لنزعة النفسية في أثبات الدليل الاستقرائي لتحصيل المعرفة البشرية0(بين دافيد هيوم ومحمد باقر الصدر).الحلقة(1)/عبد الباري مايح الحمداني

Mon, 3 Sep 2012 الساعة : 0:52

 

لا يمكن وفق البحوث النفسية التجريبية المعاصرة فصل المعرفة البشرية- سواء كانت معرفة الواقع الموضوعي المحيط بالإنسان أو معرفة الإنسان لذاته- عن المعاني وأنظمة الإشارات التي تحيل المعرفة من عنصرها المادي الواقعي إلى عنصرها البشري،بهذا المعنى لا يمكن التسليم بمعرفة واقعية موضوعية،ولا معرفة ذاتية ذهنية باعتبارهما نموذجين منفصلين عن بعضهما،وإنما باعتبارهما مكون معرفي كلي يعكس التمثيل المعرفي للفرد عن الواقع الموضوعي، على أن الاختلاف بقي في أصل ومنشأ المعرفة هل هو الذهن أم عالم المادة.(لي اونتيف،1985)
بعد سنوات من البحث والتنقيب في جوهر الإنسان والعالم ومكانته فيه،في أصل المعرفة البشرية ونموها،توصلت الإنسانية بفضل الحقول المعرفية المتجددة إلى أن صور المادة ما هي إلا تمثيلات ذهنية وصور لأشياء موجودة في عالم الواقع،ونحن بهذا المعنى لا ندرك العالم كما هو بل ندركه من خلال إحالته إلى صور وإيقونات تنطوي على أحالات أخرى من المعاني والأفكار المشتقة من تلك الصور والمنفصلة عنها في الوقت ذاته، هناك نشوء لبنية جديدة في الذهن لعالم الواقع الموضوعي تبدا من مكوناتها غير أللفضية المتمثلة بالصور والأيقونات والأبنية السيميائية لها،Iconic Semantic Structures،وهي تتعدى المادة الحسية أو الانطباعات الحسية القادمة كخبرات منفصلة بفعل مثيرات البيئة،وتلك المرحلة الصورية الايقونية تنعكس في عمليات التفكير البصري Visual Thinking،صعودا إلى المكونات اللفظية المتمثلة بالمفاهيم والأبنية التجريدية العليا ومن ضمنها القيم والمعتقدات والبديهيات الاجتماعية وتنتهي بأشكال التفكير العليا التي تبرز خلال ما يطلق علية ماوراء المعرفة Met cognition، وتتوسط تلك التحولات من المستوى الصوري إلى المجرد عمليات الإدراك والفهم والتوجهات القيمية وعمليات الوعي بالذات وتقييمها وتنظيمها.(الحمداني،2010)
 
بعد تلك المقدمة لابد من الإشارة إلى نموذجين معرفيين وهما مادة تلك المقالة الأول: تبناه المفكر الإسلامي المعروف( محمد باقر الصدر) ويندرج تحت فكرة(أن أصل المعرفة هوا لذهن) والثاني: تبناه الفيلسوف الكبير(دافيد هيوم)، رائد المذهب التجريبي،ويندرج تحت فكرة(أن المعرفة تنشأ بفعل عوامل الترابط بين الأحداث،وهذا الترابط منشأه نفسي ،بعبارة أخرى أن-العادة-هي التفسير الأكثر قبولا للتخلص من التناقض الذي تتضمنه عملية الاستقراء باعتبار أن مقدماتها لا توازي نتائجها) وجاءت بعد ردح من الزمن المدرسة السلوكية في علم النفس والتي نقلت أفكار (هيوم) من الصعيد الفلسفي إلى الصعيد التجريبي .(الصدر،1972)
يوضح دافيد هيوم مشكلة الدليل الاستقرائي والتي يحاول علاجها كما يلي:
إن جميع الاستدلالات الخاصة بأمور الواقع مبنية على أساس علاقة العلة والمعلول،وهذه العلاقة،هي العلاقة الوحيدة التي يمكن إن تتعدى الحواس وتتنبأ بموجودات وأشياء أخرى لا نراها ولا نشعر بها،ونحن مثلا نعتقد أن شخص سيحترق ويموت لو اقتحم النار.وان مصدر تلك المعرفة هي التجربة،التي جعلتنا نلاحظ فيما سبق أن اقتحام النار يؤدي إلى الاحتراق والاحتراق سوف يتكرر في المستقبل( وهذا المتصل بين الحالة في الماضي والحالة في المستقبل ينتج عنها حالة الاحتراق ألان،وللاقتران إذا بعد زماني وبعد مكاني،ومن خلال التكرار،ساهم الاقتران في نشوء فكرة الاحتراق).
وهكذا يضع دافيد هيوم المشكلة ثم يجيب عليها،بان المبرر لهذا المبدأ ليس منطقيا،وإنما مبرر سيكولوجي،يمكن اكتشافه بتحليل موسع لنفس علاقة العلة والمعلول التي كانت تشكل أساس استدلالاتنا الخاصة بأمور الواقع وفيما يلي توضيح ذلك:
يذكر محمد باقر الصدر(الأسس المنطقية للاستقراء،1972: 96)،"أن هيوم يصنف الادراكات إلى طائفتين(الانطباعات والأفكار)،ونستطيع التميز بينهما من خلال القوة والحيوية التي تصاحب كل منهما في الذهن،فالادراكات ذات القوة والحيوية يسميها الانطباعات،وتندرج تحتها الإحساسات والعواطف والانفعالات.وإما الأفكار فهي الصور الواهنة لهذه الانطباعات والتي نجدها في إدراكنا حال غياب الموضوع عنا وكل فكرة هي وليدة انطباع".
وفي علم النفس المعاصر توازي الانطباعات مفهوم(الخبرات الحسية الخام)، أما الصور الواهنة لها- وهي الأفكار عند هيوم- فهي (الإيقونات البصرية)،المتشكلة من تلك الخبرات. فعندما ننظر لشئ نكون انطباع حسي عنه،وعندما ندير نظرنا عنه نكون عنه صورة وتلك الصورة تتحول لفكرة في مراحل لاحقة. وعلاوة على ذلك فان هناك إثبات علمي مفاده أن الصورة ما هي ألا فرضية معرفية توازي شيا في الواقع وتلك الصورة تمتاز بكونها بناء عقلي معرفي متعدد الإبعاد،فهي تتخطى تلك الانطباعات الحسية التي كونتها باعتبارها نتاج معرفي كلي،ومن خلال التشفير والخزن يتم استدخالها ضمن ابنيه الفرد المعرفية.
ويرى هيوم أن الملكة التي نسترجع فيها الأفكار هي التذكر وهي تمتاز بالقوة لأنها نسخ حرفية للانطباعات التي ولدتها،أما الانطباعات ذاتها نعيدها من خلال الخيال .
 
 
يرى هيوم أن هناك علاقات تنشأ عادة بين الأفكار الناتجة عن الانطباعات،يسميها الصدر( الأفكار البسيطة)،تجعل الذهن ينتقل من فكرة لأخرى، نتيجة لارتباط احدها بالأخرى بعلاقة من تلك العلاقات. وهذا ما يسمى بالتداعي،وتلك العلاقات التي تؤدي الى التداعي وانتقال الذهن من فكرة لأخرى هي التشابه والتجاور في المكان والزمان.والعلة والمعلول وعلاقة العلة والمعلول هي أهم تلك العلاقات لأنها تمتاز عن العلاقتين الأخريين بأنها لا تقع على بعد واحد،بعبارة أخرى تثير بوقوفها على الحد الأول التفكير في الحد الثاني، فإذا رأينا الماء على النار فإننا ندرك حرارة ذلك الماء،من خلال إدراكنا لحرارة النار رغم أننا لا ندرك سوى حرارة حد واحد(النار) وهذا الإدراك لا يتطلب انطباعا سابقا،على نقيض الحال في علاقات التشابه والتجاور الذي يتطلب انطباع سابق،فنحن عندما نرى شخص يسير الى جانب صديق له دائما،ينتقل الذهن الى ذلك الصديق بالرغم من عدم وجوده،الحالة هنا تكونت من انطباع سابق(الاقتران). وهكذا نلاحظ أن العلية وحدها القادرة على أن تنقل ذهننا الى فكرة شئ لم يكن قد مثل أمام حواسنا وعلى هذا الضوء تعتبر هي الأساس لكل الاستدلالات المختصة بالواقع.
ما قدمه دافيد هيوم في السطور السابقة يتصدى له الصدر بسؤال" كيف وجدت فكرة العلة والمعلول في الذهن؟" مادمنا قد عرفنا أن كل فكرة هي وليدة انطباع،فما هو الانطباع الذي ولد في ذهننا فكرة العلة والمعلول؟، يذكر الصدر انه ليتاح لنا الجواب على هذا السؤال يجب أن نعرف: ما هي فكرتنا عن علاقة العلة والمعلول؟ وهنا يذكر "الصدر "إجابة "هيوم "عن هذا التساؤل بان فكرة العلة والمعلول لا تعني مجرد تجاور الظاهرتين زمانا ومكانا،إذ كثيرا ما تتجاور ظاهرتان زمانا ومكانا دون أن ندرك علاقة العلة والمعلول بينهما،ولو عدنا للتجربة لنكتشف ذلك الانطباع،لنرى أن الاقتران بين (ا) و(ب)،لمرات عديدة ومتكررة يمدنا بفكرة الضرورة لا فكرة العلية، و يرى الصدر أن التكرار نفسه وتعدد الأمثلة لا يمكن أن يكون مولدا لفكرة الضرورة،كما يرى هيوم،لان تعدد الامثله يعني للصدر تعدد الانطباعات لان كل مثال يولد انطباعا خاصا به، وان كل واحد من هذه الانطباعات لا يمكن أن يولد فكرة الضرورة،لان الضرورة ليست شيئا محسوسا لكي تدخل في نطاق الانطباع الحسي، كما لا يمكن أن يكون تعدد الانطباعات المتماثلة وتكرارها سببا لإيجاد فكرة الضرورة،لان الفكرة لا تنشأ إلا عن انطباع، ويشير هيوم للتخلص من تلك المفارقة الى أننا إذا رأينا(ا) يقترن مع(ب) مرات كثيرة،نحصل على انطباع من الإحساس بكل مرة من تلك المرات،وهذه الانطباعات التي تساوي عدد المرات ليست في أية واحدة منها القدرة على إيجاد فكرة الضرورة،ولكن نحصل الى جانب تلك الانطباعات على انطباع يثيره في الذهن نفس تكرار الأمثلة التي اقترن فيها(ا) مع (ب)،وهذا الانطباع هو تهيؤ الذهن لكي ينتقل من موضوع الى فكرة ترتبط معه،وهكذا فتكرار الأمثلة شرط لانتقال الذهن من فكرة لأخرى،وهذا التهيؤ الذهني هو الانطباع الذي يثير فكرة الضرورة،أي فكرة العلة والمعلول. وبهذا فان اعتراف كهذا من هيوم،ما هو ألا تسليم بفكرة أن انطباع العلة والمعلول شئ قائم في الذهن وليس وليد تكرار الاقتران ألزماني المكاني.
 
هذه هي طبيعة الضرورة التي تمثلها فكرة العلة والمعلول،هي عند الصدر شئ قائم في الذهن،وعند هيوم - مع قبول التناقض في إثباته لها- هي نزعة الذهن بفعل التكرار(الاقتران)،للانتقال من فكرة لاخرى،فالمصدر للمعرفة عند هيوم،اقتران ظاهرة بأخرى،حدث وأخر،وفي لغة علم النفس اقتران مثير طبيعي بآخر شرطي يكتسب خاصية استدرار ذات الاستجابة التي رافقت المثير الطبيعي،كما يراه أصحاب الاشتراط الاستجابي(بافلوف وتابعيه).(نفس المصدر السابق)
 
اعتراض الصدر على ذلك يتمثل في قوله"أن هناك نزعه في الذهن تجعله ينبسط على الموضوعات الخارجية ويخلع عليها كل الانطباعات الداخلية الباطنية،التي تحدث في عين الوقت الذي تنكشف فيه الموضوعات للحواس"، تلك العبارة ترتبط بزمنها (العام1972)،إذ كانت تتزامن مع صيحات سبقتها أو عاصرتها،تمثلت في الاتجاه المعرفي،أو دور الفرد في حدوث التعلم،وعلى سبيل الاختصار،في مطلع السبعينيات من القرن الماضي ،طرح العالم الروسي(سميرنوف)،فكرة أن الخبرات الحسية القادمة من البيئة،تعد انطباعات حسية مجزاة،وبفعل(الصورة وهي نتاج الذهن باعتبارها نتاج لفعل معرفي يتم في الذهن)(سميرنوف2000)،والصورة هي المرحلة الايقونيةIconic Stage لتمثيل تلك الانطباعات،حيث تتحول تلك الانطباعات إلى صورة كلية ذات معنى،يحدده عاملين،الأول: الأبنية المعرفية السابقة واستعدادات الذهن،والثاني:طبيعة الخبرات (الخام)القادمة من البيئة،وللصورة عند السيكلوجين الروس،طبيعة ممتدة ومرنه،وبفعل التحولات البصرية التي تعد خواص ذهنية لا خارجية،(مع العلم أن هذه النظرة كانت محظورة قبل هذا التاريخ،إذ يقوم علم النفس الروسي على أفكار السلوكيين وأنصار البيئة) بفعل تلك التحولات يحدث ما أطلق عليه الروس(أعادة التشيئ Re-objection) ويقصد به إعادة إنتاج مكونات الواقع ليتحول إلى موضوع ذاتي أو معاني فرديةIndividual Meaning وهذه الخاصية ذهنية ومعرفية مشتقة من عالم الواقع ومنفصلة عنه.
 
سادت الصيغة(مثيرS- استجابةR) مرحلة زمنية امتدت لأكثر من قرن في تاريخ علم النفس ،وهي في ما تعنيه أن الإنسان يستجيب بطريقة آلية لمثيرات البيئة،ثم جاءت محلها الصيغة(المثيرS-العمليات المعرفية(الذهن)B- الاستجابةR)،وغاية الأمر أن الصيغة الثانية أولت اهتمام للفرد باعتباره ليس متلقيا سلبيا،بل هو كائن معرفي،لكنها أبقته محبوسا بالبيئة، ثم جاءت الصيغة(مثيرR-صورةI-مفهومC)،والأخيرة،فتحت الباب أمام فكرة أن المثير هو مجموعة من الانطباعات الحسية عن شئ أو عنصر من عناصر البيئة،يعطيه الذهن معنى فيحوله إلى بناء كلي ،بعبارة أخرى أن الذهن يعيد صياغة عناصر المثير بأكثر من كيفية وصيغه، من جهة ،ويقوم بربطه مع معاني سابقة أو ابنيه معرفية سابقة من جهة أخرى، وتلك الصياغة الجديدة أطلق عليها(الموديل Model) والموديل هو نظام من المعاني والدلالات وتلك التحولات هي إمكانيات فطرية في الدماغ وليست إمكانيات خارجية تتعلق بالبيئة(الحمداني،2011).
 
الحقيقة أن كل من محمد باقر الصدر ودافيد هيوم يتفقان أن هناك تناقضا في الطفرة التي يشتق فيها الدليل الاستقرائي المعرفة من الخاص(القانون)،إلى العام (التعميم)،ويتفق الصدر مؤقتا (لغرض النقاش)،مع هيوم في أن التناقض الذي يحتويه الاستقراء في كون أن مقدماته لا تتناسب مع نتائجه،يمكن أن نبرره بان قبول التعميمات في الاستقراء منشأه ذاتيا نفسيا،بعبارة أخرى يسلم الإنسان بنتائج التجربة واستقراءاتها،لوجود اعتقاد في صحتها،وهذا التسليم هو نتاج إدراكي محض،فالتجربة هي عزل اثر متغيرات محايدة أو دخيلة وإعطاء الفرصة لمتغير واحد فقط(المتغير التجريبي)،لنثبت من خلال التجريب أن الأثر يعود إليه فقط لا لغيره من المتغيرات،هذا فقط يتيح لنا أمكانية تعميم النتيجة من حالة واحدة إلى عدد كبير من الحالات،وتلك المرحلة أطلق عليها هيوم(الاعتقاد).
 
يطرح الصدر تساؤلا مفاده(ما لذي يقصده هيوم بالاعتقاد؟)،هيوم يقول أن الاعتقاد هو فكرة تتمتع بدرجه كبيرة من الحيوية والقوه،وقد عرفنا والكلام للصدر أن هيوم يقسم الإدراك إلى انطباعات وأفكار،وميز الانطباع بما يتمتع به من حيوية وقوة خلافا للأفكار التي لا تمتلك تلك الخصائص.
 
نقد وتمحيص الصدر لمفاهيم دافيد هيوم
نقطة البدء التي يقول الصدر يجب أن نبدأ منها هي طريقة هيوم في تفسير الاعتقاد،وهذه الطريقة تتلخص في أمرين:
الأول: أن الفارق بين التصور والاعتقاد ليس في المحتوى،بل في طريقة إدراكهما،فهناك فارق بين مجرد تصورنا لفكرة معينة،وحكمنا بوجود الشئ الذي تمثله هذه الفكرة،نجد فرقا بين الأمرين،ولا يتمثل هذا الفرق في إضافة عناصر جديدة في الحالة الثانية إلى ما كانت عليه الفكرة في الحالة الأولى،بحيث تصبح الفكرة اعتقادا. فلا يوجد فرقا بين التصور العقلي للشئ وكون أن الشئ موجود فعلا،فصفة الوجود للشئ لا تضاف إلى صفات إدراكنا له،فعندما نقول أن شئ موجود،فهذا الوجود ليس له فكرة خاصة به تضاف أو تحذف عن فكرتنا عنه .
 
يعترض الصدر على فكرة هيوم في "ان هناك فرقا واضحا بين أن أتصور فكرة معينة لكائن معين،وبين أن اعتقد أن الكائن الذي تصورت فكرته في ذهني موجودا،ولما كان هذا الفارق –كما تقدم- ليس في مقومات الفكرة ومحتواها،إذا لابد أن يكون ناتجا عن الطريقة التي نتصور بها الفكرة"فلو سلمنا بوجهة نظر هيوم "صورة الفكرة ترتسم في أذهاننا على نحو ما فتكون فكرة،ثم ترتسم على نحو آخر فتكون اعتقادا بوجود الشئ الذي تمثله تلك الفكرة،الفرق يعود لطريقة الإدراك لا إلى محتوى المادة المدركة؟
الثاني: أن مرد هذا الفارق في طريقة ارتسام الفكرة في ذهننا إلى ما تتمتع به من قوة وما تمتلئ به من حيوية،فإذا كانت فكرتنا عن الشئ مجدبة خافته ليس فيها قوة فهي مجرد تصور،وإذا كانت زاخرة بالحيوية فهي اعتقاد. فالاعتقاد فكرة قوية حيوية،بينما التصور يعبر عن نفس الفكرة إذا خلت من الحياة والقوة.
 
يتفق الصدر مع هيوم في الأمر الأول في أن الاعتقاد لا يمتاز عن التصور بإضافة عنصر الوجود إلى محتواه،وإنما يمتاز عليه بطريقة الإدراك،ولكن الصدر يختلف معه في تبرير ذلك،يقول الصدر"نحن إذ نؤمن بان عنصر الوجود ليس هو المميز الأساس للاعتقاد عن التصور،نستند في ذلك إليه أن هذا العنصر قد يدخل في محتوى الفكرة،وتضل الفكرة رغم ذلك تصورا" ويسوق الصدر المثال التالي: أذا قيل لنا مثلا((يوجد طائر له رأسان))،ولم نصدق بذلك ،فسوف توجد في ذهننا فكرة طائر له رأسان،على مستوى التصور،وسوف نتصور وجوده ايظا دون إن نعتقد به.
فدخول عنصر الوجود في محتوى الفكرة لا يكفي ليجعل منها اعتقادا،وعنصر الوجود كأي واحد من عناصر الفكرة يمكن أن يصلح للدخول في محتوى التصور والاعتقاد معا. ورغم أن فكرة الوجود موجودة على مستوى التصور في (طائر له رأس واحدة)و(طائر له رأسان) فان الأولى ترقى لمستوى الاعتقاد والثانية تبقى على مستوى التصور.بهذا يؤكد الصدر أن الفرق بين التصور والاعتقاد في طريقة الإدراك لا في محتواه،بينما يحاول هيوم أن يستخلص النتيجة نفسها من القول بان الوجود ليس من العناصر التي يمكن أن تضاف إلى ما ندركه فتزيد فيه شئا ،لأننا إذا تصورنا شيئا ،ثم تصورناه موجودا،فلا نجد إننا أضفنا بذلك إلى الشئ صفة جديدة.فقولنا(طائر له رأسان) و0طائر له رأس واحده) لهما معنى واحد. وهذا الموقف من هيوم تجاه الوجود،يرتبط بالتزامه المبدئي بان كل فكرة هي في أصلها نسخة من انطباع،وما دام لا يوجد هناك انطباع معين،تكون فكرة الوجود نسخة منه،فمن الطبيعي أن يضطر هيوم إلى القول: بأن الوجود ليس عنصرا من عناصر فكرتنا عن الأشياء،أي إننا لا نملك فكرة عن الوجود،لعدم امتلاكنا انطباعا عن الوجود.(الصدر 1972)
يميل الصدر إلى القول بان بعض الأفكار ليست نسخا لانطباعات مباشرة،أنما هي مفاهيم انتزاعية عن أفكار أخرى. والذي يقصده الصدر في الانتزاع،هو التوالد والاشتقاق،الانتزاع مفهوم يشير إلى قدرة الذهن على تكوين أبنية وارتباطات من خلال أنظمة المعاني،فكل فكرة يتوالد من داخلها أفكار وانطباعات معقدة،وعن كيفية توالد تلك الأبنية يشير الصدر انه يترك الدخول في هذه النقطة لعدم صلتها بهدف كتابه0اسس الاستقراء)،بمعنى انه يمتلك نظرية لتوالدها،ولو قدر له ان يعيش أكثر،لقدمها للإنسانية.
 
أما الأمر الثاني: أن هناك أفكارا تتمتع بنفس الدرجة التي يحظى بها الاعتقاد-عادة- من الحيوية والنشاط والقوة،ورغم ذلك لا تندرج في اعتقاداتنا. مثال ذلك(خدعة انكسار العصا في الماء)،ورغم أن فكرة الانكسار مستمدة من انطباع حيوي وقوي لا يختلف عن أي انطباع حسي آخر،ألا أن الفكرة المتولدة منه(الانكسار) لا تمثل اعتقادا لان مجرد استخدام حاسة أخرى(اللمس) يثبت لنا خطأ الانطباع والفكرة معا.
 
ولو قال احد أن الانطباع البصري في انكسار العصا ولد فكرة انكسارها،وفي حالة اللمس تولد انطباع حسي آخر نتج عنه عدم انكسار العصا،وكلا الفكرتين يرتكز كل منهما على انطباعه الخاص وله من الحيوية والقوه ما يحيله إلى مستوى وكل الاعتقاد.والواقع أن فكرة واحدة فقط من بينهما تمثل اعتقادنا الحقيقي،دون الأخرى،نستطيع والكلام للصدر أن نعرف من ذلك أن الفكرة لكي تكون اعتقادا لا تكفي أن تحصل على الحيوية والنشاط من الانطباع الحسي،بل من عنصر آخر غير الحيوية والقوة يجعل الفكرة اعتقادا،وحيث أنا عرفنا سابقا أن العنصر الذي يميز الاعتقاد عن التصور لا يدخل في محتوى الفكرة،وإنما يتصل بطريقة ارتسامها في الذهن،فلا بد من التسليم بان العنصر الذي يرتفع بالفكرة من مستوى التصور إلى مستوى الاعتقاد،نوع من الفاعلية الذهنية التي تسبغ على التصور طابع الاعتقاد،وهذه الفاعلية هي حكم معين بثبوت القضية التي تعلق بها التصور،فان حكمت النفس بثبوتها أصبحت اعتقادا.
 
ما تقدم يمكننا استنتاج أن( ثبوت القضية) التي أشار إليها الصدر يعني أن النفس أو الفرد ينتقل من مستوى التصور(الوصف)إلى مستوى (الحكم)،الذي يتضمن وجود معيار أو قيمة تتم من خلالها المقارنة والمقايسة، ولو عدنا لتاريخ علم النفس فأننا نرى ان كل نظرية وكل اتجاه فيه قدم مقترحا نظريا وإطارا تجريبيا لذلك المعيار فمرة نراه الموازنة بين اللذة والواقع والضمير عند فرويد،ومرة أخرى نراه تحقيق الذات عند ماسو وروجرز،ومرة أخرى نراه تحقيق الكينونة عند فروم،ونراه نظام القيم والمعاني والتوجهات ذات القيمة عند روبنشتاين ولي اونتيف وقد يكون معنى الحياة وجدواها وهكذا،هو في النهاية محكات ومعايير يقارن بها الفرد وجوده الفعلي ذي المعنى أو حياته الخاوية عدية المعنى.
وفي الحلقة(2)،إنشاء الله سنواصل الحديث عن الجدل بين هيوم والصدر بخصوص علاقة العلية بكل من العقل،التجربة،والعلية على مستوى التصور والاعتقاد،والتفسير الفسيولوجي للدليل الاستقرائي عند الصدر ليكتمل بذلك موقف الصدر من هيوم باعتباره الممهد للنزعة النفسية في تفسير الدليل الاستقرائي.
 
مصادر المقالة
1-اوم لي اونتيف،مشكلة الإدراك في علم النفس،1985،كتاب صادر عن معهد علم النفس الروسي
2- الصدر،محمد باقر،الأسس المنطقية للاستقراء،1972،دار الفكر،بيروت
3- سمير نوف، التحليل السيميائي للصور البصرية،مقال منشور في مجلة،الدراسات التجريبية للذاكرة البشرية،عدد تموز 1976،معهد خاركوف للدراسات النفسية
4- الحمداني،عبد الباري مايح،2010،سيمياء الصور البصرية ،تحليل رموز الحياة لعينة من الشباب العراقي،مقال منشور في مجلة تقنيات التجريب في علم النفس،جامعة اوشينسكي
5-الحمداني،عبد الباري مايح،2011، الخصائص النفسية لأدراك صورة العالم للشباب العراقي والأوكراني،أطروحة دكتوراه
Share |