انا وراديو اليابان الدولي – ج 23/سليم السراي

Tue, 16 Oct 2012 الساعة : 18:27

 

" زهور الكوسموس !
زهور الكوسموس الوردية الخافتة
تتمايل تحت بقعة من ضوء الشمس في يوم خريفي
أمي التي كثر بكاؤها هذه الايام
تسعل مرة واحدة في الحديقة
كلما فتحت ألبوم الصور في الشرفة
حكت ذكريات طفولتي
نفس الذكريات مرات ومرات
بصوت هامس وكأنها تكلم نفسها
في يوم خريفي دافئ وهادئ كالربيع مثل هذا
أحس بحنانك في أعماق قلبي
ضحكت وقالت لي عشية زواجي : لا تقلقي
فحتى المصاعب سيحولها الزمن الى حكايات مضحكة
( زهور الكوسموس من الشعر الغنائي الياباني .. كلمات ماساشي سادا ""
" انطلق بنا باص العودة , لكنهم لم يغادروا مكانهم حتى أكل أفق البصر هاماتهم , وهم يلوحون لنا بأيدٍ كأنها رايات الإستسلام او الانتصار "
هكذا كانت آخر لحظات العهد مع اسرة الفقيد الياباني سوشيه كودا , وقد أنبسطت أسارير الحضور جميعا على جادة الوفاق , فليس هناك مساومة مشروطة أقتضت تغييب الهدف , بل هي جزء من تحقيق أمنية قطعت لها مساحة جغرافية مادية كبيرة او شاسعة , و يا ليتني استطيع ان أكمل ما تبقى من تلك الاماني الكثيرة , التي عقدت لها عهدا في العنق .
غاب عني أفقهم , ولعل ذلك كان خدعه فرضتها الافاق على البصر , فما زالت أطلالهم وحكاياتهم تعيش في وادي الفؤاد , أطل على حاضرتها بين حين وآخر ! إطلالة العذراء .
يا ترى هل هذا هوى قد خالط القلب ؟ ام كنت ألتمس الحق ؟ حيث العقل يقود قطر الحديث التي فاضت بها القلوب ! , وذلك العزم الذي رسخت عليه قدمي ؛ فكانت خواطر ضمير عنيد الاستحالة أن تغيره الاهواء والضلالات , دافع عن القدر وبالغ فيه من دون غفلة , ولم يجري فيه الدفاع عن الأهداف التي تختلط فيها أوراق من المنافسة الخفية والغمزات .
- استاذ سليم ...
هكذا قطع نداء الاستاذة ماريكو إينو أعتناق بصري لأفق العائلة , وقد برح المضاجعة تفاعلا مع النداء من دون رغبة ..
- نعم ..
- لا أعلم كيف أشكرك على حديثك مع العائلة , فقد كان جيدا ورائعا ...
أنطفئت في روحي قبسات الأنفعال ؛ همدت جوارحي ؛ وفي قلبي ثقة قد سره ما أنتهى اليه , وهو يتبع بلا ريب الداعية , حتى ذهب السمع المرهف صامتا وحبست لساني في الحلق , لأستمع ما لم تتطلع اليه يوما احلامي , وتوقف بث العيون في قلب هذه المقاطعة ..
رفعت محياي بعين تائهة لألتقط بقية مواجع الحديث ..
- كانت العائلة في بداية اللقاء قد خيم عليها القلق والارباك , بيدَ انه مع مرور الوقت البسيط ؛ أنبسطت وصفت الخواطر مع بداية حديثك معهم ..
خرجت عن المألوف وقطعت الحديث هاتفا من دون شعور :
- ولكني لم أفعل شيء يستحق هذا الاطراء ..
قطعت عن نفسي هذا الاطراء , فإني لا أطيق الاستماع الى أحاديث المديح والثناء , فلعل ذلك يغري النفس ويزيغ بها الى جادة غير مستقيمة أو ينتهي بها الأجل الى غاية لا تشتهي ثمارها , حتى خيل لي اني جعلت القلب بين كفي , لأتعامل معه كصقيل يقطع الهام , حتى تمرد الصبر على الخيلاء بغضب ثائر , فإني أولى بأمري لأتذوق العسل او العلقم .
ما كان الوقت صالحا للرثاء الذي يهز المشاعر من ملكوتها , او ارتضى ان يعيش الخيبة بعيدا عن القلق , فالتاريخ لن يستطيع احد ان يعيد عقاربه , لكن هناك من يستطيع ان يكبح جماح الخطأ ولا يسمح بعدئذ مسرى له في عقليته , اذا ما لقيت دعوة أو صحوة في الضمائر القابلة للحياة والنمو وليس الى الجمود المتوارث من الارث البدوي .
- كنت على علم مسبق بان تعامل العائلة سيكون جميلا , وقد قرأت ذلك من خلال حديثهم معي اثناء الاتصال المتكرر .
حقائق منقوشة لا تحتاج الى دليل ولا يضر بها قلب أبكم وثقيل وغافي عنها , فما اعجبها من ومضات أمل يابانية تنفذ الى الاعماق بيسر وسهولة بدون استئذان , بل هي خير ما جرت به الاقدار أن جعلت الشمس تشرق من نسماتها , وتبث خيوطها ابتداءا منها .
- استاذ سليم : أتعلم ان العائلة لم تكن راضية بخروجك , وكان لهم املا في البقاء لديهم لوقت أطول , لقد تركت خلفك الكثير من الاسئلة وما يحبونه من الحديث معك ..
- استاذة لقد تجاوزنا الوقت المحدد بكثير ..
- صحيح ذلك ..
- وقد خشيت ان أكون ضيفا ثقيلا على العائلة , ولعلي أن أكون سببا في تأخير أعمال العائلة .
- أنا يابانية وأعرف اذا كان الياباني مرحبا بالضيف أو من عدمه , ولو كان لدي أدنى أحساس ان هناك شعور بعدم رضا من قبل العائلة , لقلت لك علينا بالانصراف وقبل نهاية الوقت المحدد للزيارة .
وتحت مجهر المنطق آثر الصمت ان يسد منابع الحديث , لكن الاستاذ عادل الدسوقي أعترض على هذا الصمت , فمال علينا ليخرجنا من هذه الدائرة بقوله :
- استاذ ماريكو ما اسم هذه المنطقة ؟
- هذه جزيرة الطير ! .
 
مسطحات مائية واسعة شكلت انواعا من التضاريس المختلفة , جزر صغيرة تنفذ اليها خلجان صغيرة , مساحات واسعة من الاراضي الحية تثمر فيها بذورها , وهدير الطيور لا ينفك لحظة واحدة , ولعل بعضها كان مرحبا بنا او يرفض مرورنا بمملكته فما كان لي علم بمنطق الطير, فالطيور تارة تقطع الطريق واخرى بأجنحتها تغطي السماء , تخترق اصواتها زجاج الحافلة واصوات الإطارات المنبعثة .
كل شيء ينمو ويتطور هنا , وبأختصار من أجل حياة جديدة أكثر تفاعلا مع الطبيعة , فما أعقب الحرب هو خلاف الكارثة الإنسانية , انه بمثابة فتح جميع الابواب كمجالات لأختراق جوهر الطبيعة , من خلال الخطط المرسومة التي عقدت رأيها لإعادة الوضع الانساني توازنه وحرماته .
أتلهف الى كل لحظة قادمة بأدق تفاصيلها , لتكون قصة عشق في عين صاحبها الشغوفة , وهل يجري في الخاطر المفتون ان اجد لها صورة في بلدي العراق ؟ لكن العدالة دائما ما تقهر وتجعل صاحبها لِحداً في الحياة , كما هو الحب يدخل الذل في قلب من أتخذه سبيلا ! .
أجل ؛ قوس قزح من الرهبة , تجعل للنفس جسور إشعاع نافذة , تقحم صاحبها بلا خوف او تردد , وتجعل حدودا واسعة للاستماع , ومدى لا يقاس بالمسافات من أصغاء القلب نأت أو دنت منها , فلا اختلاف في اللون والعنصر والاعراق والشرف .
عدنا الى مطار مدينة Fukuoka حيث العودة الى طوكيو العاصمة على متن الخطوط الجوية اليابانية ذات الرحلة المرقمة NH 270 وذلك في تمام الساعة 19:45 حسب التوقيت المحلي , حيث وصلنا بسلام والحمد لله في تمام الساعة 21:20 .
بحثنا عن مطعم لتناول بعض الوجبات البسيطة , واني لأرى الجوع قد ألهب صاحبي ولكني وقتها لا أشتهي العسل ! , لكن الأمر أستعصى عليهم , وقد بادر الاستاذ عادل الدسوقي بقوله :
- استاذة ماريكو عودي الى المنزل فالوقت متأخر بعض الشيء , وقد نال منك التعب مأخذا , وسوف ابقى برفقة الاستاذ سليم .
فما كان من الاستاذة الا ان تجيبه بصوت خافت ألتصق به شيئا من الأسرار اليابانية ممزوجا بالخجل :
- ................ .
ابتسمنا لذلك التعليل جميعا , وقد اجد فيه التعرف عن قرب أحد قوانين وأنظمة الاسرة اليابانية أو الحياة الزوجية وتقاليدها .
أخيرا حصل الأختيار على احد المطاعم وتناولنا وجبة خفيفة , وتبقى نظراتي النضرة تقتحم حصون الانفس على اصحابها , مكتشفا حواسها وأسرارها , وربما هذا الوضع هو من الوهم أو الخيال , فقد سحرني القوم هناك .. وسحرتهم بمحيط ربما كانت مادته من الرمال ! , وقد شكى لي الاستاذ عادل الدسوقي روضتي يوما :
- إني .......... فإنك تعرف مكامن أسرار القلوب , وتعرف كيف تفتح القلوب لتدخل اليها ! .
ابتسمت لهذا التعليل الغريب عن جوهر روحي وإنفعالاتي :
- استاذ عادل : هكذا هو سليم السراي في العراق وفي اي بلد آخر .
عدنا الى فندق Unizo الذي يقع في حي شيبويا , وأستلمت حقيبتي من ادارة الفندق التي تم تسليمها اليها بصيغة الامانة وكان ذلك بتاريخ 20/11/2010 .
انها طوكيو العاصمة ؛ نقطة نضرة تحف تخومها مياه المحيط , هي ارث الصفوة الذين غادروا الحياة , لكن عزها ما زال ترفرف فيه القوه والتواضع , لكأن صورتها تداعب الخواطر التي مزقتها عثرات الحياة , حدائقها وأحيائها رقيقة وهادئة كجدول صغير , تنأى عنها الثرثرة والجدال والخرف والتنظير , وتزأر فيها الاكتشافات العصرية كالأعاصير والحمم والصواعق .
رضيت طوكيو ان أقيم فيها على ما تشتهي فيها روحي , من اناقتها لم تغمض عيني ليلا الا سهوا , تستهوي الانظار المفتونة بالجمال الروحي , وتستعذب السمع الى رنين الليل في ازقتها , ولم يتبقى من أعتزالي لها الا قليلا , أعتزال ذات محنة طويلة الامد ؛ , لا يحاول أحد الميل عنها الا من كان له صبرا ذا حصانة .
Share |