب، وان تحقيق المجال الاقتصادي، والمجال الاجتماعي من ضمن المجال السياسي (التحرري) يتطلب إطلاق الحريات، التي تمثل «المصلحة» بين الأفراد.
* النظرية والتطبيق
يتبين أن الحركات الإصلاحية ما بين النظرية والتطبيق، لم تراعِ أن المجال الثقافي هو مجال يؤدلج المجال السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، يؤثر ويتأثر بها من خلال إنتاجها الفكري (ينتجها ويمنتجها)، لأن جميع المجالات الحياتية، تتجلى في الإطار الثقافي لبيئة المجتمعات.
حاولت الدولة القطرية أن تلبس نفسها ثوب التحديث، من خلال نماذج عدة مستوردة، كالاشتراكية، والجمهورية، والرأسمالية، لكنها فشلت في استثمار تلك النماذج؛ لأنها لم تنبع من ذاتية وخصوصية المنطقة العربية، وبذورها لا تتلاءم مع التربة العربية، فكان من الواجب تبيئة تلك النماذج لتتمازج وتتلاءم مع البيئة العربية، ولكن.. أليس هذا ناتجاً عن تراكم زمني سببه أن الفرد العربي لم يتعود فيه على نظام سياسي واضح لتداول السلطة، بل على نظام إقصائي، وفق مفهوم التداول، وليس ثبوت الدولة، غير متناسين في الوقت عينه، أن الحكم القبلي العربي أقصي عن السلطة والحكم لمدة ألف عام خلال فترة حكم البداوة الآسيوية؟!
الحراك العربي بين تقوية الذات وترسيخ الوعي العربي
إننا، كإطار عربي، نسينا مصطلح "التغيير والتحول الاجتماعي" والثورة على البنية السياسية البطريركية القهرية الإقصائية التي تسكن عقولنا، ولم نعرف حتى اللحظة أن التفوق على الآخر لن يكون إلا من خلال تقوية الذات وترهلاتها الاقتصادية والاجتماعية وخصوصاً الثقافية.
وكذلك نسينا مصطلح التقارب والاندماج الثقافي بين مشرق الوطن العربي ومغربه، واستبدلناه بمصطلح المخيال الثقافي، كل يتوجس من الآخر، في الوقت الذي أصبحنا نعرف ثقافة المجتمعات الأخرى بدل معرفتنا بثقافتنا نحن، والأخطر من ذلك إهمالنا مصطلح الثقافة السياسية وترسيخ الوعي العربي.
صحيح أن أمة الضاد تنتمي ضمن الإطار النظري لعناصر القومية العربية، إلا أن إطارها التطبيقي يفتقد الثقافة المشتركة ويحاول الالتفاف على التاريخ والمصير المشترك، ووأد اللغة العربية تحت مسميات جلد الذات والفئوية والطائفية والقبلية، أو كما شئتم أطلقوا عليها من المسميات.
فنحن حتى اللحظة لا نجد صياغة واضحة لتعريف الذات العربية والدولة المدنية، فإذا نقدنا، جاء النقد قياساً بالمجتمعات الأخرى، وإذا أردنا إصلاحها جاء تقليدياً وبعيداً عن التجربة الزمانية التي خاضتها المجتمعات المتقدمة عبر حقبها التاريخية.
المهم من ذلك المقدرة على إنشاء ثقافة سياسية وتعاقدية يُفَسَّرُ من خلالها أن الدولة ليست "القبيلة أو الطائفة" أو "الحزب والشخصانية"، وسقوط تلك المصطلحات لا يعني سقوط الدولة، والتداول هو للسلطة فقط، مع الابتعاد عن توظيف المصطلحات دون مراعاة حدودها الزمانية والمكانية.
الكثير منا يفسر "بخلفياته التاريخية والتحليلية والبنائية" أن الديمقراطية هي الدواء الشافي لمعضلاتنا الحياتية، غير مدركين في الوقت حينه، أن هذا المصطلح القادم من خارج الفضاء العربي، لن يكون دواء شافياً لالتئام الجراح النازفة من الديكتاتورية العربية الفردية، بل إنه سيتحول إلى دكتاتورية أخرى باسم الأغلبية، إن لم يكن هناك اتفاق شعبي لخلق واقع جديد، مع العلم أن ذلك الواقع يجب أن يمر خلال ممرات تكاملية تكسب الفرد العربي لغة المواطنة، حيث لا نستطيع الانسلاخ هكذا عن المعضلات التي صاحبت التاريخ العربي.
إن الديمقراطية مثل الجنين، تحتاج إلى حاضنة لتكتمل مراحل نموها، لكي لا تكون مشوهة وعالة على المجتمع، فهذا المصطلح يجب أن يمر خلال مراحله الفكرية لخلق موروث ديمقراطي تشترك فيه كل شرائح المجتمع.
صحيح أن سطوة الحاكم العربي سقطت من على مصطلح الخوف وأحكام الطوارئ، لكن جسم الضاد عصي على إسقاط القبلية، والشخصانية، والطائفية، والديماغوجية الحزبية من عقليته التي تترنح ما بين الماضي والاستغراب، لا سيما وأن هذا الجسم ينتقي قشور المصطلحات بعيداً عن جوهرها السلوكي.
هنا لا بد أن نتذكر مقولة أحد الحكماء "إن الثورة مثل الفتاة الجميلة، لا نعرف أخطاءها وإيجابياتها إلا بعد الزواج منها"، وكذلك نتذكر قول المفكر الفلسطيني هشام شرابي "يجب إحداث ثورة داخل الثورة"، لكي لا يفسر مفهوم الثورة في غير موضعه، فيكون مفعولاً به، بعيداً عن الفاعل، إضافة إلى ما قاله الكاتب والباحث محمود عبد الفضيل "إن العرب لا يستطيعون اتخاذ قرار عسكري أو اقتصادي حاسم إلا إذا كانت هناك قاعدة غذائية عريضة يتوفر معها فائض غذائي، يحول دون قطع صادرات الحبوب إلى المنطقة العربية".
يتبين من ذلك أن خوض معركة الحضارة سابقة على خوض معركة السياسة، من اجل بناء قواعد الدولة، ومفهوم المواطنة، التي يجتمع عليها أفراد المجتمع نحو طريق واقعي واحد، وثقافة سياسية واحدة، بعيدا عن الهيام التاريخي وتجميل الماضي، والاستغراب، والمثالية الديماغوجية، لكي يستطاع بناء قاعدة الأمن والأمان، والأمن الغذائي والقومي؟.
الأقليات بين التواجد الإسلامي والدولة المدنية
إن إشكالية الأقليات في الوطن العربي تمثل نقطة مهمة يجب حلها بطريقة جوهرية ترسو على قاعدة العدالة الاجتماعية والسياسية ومفهوم المواطنة، بعيداً عن الشعارات النظرية التي تفتقد التطبيق.
المطلوب في المرحلة القادمة إرساء رابطة الانتماء الطوعي بين أفراد المجتمع وخصوصاً الأقليات، الأمر الذي يحتم على الأحزاب الإسلامية التي تتربع على عرش السلطة استعمال مبدأ الاحتواء وليس الإقصاء والتهميش، للمحافظة على سيادة الدولة من أي اضطرابات تستغلها أطراف خارجية، مع العلم أن مشكلة الأقليات أقدم من مجيء الاستعمار إلى المنطقة العربية، الأمر الذي يدعو إلى عدم استعمال فزاعة الاستعمار لبناء صورة مخيالية عن الأقلية ضمن حدود الدولة، وان أي حل لمشكلة الأقليات لا يمكن أن يكون خارجياً، بل داخلياً، بعيداً عن الخطابات الحماسية الشعبوية، كمن يخض الماء ليصنع لبناً.
فالأقلية حالياً تعددت مفاهيمها واختلفت وتوسعت بقدوم الربيع العربي، إضافة إلى العنصر العرقي أو القومي أو الديني أو اللغوي أو النقص النسبي في العدد والقوة، التي عرفناها قديماً... أو غيرها، بل تعدت إلى أكثر من ذلك وصبغت نفسها بالإيديولوجيات الحزبية، حيث أصبحت الايدولوجيا خطاً يميز بين فئة وأخرى، ومن المتخوف مستقبلاً إن لم يكن أي فرد عربي ضمن إطار “الأحزاب الإسلامية وقداسة الحزب” أن تصبح النخب الفكرية أقلية غير مستحبة بين أروقة سنديان الحزب الحاكم ومطرقة الايدولوجيا، في الوقت الذي استبدلت فيه قداسة الحاكم بقداسة الحزب الإسلامي.
بعيداً عن كل الديباجات اللغوية والتنظير والتنصيص يجب أن نصارح أنفسنا بحقيقة واضحة، إن الأحزاب الإسلامية تقف حائرة بين سنديان صندوق الاقتراع ومطرقة السلطة لحل مشكلة الأقليات، ذلك لان جسم الوطن العربي عصي على إسقاط القبلية، والطائفية، والديماغوجية الحزبية والشخصانية من عقليته التي تترنح ما بين الماضي والاستغراب، لا سيما وأن هذا الجسم ينتقي قشور المصطلحات الإصلاحية بعيداً عن جوهرها السلوكي.
فالمراجع والمرجعيات المسموعة منها والمكتوبة فشلت خلال المرحلة السابقة في حل مشكلة الأقليات، ذلك لأنها كانت نظرية أكثر من المطلوب، وكذلك شعبوية كمثل من يطحن الهواء ليخرج دقيقاً، معللة إن الدكتاتورية الفردية التي انتهجها الحاكم العربي حالت دون تطبيق ذلك. فـهل تستطيع مفرزات "نتائج صناديق الاقتراع" تحويل الدكتاتورية الفردية إلى دكتاتورية جماعية بحسب قانون نسبة الغالبية.
هذا ما يعيد أدلجة قداسة الحكم الفردي إلى مرحلة القداسة الحزبية، وفق فكر وقتي يفتقد الثقافة السياسية والعدالة الاجتماعية، وكأن الثقافة الحالية هي مؤدلجة بحسب مواصفات الأغلبية الاقتراعية.
معضلة اجتماعية وسياسية قديمة ترسم ملامح المرحلة المقبلة
يتضح من ذلك أن الجسم العربي يعاني من معضلة اجتماعية وسياسية قديمة، يلزمها وصفة سياسية تسمى بـ «التنشئة والثقافة السياسية»، لتجعل منه قادراً على تبييء "نماذج الحكم" بالشكل الصحيح، وليس تبييئها بثقافة الإرهاص والخطابات الديماغوجية، فظهرت المؤسسة العربية مشوهة بطابع القبلية، والشخصانية، والحزبية الديماغوجية والارتباط العائلي، ما يعني أن حال الماضي مشابه لحال اليوم.
أمام هذه الحقائق، أليس الحري بنا وخصوصاً الأحزاب الإسلامية الاقتناع بأن الحال العربية تفتقد عنصر الدولة ومقوماتها البنيوية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكذلك يتحتم علينا معرفة أن الأغلبية الحزبية توظف عامل الثقافة في غير موضعه، وكأن ذلك العامل أصبح إيديولوجيا يلعب على مدارات الطائفية والقبلية والحزبية والشخصانية، في الوقت الذي يتناسى فيه الكثيرون أن الخطابات التي تحمل شعارات رنانة لبناء الدولة ستكون كالماضي القريب، فالشعارات الديماغوجية لإصلاح المجالات الحياتية هي شعارات حزبية شخصانية وليست شعارات وطنية.
ليتضح وكما قال المفكر المغربي محمد عابد الجابري في كتابه «إشكاليات الفكر العربي المعاصر» أن تلك الإشكاليات برزت بعودة الثالوث الفكري ( القبيلة، الغنيمة، والعقيدة)، ليجعل حاضرنا مشابها لماضينا، ويجعل عصرنا الأيديولوجي النهضوي والقومي وكأنه فترة استثنائية، فأصبحت «القبيلة» محركاً علنياً للسياسة، وأصبح الاقتصاد ريعياً أو شبه ريعي مطبوعا بطابع «الغنيمة»، وأصبح الفكر والأيديولوجيا «عقيدة» طائفية أو شبه طائفية والذي يحتم على نقد هذا الثالوث ( الماضي في الحاضر) بتحويل القبيلة في مجتمعنا لتنظيم مدني سياسي اجتماعي حديث، وتحويل الغنيمة إلى ضريبة، والاقتصاد الاستهلاكي إلى اقتصاد إنتاجي، وتحويل «العقيدة» إلى رأي بدلا من الفكر المذهبي الطائفي والمتعصب الذي يدعي امتلاك الحقيقة.
النتائج والتوصيات:
1. على الأحزاب الإسلامية أن تبتعد عن الخطاب العربي الشعبوي السابق وتتعامل بإصلاح المجالات الحياتية (السياسية والاقتصادية والثقافية) بطريقة التوافق الاجتماعي.
2. نتائج صناديق الاقتراع لن تكون دواء شافياً لالتئام الجراح النازفة من الديكتاتورية العربية الفردية، ويجب تجنب تحويلها إلى دكتاتورية أخرى باسم الأغلبية، ذلك لأن المجتمع العربي يفتقد الثقافة السياسية.
3. من خلال تشريح الماضي والحاضر للوصول إلى المستقبل، فإن الأنظمة العربية أن كانت إسلامية أو غيرها، هي أنظمة شكلية وتتصف بالقبيلة والطائفية والحزبية الديماغوجية والشخصانية.
4. قاعدة "العدالة الاجتماعية والسياسية" وقاعدة " نقد الذات والواقع والتاريخ" مفقودتان بين كل شرائح المجتمع العربي.
5. من أجل بناء الدولة المدنية، يجب على الأحزاب الإسلامية معرفة أن من أساسيات المجال السياسي وجود مجال اجتماعي تصاحبه مسؤولية فردية مبنية على الواجب، وان تحقيق المجال الاقتصادي، والمجال الاجتماعي من ضمن المجال السياسي (التحرري) يتطلب إطلاق الحريات.
6. المستقبل العربي غامض وآيل لتجزئة المجزأ وتفتيت المفتت، لان "القبيلة، والغنيمة، والعقيدة الإيديولوجية" تتحكم بمستقبل الوعي العربي
Share |