قراءة في مستقبل المثقف الديني العراقي/ظاهر صالح الخرسان

Tue, 28 Aug 2012 الساعة : 16:22

يجدر بنا بدايةً أن نشير إلى أن مصطلح "المثقف" من المصطلحات الجديدة في فضاء ثقافتنا العربية والإسلامية عموماً من حيث الاستخدام والتداول.. وهو يعطينا فكرة أولية عن وجود فرد أو مجموعة أفراد ينتمون إلى طائفة أو جماعة أو فئة أو طبقة أو نخبة أو صفوة من الناس تفكر بذاتها وبواقعها، وتتداول المعرفة في مجتمعاتها، وكل هؤلاء هم أشخاص موجودون في التاريخ وعبره، وفي كل المجتمعات، وعلى أرض الواقع، وبين الناس.
ويمكننا هنا أن نعرف "المثقف" عموماً بأنه الإنسان المطلع بعمق والقارئ بإدراك للحياة والمجتمع، والمنتج للفكر والمعرفة الهادفة التي تتميز بالانتظام والاتساق المنهجي.. وهذه الإنتاجية المعرفية التي يبدعها المثقف العام المتخصص في حقل فكري ما، يراد من خلالها التأثير في عقول الناس وتوسيع نطاق المشاركة المجتمعية حول جملة الأفكار (العقلية أو التجريبية أو الدينية أو.....الخ) التي يؤمن بها أو يعتقدها هذا المثقف، والتي يريد من المجتمع العام أن يتداولها من جملة ما يتداوله من طروحات وأفكار بالانطلاق من مرجعيات فكرية أو اعتقاديه أو أيديولوجية أو جمالية.
وأما مصطلح "المثقف الديني" فإنه أكثر تخصصية من مصطلح المثقف العام، وهو يشير إلى نوع محدد من المثقفين الذين يعتقدون بأحقية الحكم الديني (الإسلامي في بلداننا العربية والإسلامية)، ويبشرون بأولوية الدين وأحقية الفكر الديني الإسلامي على أي فكر آخر.. وهم ينهلون من معين الثقافة الإسلامية (وهي القرآن وفكر وسلوك النبي(ص) والأئمة(ع)) لمعظم مفاهيمهم ومبادئهم والتزاماتهم الفكرية والعملية في الحياة.. كما أنهم يضعون نصب أعينهم مهمة المساهمة الفعالة والمشاركة المنتجة في تحقيق وتمثل تلك القيم والطروحات الدينية التي جاءت بها رسالات السماء، ودعوات الأنبياء والأئمة والأوصياء، من خلال عملية التبليغ والدعوة والإرشاد.. هناك طرازاً خاصاً من المثقفين والمفكرين في أوساطنا الاجتماعية الدينية هم المثقفون الدينيون الذين لم يمنحوا حقهم كاملاً في ان يبدعوا وان يفكروا وان ينشروا نتاجاتهم كتبهم في فضاء مناسب من الدعاية والاهتمام ولم يمنحهم احد من المكانة والاعتبار مما يجعل لفكرهم وثقافتهم وفلسفتهم قيمة تذكر في نظر المجتمع ،وليس ذلك نتيجة قصورهم وتقصيرهم في كل الظروف بل ان هناك أسبابا وعوامل موروثة من التأريخ الطويل حالت دون ان يكونوا على الصفة التي يستحقونها،وفي محاولة لتعريف "المثقف الديني " يذهب الكاتب في تعريفه حيث يقول ((نستطيع ان نعرفه بأنه كائن ديني قلق يشعر بنشوة المعرفة ويتعذب بها في الوقت نفسه ينفصل عن الواقع ليحتك به في صور ذهنية داخل الرأس أو في كتاب ،ثم لا يثق بهذه الصور التي تولدت في رأسه فيرجع إلى الواقع الذي انفصل عنه مختبرا إياه بمقياس أفكاره وممتحنا أفكاره في ذات الوقت بمعيار الإمكان الذي يتألف منه نسيج الواقع ،وانه حساس للغاية فلا يشعر بالابتهاج بل يشعر بالحسرة كلما تذكر انه موجود في المخيال الاجتماعي بوصفه كائنا نخبويا لأنه لا يكتسب صفة المثقف بعمق إلا بأن يندك اندكاكا نهائيا بهموم المجتمع وقضاياه ومشاكله وأهدافه وسائر ما تتألف منه منظومة القيم عنده فهو عند الناس من النخبة وعند نفسه من أكثر الكائنات شقاءا. ))
يسلط الضوء على اهم مميزات المثقف الديني عموما :
فهو مستند إلى استمرارية شاقة وجادة في البحث والتنقيب والتحقيق في مختلف العلوم ومصادر التفكير الديني ،
لا يخشى المثقف الديني السلطات الاجتماعية القائمة وليس مضطرا لمسايرتها في دعم الخرافة وتزييف المقولات الدينية البريئة عن طريق شحنها بالمضامين والمفاهيم التي ليست منها ،
ويتعامل المثقف الديني مع كل متبنيات الشريعة أصولا وفروعا بذهنية منفتحة على كل الإشكاليات والتحديات العصرية
يعرج الكاتب على الفضاء الثقافي العراقي حيث يرى ان للمثقف الديني وجود متجذر في العراق منذ زمن طويل تقريبا لكنه غائب او مغيب تماماً عن ساحة العمل
الفكري والثقافي إلا تلك المساحة الضيقة من الوجود الهامشي في الصحف والمجلات او في الفضائيات التي امتهنت ثقافته وفكره النظري المعمق
فان العراق بلد طافح بالمثقفين الدينيين القادرين على العطاء الفكري والفلسفي من الزاوية الإسلامية التنويرية والحداثية ، إلا إن المتابعة المستمرة لإصدارات الكتب والدوريات التي تتخذ لنفسها هذا المنحى تكشف عن حقيقة مؤلمة للجميع ،حيث لانجد من المثقفين الدينيين العراقيين إلا العدد القليل جدا ممن انخرطوا في العملي الإبداعية داخل هذا الميدان بينما نجد العشرات من أسماء المؤلفين إنما هم من بلداناَ اقل شأنا من العراق بكثير من الناحية الإبداعية والثقافية ،خاصة فيما يتعلق بالاهتمام المركز الذي يبديه المثقف العراقي منذ نعومة أظفاره بالثقافة الدينية متدرجا من صورتها التقليدية إلى المستويات التركيبية المتشعبة التي تتجلى بها هذه الثقافة في صلتها الوطيدة بهموم التنوير وإشكالية الحداثة ،فالعراق هو البلد الأكثر اقتناءً واعتناء بالكتاب الفكري والفلسفي الإسلامي لكنه الأقل وجودا وحضورا في حيز الإبداع على هذا الصعيد من قبل قارئيه ومثقفيه ومفكريه في حين نجد إن حال المثقفين الدينيين في العالم العربي وكذلك الإسلامي في مصر وسوريا ولبنان وإيران مختلف تماما، إذ غالبا ما يكون المنجز الثقافي والفكري المتعلق بشؤون الدين وقضاياه وفكره متمثلا بإبداع هؤلاء المثقفين .
يجري الباحث مقارنة بين حالتين :حالة مثقف الديني العراقي والمثقف الديني الإيراني، ليثبت أن المثقف الديني الإيراني وغيره من أقرانه لا يمكن أن يبلغ معشار ما يعانيه المثقف الديني العراقي
ان الحياة العقلية في إيران من البدء أفضل منها في كل البلدان الإسلامية ،لذلك نرى في المكتبة الإسلامية عشرات بل مئات الأسماء من المثقفين الدينيين الذين مارسوا الإبداع الفلسفي والعقلي والشعري ضمن فضاء ثقافي يتقبل هذه الإبداعات ،ويعطيها الحق في ان توجد جنبا الى جنب مع الممارسات الفقهية والكلامية التقليدية التي ينجزها رجال الدين المتخصصون في هذ1ه المجالات ،على الرغم نرى في كتابات هؤلاء المثقفين والمعاصرين بعض الغصة التي تتسبب بها صعوباتهم وتحدياتهم مع الأوساط الرسمية التي تزعم لنفسها الحق في أحتكار التفكير الديني لكنهم لم يصلوا إلى مستوى اتخاذ القرار بالإحجام الكلي عن مواصلة السير على طريق الإبداع والكتابة ،على النقيض من واقع المثقف العراقي فانه بلغ من مستوى التفكير بالأزمة حدًّ السماح لنفسه بأن يفكر في وجود أزمة أصلاً حتى اتخذ قرارا لا شعوريا الناي والابتعاد عن الواقع واكتفى بالنظرة المشهورة التي تقسم الناس إلى عوام وخواص
ان مقولة الفلسفة الأدب العرفاني الضخم -في كل ما يوفره الإبداعيان من الفرص السانحة للممارسة النقدية داخل المناخ الديني نفسه -هما من نصيب المثقف الديني الإيراني ولا نصيب للمثقف الديني العراقي في شيء منهما إلا القليل ،
لن نجد في تأريخ المثقف الديني العراقي مثقفاً دينيا مثل جلال الدين الرومي أو حافظ الشيرازي أو سعدي الشيرازي الذين مارسوا اشدّ أنماط النقد في الدائرة الدينية من واقع كونهم مثقفين دينيين على الرغم من أن ثقافتهم الدينية تمظهرت من خلال الإبداع الشعري لكن تجد الهم المعرفي والفكري والفلسفي من منطلقات النقد والمراجعة والتحليل والتفكيك حاضرا لديهم بكل قوة ،
ولن نجد في تأريخ المثقف الديني العراقي مثقفا دينيا عظيما استطاع ان يخترق مجال الإبداع الفلسفي والاشراقي مثل الملا صدرا ولن نجد مثقفاً من طراز علي شريعتي في فضاء الثقافة الدينية العراقية
فلم يكتسب المثقف العراقي خلال التأريخ الطويل سجية نفسية مستقلة فهو سلبي
للغاية اتجاه ما لثقافته على نفسه من الحق ،ولم يستطيع المثقفون الدينيون على طول الفترة من خلال تبلورهم داخل المجتمع كأفراد مبعثرين داخل المجتمع ،أو كأساتذة في المدارس والجامعات او كتاب في الصحف والمجلات أن يؤسسوا لأنفسهم هيئات ومؤسسات يمارسون من خلالها أنشطتهم في كتابة الفكر الديني ولعبت عوامل قهرية أخرى خارج إرادتهم مما علتهم مجبرين على الانزواء والعزلة والانكفاء على الذات على العكس من ذلك نجد الفضاء الثقافي الإيراني يشهد حركات فكرية غير عادية على طول التأريخ قد أسس لها ونظّر لها مثقفون دينيون كبار لا يقل شانهم عن شان كبار المجتهدين في الأوساط الحوزوية الإيرانية أمثال شريعتي ومهدي بازركان اضافة الى موجه اخرى شهدتها الساحة الثقافية الايرانية التي تمثلت بعبد الكريم سروش وأضرابه من المفكرين الإيرانيين المعاصرين
ما هو السبب الواقعي وراء حالة التخلف اللاأعتيادية التي تكتنف حلة المثقف الديني العراقي قياسأ الى نظيره الايراني او حتى قياسأ الى اقرانه في بلداناً أقل شأنا من العراق عموما ؟
هناك مشهد عام لهذا الموقف التقهقرائي أكثر وضوحا وأجلى بينا ربما يسلط الضوء على دراسة هذا الواقع المأساوي الذي أحاط بالمثقف الديني العراقي سنقف عليه في الحلقة 2 إن شـــــــــــاء الله

* المقال مستل من كتاب "إشكالية المثقف الديني بين سندان التقليد ومطرقة الحداثة"للمفكر الاسلامي باسم الماضي الحسناوي 

Share |