بعد التاسعة - قصة قصيرة/علي موسى حسين
Fri, 21 Sep 2012 الساعة : 23:03

الساعة التاسعة ليلا.. كالعادة, ماكنة العمل تهدأ طاقاتها, ويسهل التخلص من رواسب متاعبها. بعد التاسعة يستريح مكوك الجسد لترتاح عجلاته, ويصمت زفير دورانها. بعد الساعة التاسعة كثيرا ما أستقر بين أطفالي لأفتح ملف المذاكرة في مساعدتهم, وتتسلل عيناي من بين أناملهم الندية الى شاشة التلفاز وإن كنت كارها لها, فشبح السياسة لازال يقرفني منذ أن كان الزعيم يلتصق على شاشته لليلة كاملة.. الزعيم ولّى وانتهى, والبراعم التي كنا نحشد الأذواق عندها بانت أشواكا حالما خرجت من تلك الصناديق التي سقيناها بدمائنا وأصبحت لا تقل إزعاجا وقرفا مع اختلاف اتجاهاتها, ولم يدركوا أن المشاهدين أمسوا لا يطيقونهم البتة. لكن ربما يجذبني التجول في قرى كوكل وحدائق الياهو ومساحات فيس بوك, أستمتع بما هو جديد وممتع. أو ألجأ إلى قلمي لأتكئ عليه بكامل ثقلي. أما العادات والتقاليد فهي جزء من صيرورتي فمن غير الممكن التخلي عنها, لي عليها واجبات وحقوق, المحصلة ودون أن أحتوي حساباتها ترجع روافد العمل تصب ثانية بعد التاسعة فتعود أثقالها ترهقني.
.. بيد أن هنالك متنفس أتوق في السعي إليه, أفرّغ صبابة من العشق فيه, تجمّعُ نخبةٍ مفرغة من السياسة ومملوءة بالثقافة. التراث الشرقي لم يستأصل منها والتحضر الغربي لم تنقطع روافده عنها. كنت أتذوق طعم الحياة فيهم, وقد أدركت أن مثله ذاك الذي مرّ في صباي رغم أن عمري وقت ذاك ما كان يفقه قراءته تهجئا بل مقطعيا. أو أمتلك عند ذاك تحليلا لمفرداته مع أني أحبذ الآن ترك تفاصيلها في قلبي دون أن يطلع عليها قلمي, فللقلم لسان أخشاه كثيرا من أن يفضحني, ربما ينطق بما هو محظور وممنوع, والأيام لازالت غير صادقة في نياتها وكاذبة في تصريحاتها بيد أني أأمل التغير وإن أبطأ رقاصها في الجري.
ثلة أنصفني الدهر حين تعرفت عليها منذ أن كان الزمن قاسيا علينا.. لكنّا قهرناه, بل وحققنا انتصارات كثيرة عليه, ربما دون علمه أو رغما عنه, وقد حصدنا تفوقنا عمليا حينما شكلنا تجمعا ثقافيا, ابتدأ بكلنا وأرفد بكلنا, أسميناه: التجمع الثقافي في سوق الشيوخ. ونعترف كلنا أن السيد فرقد الحسيني كان المجاهد بحق والمضحي بكل وقته وإمكانياته في تأسيسه, أضف إلى أنه يمتلك القدرة في الاقناع والتحمل. لم ندرك في حينها أن تلك النخبة من النجوم اللامعة في القصة والرواية والشعر والفن على مستوى القطر, وقد اتسع مداها وتشابكت أغصانها وامتدت جذورها حين نضجت ثمارها ببرامج الأمسيات الأدبية والمحافل الثقافية, وفوق ذاك كان لها قلوب مفتّحة ووجوه مبتسمة, لم أتذكر قد أفشيت الفرقة بينهم أو استأسد حب الذات عندهم.. كيف وديدنهم الثقافة وخدمة مدينتهم لا السياسة والجاه والمال.
بعد الساعة التاسعة من هذه الليلة, وقبل ساعتين من كتابة هذه الكلمات, قلت سأتوجه إلى من أحببتهم فعلا. كانت في داخلي متاعب كثيرة, متاعب ملموسة وأخرى غير ملموسة, لكنني بدأت أنفض بها من شباك سيارتي وأنا أتوجه إليهم. لكن لا أدري لماذا لم تثبت ماكنة ذاكرتي لأتحسس أو أنفض ذاك الألم الذي لم يفارقني البتة منذ أيام مع تلك المتاعب من شباك سيارتي..
عشرون دقيقة مساحة الزمن التي اقتطعها الطريق من حياتي لأصل بها إلى التجمع. لم تكن المساحة كتلك الخالية في عمري وبعدد الصحارى الكثيرة في بلدي والتي أفرغت من الماء والعشب, أو مثل تلك التي لم تستغل رغم توفر مستلزمات الحياة فيها.
بناء التجمع ينفتح لأكثر من ألف متر مربع, بساحته المفروشة ببساط من الحشيش وشتلات الورد وأشجار نأتلف تحتها حتى عند نهارات الصيف, البناء يمتطي الكتف الأيمن من نهر الفرات, إختارته أذواق مملوءة بالسكر والجمال. مطعم ومقهى وغرفتا إدارة, وأهم ما فيه منصة المسرح التي لازالت تنبض بالحياة منذ تأسيسه. ويذكرني هدوءه وجماله بمتنزه الناصرية وإحترام الناس له عند صباه الذي زامن عمري, سوى بحيرة الأسماك, فنحن نعرف أن سمك البني لا يسعه أن يعيش في المياه المالحة بعد أن سرقت مياه الفرات والسم الذي تنفثه بلدية سوق الشيوخ فيه دون إحتراما لأسماكه ونوارسه والأغصان التي كانت تنزل عند كل مساء بأزهارها لترتشف القبلات من مياهه.
بعد الساعة التاسعة وعشرين دقيقة وقفت أمام التجمع, فارتجت ماكنة ذاكرتي وأحدثت صريرا في دورانها المعاكس كصرير تابوت قديم يحملني فيه دفان متمرس, إرجفتني صعقاته بأقسى من حمى مزمنة ثملة.. دخلتُ وأنا مطأطئ الرأس.. فهزني أحدهم بعنف:
ـ فرقد لم يمت, من منّا لم يتحدث معه حينما ندخل التجمع, أنظر هناك ودقق النظر.. ألا تراه يجلس مع تلك الحلقة الأدبيه.. وهناك.. فوق المسرح لازال جالسا بعد أن قدمك في روايتك (أربع ساعات)..
..الأجسام تكبر تشيخ وتكهل.. وترجع إلى الأرض إكراما لها, لكن الرؤى هي التي تعيش, عظماء كثار لازالوا يعيشون بيننا بينما كثير من الناس يتحركون بأجساد ميتة, يستغلون أرضا نريد أن نعمرها, لكنهم يلوثونها ويعبثون بها..
..الذي أطلبه منك يا أخي أن تفرغ الدموع من مآقيك, فأخوتك بالانتظار يعدّون عرسا أدبيا لأخيهم فرقد, عرسا بعد أربعين يوم من ولادته الثانية, فالشهادة هي الولادة الحقيقية للعظماء... فرقد لم تقدر يد الارهاب أن تصرعه برصاصة واحدة, فحشدت أربعين سيارة مفخخة لتنال منه, أجهزت على رأسه, كانت تخاف من الفكر الذي يحمله برأسه, لم تتمكن منه.. لم يمت لكنه إختار التضحية لينقذ أبناء وطنه...
علي موسى حسين