بغداد السلام، من يحتفل بذكرى تأسيسها؟ ذكرى مجيدة لمدينة عظيمة/جودت هوشيار

Wed, 5 Sep 2012 الساعة : 23:34

 

تحتفل الشعوب الحية الناهضة بذكرى الأحداث الكبرى فى تأريخها ومنها، تأسيس مراكزها الحضارية وبخاصة عواصمها، التى لعبت دورا ايجابيا فاعلا فى حياتها ومصيرها، مهما كان هذا الدور متواضعا فى مسيرة الحضارة الإنسانية، حيث تقام المهرجانات الثقافية والفنية وتنظم المؤتمرات والندوات العلمية ويكرم المبدعون والنابهون من أبنائها، فما بالك بعاصمة الرشيد، مدينة السلام وأم الدنيا، التي كان لها الفضل الأكبر فى النهوض الحضارى للشعوب التى أعتنقت الدين الإسلامى.
 
أول أحتفال بذكرى تأسيس بغداد:
 
كان مؤسس الجمهورية العراقية الشهيد الزعيم عبد الكريم قاسم أول من أحتفل عام 1962 بمرور 1200 سنة على بناء بغداد، حيث نظمت الإحتفالات البهيجة وعقد مؤتمر علمي برعاية الزعيم وحضور مؤرخين متخصصين بتأريخ المدينة وعدد كبير من المفكرين والأدباء البارزين في البلاد العربية وجمهرةٍ من المستشرقين البارزين من بلدان أوربا ممَّن قدموا دراسات قيمة -بفصحى العربية- عن الدور الفعال الذى نهضت به بغداد فى عصر إزدهارها وما تعرضت له من أحداث جسام عبر التأريخ، نالت إستحسان وإعجاب المشاركين في المؤتمر.
 
بغداد المنسية:
 
هذا العام 2012 م تمر الذكرى الـ (1250 لبناء بغداد)، عاصمة العباسيين - التي شيدها الخليفة أبو جعفر المنصور في العام 762 م وإكتمل بنائها فى عام 766م.
 
وهي مناسبة جديرة بالإحتفال أكثر من أية مناسبة تأريخية أخرى. ولكن لا احد في بغداد اليوم يتذكر تأريخ هذه المدينة العريقة، الزاخرة بالمفاخر والإنجازات العظيمة في شتى جوانب الحياة. حيث يتولى أمرها الآن أناس غرباء عنها وعن أمجادها ولا يهمهم أمرها ولا علاقة لهم بتأريخ المدينة ولا بالحضارة التى تمثلها.
 
أسباب بناء بغداد:
 
لم تكن في العراق في بداية العهد العباسي مدينة تصلح ان تكون عاصمة لإمبراطورية فتية ناهضة، أما بلدة الكوفة التي بنيت بعد الفتح الإسلامي لبلاد الرافدين في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، لتصبح مقراً للعمال والولاة المرسلين الى العراق، فقد كانت تزخر بالحركات السياسية والفكرية المناهضة للخليفة العباسى الجديد، وبؤرة للفتن والإضطرابات، مما أثار قلق مؤسس الخلافة العباسية أبو العباس السفاح، وأتقاءً لشرور تلك الحركات، بنى ضاحية جديدة سماها " الهاشمية " وجعلها مقراً لخلافته، ثم شيد ضاحية أخرى قريبة منها سماها بـ(الأنبار) واتخذها عاصمة لدولته الناهضة وأستقر فيها الى حين وفاته بعد ذلك بعامين. وخلفه أبو جعفر المنصور، الذى كره "الأنبار" على أثر محاولة جماعة من " الراوندية " قتله ولقربها من الكوفة ورداءة مناخها، وقرر بناء مدينة جديدة تليق بمكانة الإمبراطورية، بعيدا عن مثيري الفتن والقلاقل. ويقول بعض المؤرخين ان المنصور "أخذ يتنقل فى أنحاء العراق ،حتى أستقر رأيه على موقع حسن وجميل، عليه قرية تسمى بغداد. ويبدو أنه مر بهذا المكان فى موسم طاب هواؤه وعذب ماؤه، فأختاره وارتاح له لوقوعه فى وسط مملكته، حيث تتقاطع طرق المواصلات بين الشام وخراسان، وهما الأقليمان الأشد خطرا عليه فى دولته، ولوجوده فى نقطة عسكرية حصينة بين دجلة والفرات، فلا يصل العدو اليه من الشرق أو الغرب، الا بعد إجتياز أحد النهرين". "كان ذلك في عام (145 هجرية الموافق لعام 762ميلادية) عندما أمر بإحضار المهندسين من أنحاء الإمبراطورية، فخططوا مدينة دائرية الشكال، محيطها أربعة أميال، محصنة بسورين، خارجي وداخلي، يحيط بسورها الخارجي خندق عميق يجرى فيه الماء من نهر (كرخايا) وعليه عدة جسور للعبور، يمكن كسرها عند حدوث خطر مهدد وبنيت على كل سور أبراج شامخة. ولعل اطرف ما يذكره مؤرخو بغداد، ان المهندسين المكلفين بتخطيط وتصميم المدينة المدورة قاموا بتصوير معالمها على الأرض في بقعة واسعة. ووضعوا حب القطن فوق خطوطها وأحرقوها ليلا، والخليفة واقف على مرتفع ينظر الى هندستها ومعالمها، فأعجبته وراقه منظرها، فأمر بحفر الأسس، ثم وضع بيده حجر البناء الأول وسماها مدينة السلام ." انطلقت الحركة الدؤوبة في ورشة بناء بغداد بمئة ألف عامل تحت إشراف عدد كبير من خيرة البناة والصناع والصباغين والرسامين الذين تم استقدامهم من أنحاء الدولة العباسية. وأستغرق بناء المدينة حوالى خمسة أعوام، وكان للمدينة أربعة أبواب وسميت بأسماء البلدان المتجهة نحوها وهي (الشام والبصرة والكوفة وخراسان). ويقول الخطيب البغدادي المؤرخ المعروف في وصف بغداد "لم يكن لبغداد في الدنيا نظير, في جلالة قدرها وسعة أطرافها وكثرة دورها ومنازلها ودروبها وشوارعها ومحالها وسككها وخاناتها وطيب هوائها وعذوبة مائها وبرد ظلالها وأفيائها واعتدال صيفها وشتائها وصحة ربيعها وخريفها".
 
ظاهرة جديدة
 
في الفن المعماري الإسلامي
 
تزخر بغداد بالكثير من المعالم التاريخية والحضارية، وأهمها القصور الأثرية والمساجد الإسلامية القديمة ودور العلم مثل دار الخلافة والقصر العباسي ومسجد الخلفاء العباسيين المعروف قديما بجامع القصر أو جامع الخليفة والمدرسة المستنصرية والتي تشكل ظاهرة جديدة وفريدة في الفن المعماري الأسلامي. فإلى جانب العمارة وجدت الزخرفة التي وصفت بأنهما لغة الفن الإسلامي، وتقوم على زخرفة المساجد والقصور والقباب بأشكال هندسية أو نباتية جميلة تبعث في النفس الراحة والهدوء والانشراح. وسمي هذا الفن الزخرفي الإسلامي في أوروبا باسم أرابسك. تبوأت بغداد مكانة سياسية مرموقة، بأعتبارها عاصمة الدولة العباسية القوية الناهضة الممتدة من المحيط الأطلسي غرباً الى حدود الصين شرقاً، وازدهرت فيها الصناعات الحرفية والزراعة والتجارة وتميزت بالتفاعل الخصب مع حضارات الآخرين. وأصبحت إحدى أكبر مدن العالم وأجملها، وحاضرة العلوم والفنون وملتقى العلماء وقبلة الدارسين من شتى بقاع الدنيا، طوال عهود نهوضها وإزدهارها، لكن نجمها أخذ بالأفول مع بداية غروب شمس الدولة العباسية ككل. وتعرضت لكثير من الغزوات الخارجية والتقلبات الداخلية فقد غزاها المغول والصفويون والعثمانيون والأنكليز وغيرهم، حيث عانت المدينة الأمرين خلال فترات احتلالها على مر العصور.
 
يوم بغداد :
 
يكاد يجمع المؤرخون والجغرافيون العرب القدامى والمحدثون على أن تشييد بغداد بدأ فى عام (762 م) ولكنهم يختلفون فى تحديد اليوم الذي وضع فيه المنصور حجر الأساس لعاصمته الجديدة. ويقول احد خبراء القانون، أنه إستناداً الى توصية اللجنة التي شكلها الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم والتي ضمت كبار العلماء والمؤرخين، صدر قانون من مجلس الوزراء يوم 17/11/1962 عندما كان هذا المجلس هو السلطة التشريعية فى البلاد بتحديد الأيام الأول والثاني والثالث من شهر كانون الأول عطلة رسمية لمناسبة ذكرى تأسيس بغداد والذكرى الألفية للفيلسوف الكندي. وهذا القانون لم يتم الغاؤه او تعديله وما يزال سارى المفعول.
 
بغداد بين زمنين: معالم بغداد التأريخية والحضارية، التي تعد من أروع إنجازات الفن المعماري الأسلامي ومثار إعجاب العالم على مر العصور، أصابها الإهمال منذ سقوط بغداد بيد المغول فى عام 1258م وحتى ثورة 14 تموز 1958م، حيث أعدت حكومة الثورة برنامجا طموحا لإحيائها، وكانت فاتحة ذلك إعادة ترميم وصيانة وتحديث بناية أول جامعة فى التأريخ وهي المدرسة المستنصرية، وقد افتتحها المرحوم عبدالكريم قاسم في احتفالات تموز 1960 بكلمة تنم عن عمق أعتزازه بتراث بغداد الثقافي والحضاري، ثم ألقى شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري قصيدة طويلة رائعة، نقتطف منها ما يلي:
 
 
 
أعدْ مجد بغدادٍ ومجدُك أغلبُ وجدّْد لها عهداً وعهدك أطيبُ
 
وأطلع على المستنصريةِ كوكباً وأطلعته حقاً فانك كوكب
 
أقمت بها عزاً عريقاً مكعباً وكان بها ذلُّ عريق مُكعٌَب
 
أبا كلَّ حر لا أبا الشعب وحده اذا احتضن الأحرار فى أمةٍ أب
 
هنيئا لك العيد الذى أنت رمزه بذكرك يستَعلى وبأسمك يَطرَب
 
أعد مجدَ بغدادٍ تُعدْ مجدَ أمة به الكون يَزهَى والحضارات تعجَب
 
 
 
لم يتسن للزعيم الراحل تنفيذ كل ما خطط له من مشاريع إحياء مجد بغداد القديم، ولم يدر بخلد من أتى بعده أن يستكمل المشوار، لأنهم لم يكونوا جديرين بذلك. ولكن أمانة العاصمة تقيم سنويا وعلى نحو غير منتظم، معرضا للزهور فى متنزه الزوراء أحتفاء بيوم بغداد فى السابع عشر من تشرين الثاني وهو تأريخ مغلوط لا يستند الى أي مرجع علمي او قانوني. ولم تفكر يوما بترميم وصيانة معالم بغداد الحضارية المهملة، التى تحول الكثير منها الى خرائب وأنقاض ومكبات للقمامة، أما النصب والتماثيل الفنية التى ترمز الى حضارة بغداد الإسلامية، فقد أزيلت أو شوهت ومنها تمثال باني بغداد أبو جعفر المنصور. وهذا هو الفرق الجوهري بين زمنين، زمن البناء والإعمار وزمن التخلف والدمار. 
Share |