قراءة القصة القصيرة/عقيل هاشم الزبيدي
Thu, 26 Jul 2012 الساعة : 15:31

فن أدبي مرن جداً، حساس جداً، وشديد التأثر بسائر أشكال التعبير، التي يتعايش معها، وسنرى أن حظها من البقاء، ومقاومة عوامل الشيخوخة والنفي كبير جداً، وأنها تملك قابليات للتجدد، والتكيّف مع الظروف والشروط الجديدة.
تفيد القصة القصيرة من سائر أشكال التعبير والمعرفة. فهي تؤسس بعض فنيتها على منجزات العلوم، لاسيما الإنسانية منها، مثل علم الاجتماع وعلم النفس، والمنطق. وقد مكنها ذلك من توسيع آفاق تطورها، وقدرتها على اصطياد الأعماق، بما فيها من كنوز والإحاطة بالشخصية والحدث والواقع إحاطة باطنية وظاهرية معاً، بحيث تجعل من اللامرئي المتوارى، مرئياً واضحاً، واستطاعت كذلك أن تستخدم آليات رصد وعرض وبناء جديدة، مما جعلها تتخطى الترتيب المدرسي، والنظام التقليدي لبنيتها.
والقصة القصيرة تفيد من المسرحية، الرواية، الرسائل، السيرة، الحكاية، الخبر، "السيناريو" والصحافة بتنويعاتها التعبيرية.. ومن لغة الرسم والموسيقى، والشعر، وكل أشكال التعبير السائدة.
إن طول القصة القصيرة، وزمن قراءتها، لا يأخذ من المستمع والقارئ إلا وقتاً قصيراً (من بضع دقائق.. حتى نصف ساعة تقريباً)، أي أقل من الزمن الذي تستغرقه مشاهدة حلقة من مسلسل تلفزيوني.
هذه الميزة تتفوق بها القصة القصيرة على الرواية وسواها. إن القصة يمكن أن تلقى على الأسماع، بينما لا يمكن للرواية أن تلقى في قاعة أو مركز ثقافي، بسبب طول المدة.
والقصة القصيرة لها حظ أوفر في النشر والانتشار على صفحات الصحف اليومية والمجلات، لأنها لا تحتكر مساحة كبيرة، وهذا غير متاح للرواية، إلا استثناءً.. وعلى شكل حلقات. ونشر القصص القصيرة تقليد صحفي، قلما تهمله صحيفة أو مجلة سواء كانت سياسية إخبارية أو اجتماعية أو فنية.. أو حتى متخصصة، لأنها لا تأخذ سوى حيز صغير أولاً، ولأنها تلطف المجلة أوالصحيفة ولأن لها جمهورها ومتذوقيها. إن قصة تنشر في صحيفة يعني أنها تصل إلى جمهور عريض، لأن نسخ بعض الصحف قد تتجاوز عشرات بل ومئات الألوف. ولقد باتت مادة صحفية دائمة الحضور... كذلك يمكن القصةَ القصيرة أن تذاع، وهو مايحدث في إذاعات عربية ودولية...
إن المزايا المذكورة تجعل من القصة فناً لطيف المعشر، خفيف الظل. فالقارئ يستطيع أن يختار مكان وزمان قراءتها. بينما لا يملك هذا الخيار حيال مسلسل أو مسرحية لها مواعيدها وأمكنتها المحددة.
القصة المنشورة في جريدة، مثلاً، يمكن المرءَ أن يقرأها ساعة يشاء وأنّى يشاء: في البيت: الحديقة العامة، المقهى، المكتب أو مكان العمل. في حافلة.. في الطائرات.. في أي مكان آخر، وفي أي وقت صباحاً.. ظهراً.. مساءً.. في منتصف الليل...الخ..
تلك الميزة تجعل العلاقة بين القصة القصيرة والقارئ... ودية.. ديمقراطية، لأنها لا تثقل عليه، ولا تفرض عليه مكاناً ومواعيدَ وشروطاً للتواصل، ولاترهقه ولا تزعجه. إنّها ليست ضيفاً ثقيلاً ومملاً.
تتوجه القصة القصيرة بشكلها ومضمونها إلى الآخرين، لتلبي حاجة عندهم، ولتحقق غرضها لديهم، ومن أجل تحقيق هذه المعادلة، ونجاح وظيفتها، تستخدم القصة كل ما يتوافر لها من مقومات فنية، وأساليب تقنية فكرية وأدبية، للاستيلاء على القارئ والظفر به.
وأهم فكرة يجب أن يتخذها القاص سنّة له، هي أن المعيار الفني للقصة وجد لخدمة القصة وتمكينها من الوصول بنجاح أكبر إلى الجمهور. إنك إذ تقص تستخدم كل مامن شأنه اجتذاب اهتمام، الآخر الذي تتوجه إليه بالقصة وشدّ انتباهه، فإذا فشلت.. فهذا يعني فشل أسلوبك، وفشل فنية قصتك.. والنتيجة هي خسارة الآخر ورفضه متابعتك.
إن فنية القصة هي حلقة الوصل بين القاص والمتلقي، وعليها يتوقف نجاح أو فشل العلاقة إياها... وحتى ينجح القاص في تحقيق التوازن داخل تلك العلاقة -المعادلة. لابد أن يتمتع بالموهبة، ويتسلح بالثقافة والخبرة والتجربة، ويؤمن بأن المتلقي مؤشر حقيقي ملموس لنجاح أي قصة.
يمكن القول: إن القصة القصيرة هي بنت العصر، وأؤكد أنها ستظل وبالقدر نفسه بنت المستقبل، وعادة راسخة من عاداته الثقافية الأدبية.. وإن التطور العاصف.. الذي لن يتوقف، سيظل يوفر المناخ الأفضل للقصة القصيرة، وسيمنحها المزيد من السلطة والنفوذ، ويوفر لها فرص تجديد شبابها، وزيادة حيويتها وتأثيرها في الحياة الفردية والاجتماعية. وهذا كله يدعو إلى التفاؤل، والاطمئنان على مستقبل القصة وريادتها الأدبية.