الأبناء بين الطاعة والعقوق/فلاح السعدي
Mon, 27 Aug 2012 الساعة : 15:12

(وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً) (الإسراء:23)
إلى الأبناء...
الباري جلت قدرته قرن مع عبادته الإحسان إلى الوالدين وذلك لأنه ( جل وعلا) سر الوجود وجعل من الوالدين سببا لوجود البشرية من الخلق الأول, فكما يستحق الشكر والحمد لأنه أوجدنا في هذه الحياة التي هي معبر إلى الحياة الخالدة, كذلك أمرنا بالشكر والإحسان للسبب الذي ولدنا منه وهما الوالدين, بل شدد على ذلك بأن قرن رضاه برضاهما وطاعته بطاعتهما, واعتبر عقوقهما من اكبر الكبائر بعد الشرك بالله, ثم أن ترابط البشرية ينبع من الوالدين اللذين أنشئا الأسر التي كونت المجتمعات والدول والقارات, فلذا كان كل شيء مرتبط بهذه العلاقة ما بين الراعي والرعية, إبتداءا بالوالدين إلى غيرهما من أصناف البشرية, فرئيس الدولة إن لم يتعامل مع الشعب بصفة الأبوة فأنه سيظلمهم ويقصر معهم, والوزير والمسؤول والمدير وكل راع فهو مسؤول, وكل هذا مرجعه إلى النظر إلى العلاقة الأبوية للأبناء والعكس, ومن هنا لا بد أن نلاحظ أنه من لم يضع للوالدين شأنا فلا يمكن له أن يضع لغيرهما شأنا فلذا تراه مختل التعامل مع المجتمع بشكل عام, ولذا كان لا بد من أن تقع المسؤولية على جهات عديدة لأجل بيان أهمية الطاعة والإحسان للوالدين ومن هذه الجهات:
دور الشريعة الإسلامية:
الشريعة الإسلامية لها الدور الكبير والواسع فيما تولته من بيان هذه المهمة التي لها الشأن الأكبر في حياة البشرية كافة وبما نزل من آي القرآن الحكيم والذي وصل عن الوحي على لسان المصطفى محمد (صلى الله وعليه وآله), كما أن آيات الذكر الحكيم كثيرة ووافرة في بيانها ونصوصها ومعطاءها:
كما في قوله تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً) (الاسراء:23). وقوله تعالى: (وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (الاحقاف:17).
وقوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً )(البقرة: من الآية83).
وقوله تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً)(النساء: من الآية36).
وقوله تعالى: ( أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ ) لقمان:14 وقوله تعالى: ( أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً )(الأنعام: من الآية151)
وتوجيه أهل البيت عليهم السلام لهذا الأمر توجيها مفصلا ودقيقا, ومن ذلك ما رويّ عن أبى ولّاد الحناط قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن قول الله ( وبالوالدين إحسانا ) فقال: (( الإحسان أن تحسن صحبتهما، ولا تكلفهما أن يسألاك شيئا مما يحتاجان اليه، وان كانا مستغنيين، أليس يقول الله: ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ), ثم قال أبو عبدالله (عليه السلام): وأما قوله: ( اما يبلغن عندك الكبر احدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ) قال: إن أضجراك فلا تقل لهما اف، ولا تنهرهما إن ضرباك, قال: ( وقل لهما قولا كريما ) قال: يقول لهما: غفر الله لكما, فذلك منك قول كريم, وقال: (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة ), قال: لا تملاء عينيك من النظر إليهما إلا برحمة ورقّة ولا ترفع صوتك فوق أصواتهما ولا يديك فوق أيديهما ولا تتقدم قدامهما)).
وقوله " وبالوالدين احسانا " وقوله " إما يبلغن عندك الكبر احدهما أو كلاهما " معناه متى بلغ واحد منهما أوهما الكبر " فلا تقل لهما أف " أي لاتؤذِهما بقليل ولاكثير " ولاتنهرهما " أي لاتزجرهما بإغلاظ " وقل لهما قولا كريما " أي شريفا تكرمهما به وتوقرهما " واخفض لهما جناح الذل " أي تواضع لهما واخضع لهما.
العاق لن يدخل الجنة:
جاءت الأحاديث منبهة لما في هذا الموضوع للعاق من سوء العاقبة, روي عن علي بن موسى الرضا عن أبيه عن جده أبي عبد الله (عليهم السلام) قال لو علم الله لفظة أوجز في ترك عقوق الوالدين من أف لأتى به و في رواية أخرى عنه قال أدنى العقوق أف و لو علم الله شيئا أيسر منه و أهون منه لنهى عنه و في خبر آخر فليعمل العاق ما يشاء أن يعمل فلن يدخل الجنة).
وروي عن الرضا عن أبية عن جعفر بن محمد (ع) انه قال (لو علم الله لفظ أوجز في ترك عقوق الوالدين من (أف) لأتى به). فان قيل هل أباح الله أن يقال لهما أف قبل أن يبلغا الكبر؟ قلنا: لا، لان الله أوجب على الولد إطاعة الوالدين على كل حال. وحظر عليه أذاهما وإنما خص الكبر، لان وقت كبر الوالدين مما يضطر فيه الوالدان إلى الخدمة اذاكانا محتاجين عند الكبر، وفي المثل يقال فلان أبر من النسر، لان النسر إذاكبر ولم ينهض للطيران جاء الفرخ فزقه، كما كان أبواه يزقانه).
دور المؤسسات الحكومية والاجتماعية والثقافية:
ولا يقتصر الدور على الشريعة فحسب بل لا بد من مشاركة المؤسسات الحكومية والاجتماعية والثقافية في تحفيز وتقوية دور التعليم في ظل الطاعة للوالدين وبيان آفات العقوق , وتنمية الأبناء على معرفة اهمية هذا الفعل وكيفية التعامل مع الوالدين, وليس فحسب بل كيفية تنشئة جيل عارفا بحق الوالدين, وذلك من خلال الاعلام والندوات والمحاضرات باستخدام كافة الاساليب الصورية والصوتية والتلفازية, وعن طريق الطباعة للكتب التي تحث المجتمع للألتفات الى هذه المسألة أعطاءها الدور الأكبر, لأن الخالق سبحانه وتعالى اعطاها الدور الاكبر بعد التوحيد, كما يمكن للمؤسسات الحكومية فرض قانون جزائي لمن يعق والديه او يؤذيهما, فالدولة والمؤسسات لها الدور المهم في توعية الناس وطرح الافكار والتنبيه على المخاطر لبناء مجتمع رصين واع.
دور الأسرة:
الإنسان حينما يعرف أن الأب وألام أهم شيء واهم عطاء ففي الحديث أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: (رغم أنفه, رغم أنفه, رغم أنفه
قالوا: من يا رسول الله..؟؟
قال: من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كلاهما و لم يدخل الجنة).
وروى أبو أسيد الأنصاري قال بينما نحن عند رسول الله (صلى الله عليه وآله): ( إذ جاءه رجل من بني سلمة فقال يا رسول الله هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما..؟
قال: نعم الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما من بعدهما وإكرام صديقهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما).
إلّا أن بعضا من شبابنا في هذا الزمان ومع الأسف صوتهم عال على آبائهم بل لعل البعض من يرفع يديه بدلا من صوته ليضرب من حملته (وهناً على وهن), مع العلم لاحظ عظمة هذا الحديث: ( من نظر إلى والديه نظر ماقت وهما يضربانه لم تقبل منه صلاة).
فمجرد النظرة وفي حال أنهم يضربونه لم تقبل منه الصلاة التي (إن قبلت قبل ما سواها) مع جهلهم أن الوالدين لا بد أن تتبع فيهم قاعدة: ( كل ما يصدر من المحبوب محبوب ), ولا بد من التأمل في الكلمة التي لا ينكرها الناس وهي ( الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه), وهي تحمل الكره الذي يوقعه الله ويبتلي به المؤمنين, ومع هذا فيحمده المؤمن المبتلى, الله يحمد لأن هذا الذي صدر من الله هو حكمة ورحمة ونفع, وكذا الوالدين المفروض ننظر إليهم هكذا أولا لأنهم السبب في وجودنا كما أن الله هو سبب الوجود ولأنهم يعشقونا ويحبونا ولا يريدون إلا الخير فإذا صدر شيء من الوالدين علينا ان نواجههم بالابتسامة فهل نحن قادرون؟
طبعا لعل البعض لا يستطيع خصوصا إن تعوّد أن يتجاوز ولا يرحم الوالدين, لكن لو لاحظنا أن رافع الأثقال الذي يرفع المائة والمائة والخمسين هل رفعها من أول مرة أو فجأة لا بل روّض نفسه وتعب وتدرّب وعوّد نفسه للتسلسل في رفع الأثقال مبتدءا بالقليل ثم الكثير وهكذا, أذن لا بد أن تتدرب النفوس على حمل المشاق وتحمل الآخرين لكي يكون الإنسان قوي, و(المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف).
فهل تعرف من القوي..؟؟ هو هذا الذي (يملك نفسه عند الغضب).
وقد لا يقبل العاق النصيحة, لكنه بينه وبين نفسه لا يرفضها, نعم لأنه يشعر أن النصيحة فيها كماله ومنفعته, حتى لو تعود ان يعيش غير حياة لكن الحقيقة وطلب الكمال واحد عند كل إنسان, مثلا الإنسان الذي يدخن ويحب التدخين لا يقبل أن يرى ابنه أو بنته تدخن؟
لأنه يعلم أن فعله وراء هواه فلا يريد أن يكون ابنه أو بنته مثله وكذا شارب الخمر, فكل إنسان يشعر من المقابل الخير يتقبل منه ولكنه بمجرد أن يحس انه شر فتراه يعارضه.
تنبه أيها العاق ان العمر يسير والساعة لا تقف والذي يؤمل نفسه أنه يعيش اليوم بعيدا عن الفضيلة فهو متوهم لأنه سيأخذه العمر ويجد نفسه فجأة في نهاية الطريق فبعد أن علمت صار واجبا أن تعمل الخير لأنك إنسان لأنك إنسان ليس مجرد لفظ.
صحيح ان البعض عاش في مجتمع يفقد هذا الكلام.. لكن النفوس بريئة حقيقتها واحدة, مرات كنت أتعرف على بعض الشباب يجولون ويلعبون حينما أتحدث إليه يقول بالعامية: ( أنت وين خلينه أنعيش ), ونتمتع, قلت عيش وتمتع من قال لك الدين لا يريدك أن تعيش بالعكس الدين يريد لك السعادة في الدنيا والآخرة, وسرعان ما أن يقع في مشكلة يرجع ليطرق الباب يقول صارت عندي مشكلة أريد لها حل..؟
أقول له أين جماعاتك وأصحابك الذين كنت معهم ..؟
يقول ليسوا أصحاب حكمة, أصحاب (هوسة), فلاحظ انه رجع إلى حيث حقيقة الروح الطاهرة.
قصة مؤلمة..
وهذه قصة حصلت في إحدى دول الخليج وقد تناقلتها الأخبار...
قال راوي القصة: خرجت لنزهة مع أهلي على شاطئ البحر، ومنذ أن جئنا هناك، وامرأة عجوز جالسة على بساط صغير كأنها تنتظر أحداً، قال: فمكثنا طويلاً، حتى إذا أردنا الرجوع إلى دارنا وفي ساعة متأخرة من الليل سألت العجوز، فقلت لها: ما أجلسك هنا يا خالة؟
فقالت: إن ولدي تركني هنا وسوف ينهي عملاً له، وسوف يأتي...
فقلت لها: لكن يا خالة الساعة متأخرة، ولن يأتي ولدك بعد هذه الساعة.
قالت: دعني وشأني، وسأنتظر ولدي إلى أن يأتي، وبينما هي ترفض الذهاب إذا بها تحرك ورقة في يدها...!
فقال لها: يا خالة هل تسمحين لي بهذه الورقة؟ يقول في نفسه: علَّني أجد رقم الهاتف أو عنوان المنزل، اسمعوا يا
إخوان ما وجد فيها، إذا هو مكتوب: (إلى من يعثر على هذه العجوز نرجو تسليمها لدار العجزة عاجلاً).
الأم التي سهرت وتعبت وتألمت وأرضعت هذا جزاؤها؟!! من يعثر على هذه العجوز فليسلمها إلى دار العجزة عاجلاً.
لا حول ولا قوة إلا بالله ...
عقوق .. عقوق .. عقوق.. نسوا مراقبة الله لهم..
أما سمع هؤلاء بقول العلماء: ( كل معصية تؤخر عقوبتها بمشيئة الله إلى يوم القيامة إلا العقوق، فإنه يعجل له في الدنيا، وكما تدين تدان)
واقرأ هذه القصة:
ذكر العلماء أن رجلاً حمل أباه الطاعن في السن، وذهب به إلى خربة فقال الأب: إلى أين تذهب بي يا ولدي، فقال: لأذبحك فقال: لا تفعل يا ولدي، فأقسم الولد ليذبحن أباه، فقال الأب: فإن كنت ولا بد فاعلاً فاذبحني هنا عند هذه الحجرة فإني قد ذبحت أبي هنا، وكما تدين تدان.
وهذه رسالة إلى الجيل الحاضر إلى الأبناء إلى المربين والفضلاء أن ينتبهوا وينبهوا شباب الوطن والامة إلى عمق أهمية الآباء في الدنيا والآخرة ...
سائلين المولى القدير عز وجل أن يرزقنا حسن العاقبة.
فلاح السعدي
7/شوال/1433هـ