قيس لفتة مراد . . وجدان مرهف ووجع مستديم --كريم شلال الخفاجي

Sun, 19 Jun 2011 الساعة : 9:30

 بسم الله الرحمن الرحيم
شاعر ينسج نصوصه من خيوطٍ متشابكة متعددة الألوان معبّرا فيها عن رؤاه ومواجده ، وكأنه عصفور يتنقل من غصنٍ إلى غصن ويلتقط حبَّةَ قمحٍ وبعدها حبَّةَ نباتٍ آخر طائرا من أفق إلى قاعٍ ومن قاعٍ إلى أفق وكأنه يضمُّ العالمَ كلَّه بين جناحيه الرقيقين الموشحين بالندى تحت سماء مكلّلة بالغمام . فالحب هو التيار الدافق الذي يغمر القصائد جميعا ، حب كل ما هو جميل وبرئ في النفس والكون والحياة .

يكتب الشعر بكل أوزانه ينسل كما الريح في خفايا الإبداع ، فتراه متألقا في الرسم والخط كما في الشعر ، فشعره عذب وسلس، تمتزج فيه مكامن الحزن مع اللمحات الفلسفية عاشق حد الذوبان لمدينته ، قرا الشعر بتذوق واغترف منه من منابعه الاصيلة بعد عشقه لشعر المتنبي وابن الرومي لذا نشا كما العود في الصحراء ضاربا بجذوره في عمق التراث الادبي ، كل ذلك وان حصنه باطر الشعر بل منحه امكانات هائلة في توظيف مفردته واعطاؤها دفقات تنبض بالحياة بل رسمها رسمة العارف لكن ذلك لم يجعل له من الحظ نصيبا في واحة الشعر ، اذ لم تنصفه الاقدار ، حيث يقول :
تشكين إني شاعر . . وأنا شاعر كبير . . ولكن الحظوظ عواثر
لم تتوفر للشاعر تلك الظروف البسيطة التي تنصفه ليعطي قطافه بل كانت قاسية عليه وكانها متفقة عليه فعملت جميعها على تدميره (كالفقر وتجاهل ابداعه وهموم عائلية ) بل لتخرجه مكرها من موطن صباه وملعب احلامه "الناصرية " شانه بذلك شان "عقيل علي وكمال سبتي " وغيرهم ، فخرج منها مجبرا الى بغداد ظانا انها المنقذ يقول : الحب والشعر وزيف الغنى وكل ما يرجى . . . وما يفنى
يفقد معناه لدى غرفة في السطح مثلي في اعتزال الدنا
ان المتفحص لقصيدة "قيس لفته مراد " بدقة تتراءى له مكامن الحزن العميق التي تظهر عنده مهما حاول اخفاؤها دالة على عمق جرحه الذي الم به دون ان يندمل ، فهو جرح اوغل في ثنايا روحه بعد تركه لموطن صباه تارة ، يقول : ولي في الناصرية الف شوق قديم ، ووقعه ابدا جديد
اعدني يا زمان الى ربوعي فغير الناصرية لا اريد
وتارة يظهر الوجد المتوقد الممزوج بالاحساس الشعري في شعره في ادق صوره وابهاها في قصيدته " الى امي " بعد احساسه بالقصور المتناهي نحوها يقول :
ذنبي بحقك ليس يغتفر فبأي عذر منك اعتذر
وتارة اخرى بتذكره لمواطن صباه وملاعب احلامه بل تذكره بمن احب كابنته " اينانا " يقول :
ياخر الشوق ياتي اخر العمر هلا اتيت وفي قيثارتي وزري
وحتي محطات العشق والهيام كانت نبيلة بعد ان سجلها متنفسا لغربته فتظهر في عشقه،فتراه متساميا عن ذلك العشق المبتذل الذي يناغي الجسد والشهوات ، بل كان يروم حبا يعانق روح من احب ، حيث تؤكد ذلك الفاظه التي تبتعد تماما عن الالفاظ الحسية المثيرة للشهوات يقول :
العلاقات دون أي نقاء والصبابات دونما عنفوان
جسد يشتهي فيتبع ما يشتهيه والروح في حرمان
وهي بلا شك ادانة نقية تدين النمط المالوف في علاقات الحب المنادية بتصحيح الخط البياني المنحرف ، حيث ينوء الشاعر بالهم الاكبر وهو الحرمان وفقدان المعادلة من طرفين "الحبيب والحبيبة " و كل ذلك التذكر والاستحضار هي محاولة بائسة من الشاعر لكسر طوق اغترابه القاسي ليصل به الحال الى استنطاق التاريخ ليفهم حتمية الموت على الناس وكانه يؤبن نفسه يقول :
لو تعيد اللحود ما في اللحود ما طوته يد الامس البعيد
كل ذلك جعل من الشاعر يعيد حساباته الدنيويه بعد ان شعر بعدم رضاه بل عدم قناعته ببعض المعتقدات بدون كفر ولا الحاد ، ولعله يتسائل كثيرا في منفاه البغدادي "البتاوين " عن امور لا يفهمها كما لا يفهمها غيره من الناس فيظل متحيرا امامها ، وهي بلا شك نزعة صوفية فلسفية ، نتجت عنها قصيدة " اغاني الحلاج " وهي دلالة واضحة على دنوه واقترابه الى ربه بعد شعوره بالتفرد عن الزمان والانسان يقول :
نحن العبيد المرهفين تعلقت بهواك افئدة لنا . . وشفاه
السبيل الا رضاك . . فلم نجد الا طريق الجرح . . فاخترناه
وهكذ يدرك ان اوراقه بدات تتساقط فيحاول استذكار بعض محطاتها المشرقه ظانا ان فيها عزائه ، قيقلب امكنته القديمة التي عبث بها الزمان وغير معالمها بل اثارها الجميلة واخذ الردى من احب يقول :
اين اهلي ورفاقي
اين اين اللذات
كل شيء تغير اليوم فيها
الورى والبيوت والطرقات كل شيء فيه غريب . .

ولعل حالة الياس والقنوط تصل اوجها بعد ان ظل يتخبط بايجاد حلولا لماساته ظانا ان في الشراب العلاج يقول :
هربت الى الشفاء فما شفاني من الداء القديم ولا حماني
فكنت افر من كاس لكاس وكنت الوذ من حان لحان

وتتكالب عليه المواجع لتملا قلبه حزنا محملا بالهموم والاحزان ، فلم يجد الا في القصيد عزاءا يقول :
وتعصرني الكابة في العصارى لاني ليس لي في الارض دار
ولعله يناجي عمره المتهاوي الافل نحو الستين يقول :
يا صاحب الستين كيف نسيت ما تركت بك الستون من اثار
وهكذا يظل يناجي في لحظاته الاخيرة وكانها لحظات احتظار يستشعرها ليطلب المستحيل حيث يناجي الريح ظانا بانها تحمله لمن يريد ان يعانق في تلك اللحظات يقول :
لو ريح هذا الليل تحملني وانا الخفيف . . اخف من بردي
ويسجل ما جناه في دنياه الغادرة التي خرج منها كغيره خالي الوفاض الا من عمله ، وهي التفاتة رائعة تحسب للشاعر حيث يرى ان الانسان خارج لا محالة من هذه الدنيا كنظرية حتمية وهي نزعة صوفية جادة وان كانت متؤخرة يقول : ستون عاما عمر نخلتنا وحصيلتي من عذقها الحشف
تجاهلته اقلام الباحثين والنقاد ردحا من الزمن الا ما ندر في حياته ( وهي خصلة ليست بجديدة على المبدعين ) وبالتالي انعكس ذلك سلبا على مجريات حياته ، الامر الذي جعله يركن بعيدا عن الاضواء بسكون واكتئاب بل حزن دائم ، لذا هيمنت عليه مخالب الاغتراب ونفذت الى نفسه الشفافة لتنشر فيها غبار الاسى والهجران المستديم لتحيلها ركاما ايلا للسقوط .

ويغادرنا الشاعر الى جوار ربه تاركا ارثا ثقافيا ذو " سبعة دواوين " وهو شيء لا يستهان به ، وسيظل نهرا تغترف منه الاجيال بعد ان تحين اللحظة التي تنصفه بها اقلام النقاد ، خصوصا ان جل شعره كان شعرا ملتزما عالي المقام لامتلاكه احساسا عاليا متناولا مواضيعه بلغة فنية سهلة يسيرة الالفاظ معتمدا فيها على صوره التقريرية مبتعدا بها عن الرمزيات التي تذهب جماليتها بعد ان طعم قصائده بموسيقى مرهفة متناغمة مع ما يحمله من مشاعر دافئة تنبا عن حنين لاهله وذويه .

 

Share |