طوب ابو خزامة...سيد مالك ..وحصان الشطرة/عدنان طعمة الشطري
Mon, 17 Sep 2012 الساعة : 3:09

يقول المفكر العراقي والعلامة الاجتماعي دكتور على الوردي في الجزء الأول من ( لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث ) كان السلطان مراد عند مغادرته بغداد قد ترك فيها احد مدافعه الثقيلة ليوضع عند باب " القلعة " وقد صار هذا المدفع في نظر العامة من أهل بغداد – لاسيما السنيين منهم – شبه قديس تنسب إليه الكرامات وتنسج حوله الأساطير.
أطلق أهل بغداد على المدفع " طوب ابو خزامة " ويعزى سبب هذه التسمية إلى وجود خرق صغير في فوهة المدفع كأن منخر له , وتقول الأساطير الشعبية في تعليل الخرق إن المدفع كان في السماء عند حصار بغداد , وان الله أمر جبرائيل أن ينزل به إلى الأرض لمساعدة السلطان مراد على فتح بغداد فنزل به جبرائيل يقوده من منخره.وهناك أساطير أخرى يتناقلها أهل بغداد حول هذا المدفع ,منها إن الأسماك التسعة المنقوشة على جانبيه , كانت قد لصقت به عند اجتيازه " بحر القدرة " أثناء نزوله من السماء , ومنها إن المدفع عند استقراره في الأرض اخذ يلتقف التراب ويحوله بقدرة الله إلى قنابل يقذف بها العدو.
وصلت الأساطير حول كرامات " طوب ابو خزامه " إلى حد صار فيه النساء يتبركن به وينذرن له النذور ويربطن به الخيوط على منوال مايصنعن في المراقد المقدسة , وجرت العادة في بغداد أن يؤتى بالمولود الجديد في يومه السابع فيطاف به حول المدفع ويدخل رأسه في فوهته ثلاث مرات . ولم يترك العوام التبرك بالمدفع إلا بعد نقله إلى المتحف الحربي ,فنسيه الناس انذاك ونسوا كراماته .وهو اليوم يعتبر أثرا قديما لا قدسية فيه .
هذا ما حدث في بغداد عام 1639 ,أما ماحدث في مدينة الشطرة عام 2012 إن موكبا حسينيا قد انشىء حصان حديديا على مقربة من الحديقة الدائرية التي يطلق عليها عامة الناس "فلكة الشطرة" كأحد الرموز التي تجسد ملحمة الطف الحسينية الخالدة.ويروى ان امرأة من أهالي الشطرة ,قد غزا عقلها هذا الحصان الحديدي في الرؤيا وهي تغط في نوم عميق , وقد وعدها أن يهب لها مولود جديد حرمت منه بالرغم من سنوات زواجها العديدة ,فاستيقظت في الصباح الباكر واتجهت إلى الحصان وهي تعده بنذرا سمينا إذا نفذ وعده الحلمي ,فتحققت المعجزة الحصانية بعدئذ ,وجاءت البشارة بأسرع من لمح البرق في السماء, وبلسان المختبر الطبي الذي اخبرها بانها تحمل مولودا جديدا .
سرت هذه "المعجزة الحصانية" في الأوساط الشطرية العامة ,سراء النار في الهشيم , فتهافت على الحصان الذي ركن في قلب مدينة الشطرة العشرات من زوار هذا الاثر القدسي الجديد التي وصلت للتبرك به ونذر النذور له وربط الأقمشة الخضراء والخيوط على منوال مايعملن في المراقد المقدسة.واستفحل أمر الحصان الحديدي وذاع صيته كصانع عظيم للمعجزات فانت العقلية العامة صناعة عادات طقوسية للحصول على ظفر هذا الحصان الحديدي الحديدي ,منها عادة أن يؤتى بالمولود الجديد في اليوم السابع , فيطاف به حول الحصان والتمسح به وكأن جبرائيل انزل به من السماء الى الارض , على شاكلة ما كانت الناس تعمل مع " طوب ابو خزامة " في بغداد.
وفي الوقت الذي راحت العملات النقدية تتساقط عليه بالدينار العراقي والدولار الامريكي ,وهم يتبركون به ويقدسونه ويعلقون عليه " التمائم " ويمسحون به رؤوسهم وأجسادهم ويقبلونه , أقول في الوقت الذي حدث هذا وطوح إلى منفذ تجاري لجمع الأموال , تنازع عليه طرفان أو جهتين ,كل يدعي عائدية الحصان الحديدي له ,ووصل الحال بهما حد التقاتل المسلح لولا تدخل الجهات الرسمية في المدينة وقررت رفع الحصان المقدس من مكانه والاحتفاظ به باحد مخازن الدولة ,فأصبح لا قيمة قدسية له .
ولعل الطرفان المتنازعات على حيازة (الحصان الحديدي ) يدركون ويعلمون جيدا ان حالهم كحال أصحاب القصة التي نتج عنها المثل القائل " احنه دفناه سوا " التي مختصرها :
كان رجلان من عامة الناس يعتاشان ويوفران قوتهما على بيع الزيت الذي يحملانه على حمار يقودانه ويتجولا به من منطقة لأخرى , وعندما أسدلت حياة الحمار إلى الأبد ومات في الطريق فحزن الرجلان حزنا شديدا لأنه يمثل مصدر رزقهما الوحيد .قدحت فكرة في رأس احدهما فطلب من صاحبه ان يلجم بكائه وعويله ,مقترحا عليه أن يدفنوا الحمار ويبنوا ضريح عليه قبة ونعلن إن هذا مزارا لأحد أولياء الله الصالحين ,ونشيع أن له كراماته واعجازاته فتتهافت علينا الناس للتبرك به وطلبا لقضاء حوائجهم وهم يغدقون المزار بالهدايا والأموال والنذور والتبرعات العينية المختلفة , وماهي إلا ساعات قلائل حتى طوحت جثة الحمار تحت قبة مزار مهيب ,وأصبح الرجلان من الوجهاء الذين يحسب لهم ألف حساب.. وما أن اختلف الرجلان على حصيلة النذور والتبرعات ,وراح احدهما يشك بالآخر , طفق احدهما ان يشير بيديه إلى القبة ويطلب من صاحبه أن يحلف ويقسم بكرامات صاحب القبة المقدس ويبرأ من التهمه , إلا إن صاحبه التفت إليه متعجبا وقال له : احلف بمن يارجل" مو احنه دفناه سوه " .
هذه القصة تشبه من بعض الوجوه , قصة الطرفان المتعاركان على حصان الشطرة الحديدي ,وكان لسان احد الأطراف المتعاركة يقول " مو احنه صنعناه سوا "
ولم يحتكر "طوب أو خزامة " القدسية له بعد فتح بغداد وشاركه فيها رجل اسمه "كنج عثمان" وكان هذا الرجل قائد عثماني جاء إلى العراق قبل مجيء السلطان مراد ,تصحبه قوة من الجيش ,فاحتل الحلة والرماحية وكربلاء والنجف , ولكنه مات قبل فتح بغداد ,فنقلت جنازته بعد الفتح الى بغداد ودفنت قرب السراي..وظن أهل بغداد انه من الذين استشهدوا في المعركة ,وانتشرت بينهم الأساطير عنه وعن كراماته ,فقيل انه كان عند فتح بغداد يحمل راية أمام السلطان مراد فقطعت يداه ولكن الراية ظلت تمشي وحدها من غير أن يكون لها احد يحملها ,ولم تسقط الراية إلا بعد أن شاهدها احد الناس ودهش لمنظرها العجيب .
وكما يقول علي الوردي , وقد صار قبر "كنج عثمان" مزارا ,فبنيت عليه قبة واتخذت له سقاية للماء . وفي عام 1720 جدد بناء القبر الوالي المشهور حسن باشا وكتب على شباك قبره المطل على الطريق ما نصه ( ألا إن أولياء الله لاخوف عليهم ولا هم يحزنون .رئيس الشهداء كنج عثمان .وقد عمر هذا المكان صاحب الخيرات حسن باشا سنة 1133هه ) .
ومن الأساطير الشعبية التي حدثت في مدينة الشطرة في منتصف التسعينات من القرن الماضي حول كرامات " سيد علي " وقدراته الاعجازية في إحياء الموتى وشفاء المرضى والبرصان والعميان والطرشان واستنطاق الحجر.. " سيد علي " هذا الذي شيد له مرقدا شرقي مدينة الشطرة قد قتل اثر خلاف بينه وبين رجل آخر في منطقة " الفتاحية " الفقيرة.
وعندما انتشر الطاعون في سجن " ابي غريب " الشهير في بغداد ومات قاتل " سيد علي " انتشرت بين عامة الناس الأساطير التي ما انزل الله بها من سلطان , عنه وعن كراماته الخارقية ,فقيل إن أضواء متوهجة تنبعث من المكان الذي قتل فيه..وقيل إن قاتله قد أنزلت السماء عليه شياطين فخنقته شر خنقة وهي تصرخ "الثار لسيد علي " ,وعليه فقد شيد له مرقدا شرقي مدينة الشطرة ,واستحال إلى " سيد علي المقدس " والسادن الخرافي الأعظم الذي تنذر له النذور وتربط به خرق الأقمشة الخضراء ويحنى جدرانه بالحناء لأنه الشفيع الأكبر في علاج المرضى وتزويج العوانس ومفتاح الرزق وباب سماوي من أبواب قضاء الحوائج.
وفي الحرب العراقية- الإيرانية ,دعمت الأجهزة المخابراتية والحزبية لنظام صدام حسين ,صناعة العقلية الشعبية لاسطورة " سيد مالك " في محافظة الكوت ,كشخصية نمت في عقول البسطاء والرجل الذي يحقق المعجزات ,فقيل انه بسط عباءته على جسر الكوت ,فكانت هذه العباءة من الخارقية مامنعت الطائرات الإيرانية إن تصيبه بقذائفها المدمرة ..وقيل إن " سيد مالك " القديس الذي تنسب له الكرامات الخارقية ان عباءته تنتقل في جبهات قتال الحرب العراقية –الإيرانية , لان لها كرامات تحقق الانتصارات العسكرية وتمنع القوات المعادية من تحقيق أي مكسب على الأرض !
هذا النسج الأسطوري من الأقاصيص دفعت عوام الناس إلى التهافت عليه بالمئات لزيارته وهو حي يرزق للتبرك به وتقديم النذور إليه والتوسل به لشفاء المرضى واستدرار الرزق ودفع الشر وكشف أسماء السراق من الذين سطو على بيوتهم ,سيما ولما يقرر "سيد مالك" الخروج من صومعته الكهنوتية والخروج لسماع حوائج الناس ,فان الوافدين أليه يطفقون ينحنون ويطأطأون رؤوسهم أليه تعظيما لجلالته وجلالة سلطانه الروحي .
دعم أسطورة " سيد مالك " من قبل نظام صدام حسين في صناعة ولي فاشل من أولياء النظام المستبد,قد تورط بها أحزاب إسلامية تهيمن على المشهد السياسي والحكومي للعراق الجديد , حيث روجت في الانتخابات البرلمانية الأولى تحذيرات جازمة إلى عوام الناس الشيعة بان من لم ينتخب قائمة " 555" فان الله سيصليه بنار جهنم لا محالة, ويحرم النظر في وجهه والحديث معه وحتى الصعود وإياه بحافلة ركاب واحده ..وان الزوجة التي لا تصوت لقائمة السماء "555 " فهي لاتحل لزوجها وعليه ان يطلقها لكي يتحاشى عقوبة السماء, والعكس صحيح .. ومن كان في بيته رجل طاعن السن , وعلى أبواب الموت ,فعليه حمله ببطانية حتى ولو كانت رثة, إلى صناديق الاقتراع تنفيذا لأمر المرجعية , وهذا مجاف للحقيقة لان المرجعية لم تقل ذلك وأعلنت بأنها تقف على مسافة واحدة من جميع المكونات السياسية .
والأكثر كارثية من ذلك إن غالبية عوام الشيعة قد امتثلوا لهذه الخزعبلات والترهات وصدقوا بها ,لأنهم اعتقدوا في بواطنهم , إن قائمة (555) هي مزار لولي عظيم من أولياء الله وعليهم طاعته وطاعة خزعبلات أحزابه وانتخابها دون سواها .وهنا أتساءل وفق هذه المعطيات الكارثية , أليس العراق بحاجة إلى نظام ديمقراطي يتناسب وثقافة مجتمعاتنا المنحطة ؟ وهل نصدق إن ثمة برلمان وحكومة منتخبة بأصوات شعبية تعي جيدا ما تنتخبه ؟ وهل ثمة تنافس شريف في ظل عقلية شعبيه تتجاذبها الخرافة والأسطورة ,وترسم الأساطير والخزعبلات مستقبلها ؟
هذه العقلية العامة البسيطة أضحت كذلك عرضة للضحك على ذقونها واللعب على أوتارها العاطفية في الهواء الطلق ,فكان لجلاوزة تجار "الشورجة" و " جميلة " صولات وجولات في مرابعهم ,فقد أطلقوا أكذوبة مصطنعة , لما تكدست أكياس نبات " الحناء " في مخازنهم ومتاجرهم لانعدام أو ضعف الإقبال عليها وشعروا بأنهم سيتكبدون خسائر تمس بالشيء الهين على أرباح السحت الحرام الفائقة التي يجنوها , فروجوا إن طاعون سيجتاح العراق ويقضي على أرواح الأطفال , ومن لم يحني أطفاله بنبات الحناء سيهلك أطفاله جميعهم وقد اعذر من انذر , داعمين أكذوبتهم هذه بأكذوبة أخرى ,بان المرجعية تدعوا إلى ذلك..فنفدت " الحناء " من الأسواق في ساعات قلائل , ومن كان حظه عاثرا ولم يحصل عليها, فقد أسود وجهه وهو كظيم وراح يضرب أخماس بأسداس وهو في حيص بيص من أمره .
وذات التجار العتاة سبق وان أطلقوا ذات التحذيرات المزعومة التي أثيرت على حبوب " الماش " و " الهريسه " ولاندري ماهي المادة التجارية المرشحة في قابل الأيام التي سيفترسون بها جيوب عامة الناس من البسطاء .
كاتب واعلامي