انا وراديو اليابان الدولي – ج 19 -سليم السراي

Thu, 26 Jul 2012 الساعة : 2:51

" أضرب يا بونغو
رِني يا سامبا
ارقص يا مهرجان الجنوب
الجميع يلهون ويمرحون
فيتطاير حولهم العرق اللامع
اذا ودعت جسدك يتمايل مع الرياح الساخنة
ورقصت كما يروق لقلبك
لغنت الأمواج سامبا المحبة
وهذا الايقاع الذي يتدفق من القلب
أوليه ! أوليه ! ماتسوكين سامبا
أوليه ! أوليه ! ماتسوكين سامبا
أحب يا اميغو
وارقصي يا سنيوريتا
انسوا حتى النوم وارقصوا حتى الصباح
سامبا , عاشت السامبا
ما . تسو . كيه . ن . سامبا . أوليه ! "
" ماتسوكين سامبا : من الشعر الغنائي الياباني "

بواسطة احد خطوط الحافلات لنقل المسافرين وبصحبة الاستاذة ماريكو اينو والاستاذ عادل الدسوقي توجهنا معا الى المحطة التالية , التي أعتبرها أهم وأخطر محطة في زيارتي الى اليابان , انها زيارة خاصة الى اسرة " كودا " التي فقدت ولدها في العراق .
في الحافلة كنت جالسا بجوار الاستاذة ماريكو اينو وهي تحدثني عن الاماكن التي تحاذي خط السير , طرق إنسابت على تلك الربى بسهولة , وجسور جميلة عملاقة قطعت افاق فضائها الواسع , فيما راحت الاشجار تزين جانبي الطريق , وكانت هناك بعضا من الطيور تحلق بهدوء وطمأنينة في بعض المستنقعات المائية .
ربما كل تلك المشاهدات لم تشغلني في قرارة يقيني , فهي لم تكن بمثابة الباب الذي يوصد بألف رتاج ورتاج , عما أنتظره بعد ساعتين تقريبا , فالحافلة تسير بهدوء تام نحو أتجاه واحد دون عودة , وأفكاري تسير بعناء وثمالة في خطوط غير مستقيمة , أنظر الى كفي فإذا هما محملتان باليأس المذبوح بلا سكين , وعيني تكفكف دموعهما بلا منديل , والقلب بقي وحيدا يحمل حقائب من الاماني المحترقة , فيما أخذت الروح تبحث في ذلك الفضاء عما يرتق جروح العمر , وبين هذا وغيره أخذت التكنولوجيا تتبرج تبرج خيلاء المجون , أمام إنسان فقد أو فاقد جغرافية حياته , وهو لا ينسى ان امامه طريق العودة إليها تارة أخرى , ليواجه البرد والحر في ليلة يتساقط من شفاهها غبار اليأس .
حزن تختلط فيه المشاعر لا يتبعه سأم السعادة , وصمتاً خاسراً إشراقات الاستماع , انصات وتأمل لكن بلا قيود , والكلام يتحجر في مآقي الشفاه , وما كدت أن أرفع رأسي في هذه اللحظة , الا وقد وجدت الاستاذة ماريكو اينو ترفع قامتها لتدق مفتاح تنبيه النزول في سقف الحافلة , فقد وصلنا الى مبتغانا وطِلبتنا , حيث تتقاطع تنوع الثقافات والتقاليد .
كان ذلك بتاريخ 20نوفمبر 2010 في تمام الساعة 13,10 دقيقة ظهرا حسب توقيت اليابان , وكأن الاطمئنان يرن في داخلي , والاستاذة ماريكو اينو تطلب مني بقولها :
- استاذ سليم : كم من الوقت ترغب البقاء مع العائلة ؟
- نصف ساعة وقت قليل , ليكن ثلاثة ارباع الساعة , مراعاة لمشاعر العائلة , ولا اريد ان اكون ضيفا ثقيلا عليهم .
- آ .. ان ذلك لوقت قصير , ليكن ساعة , وانا متفهمة جدا لمشاعرك .. ليكن الله معنا .
ثم اضافت قائلة :
- استاذ .. لا نريد الان الاتصال بالعائلة حتى الساعة الواحدة والنصف !.
كان حري بي ان أقبل هذه الدعوة بالرغم من اني لا اعرف سببا لذلك , فما كان مني الا ان ارى في الامر خيرا , كاشفا عن قبول الاعتذار والرضا في ذلك :
- ليس هناك من مشكلة .
- شكرا استاذ
ثم راحت تشرح لي بترفق وتهيء جميل الحديث وهي مطمئنة البال , فهي دعوة ذكية , لا تستدعي الاتهام كيفما نشاء نحن ابناء منطقة الشرق الاوسط في الحكم الموتور على الاخرين قبل أن نفهم مليا ونتدبر الامر , فهي دعوة استكشاف .
- استاذ : هنا في اليابان حينما تزور اي عائلة يابانية قبل الساعة الواحدة والنصف ظهرا , فإنهم يقدمون لك طعام الغداء , سواء كنت تناولت طعام الغداء أو من عدمه , وحسب التقاليد السائدة هنا في اليابان , ونحن لا نريد ان نرهق العائلة .
أبتسمت لهذا الامر في تلك اللحظة , فما أكثر التقاليد والاعراف المنتشرة بين الشعوب , وأن تجد لها اختلافا أو استنساخا أو تشابها في أصولها وفروعها , من دون ان تجد هناك تنافرا بينها , فهي سلوك يلائم البشر وممارسته لطبيعته البشرية , التي أقتحمت المسافات البعيدة وأخترقت المعمورة في كل اتجاهاتها , فما غابت عنها شمس يوما , فهي ظاهرة اجتماعيه لا تقتصر على شعب دون آخر , تجد الصحف تتحدث عنها , وتتناقلها الروايات بتواتر مؤكد صحيح لا يقبل أدنى ريبة أو شك , تحتمل الغلو من الفخر والاعتزاز والثناء ما تشاء , ان تجد لها تقليدا أو عرفا اجتماعيا مشابها في بلدي العراق , فالأسرة العراقية اذا ما حل في بيتها ضيف بعد صلاة الظهر , فإن صاحب البيت يقول للضيف ( صبحكم الله بالخير ) , وهذا سؤال لطيف للضيف فيما اذا كان لم يتناول الغداء أو من عدمه , فإذا أجاب ( صبحكم الله بالخير ) فهذا يعني ان الضيف يطلب الغداء , واذا كان جوابه ( مساكم الله بالخير ) فهذا يعني ان الضيف قد تناول الغداء في بيته او في بيت صديق له في حالة كونه مسافرا .
ربما شعرت بالتذمر , فالانتظار له مذاق مر , وتتابعت ضربات القلب سريعا , كأنه أصابها كسوف مزق غيمة عزم الهدوء والسكينة , وأخذت الدقائق تتخاذل امام اقتراب موعد اللقاء , ودعوة الله ان يشد أزري ويسند ظهري ويحل عقدة لساني , فإني لا أعرف خافية القوم سواء من شر او من خير .
نفد الوقت , وأتصلت الاستاذة ماريكو اينو بالعائلة وتعلمهم إننا في الانتظار , وما هي الا دقائق قصار مضت ؛ ونحن نراقب الجهة التي سوف يطل علينا احد افراد الاسرة .
وكسر صوت الاستاذة اليابانية الهدوء والترقب :
- ها هي سيارة عائلة كودا .
نزلنا سريعا من رصيف الشارع العام نحو السيارة المتوقفة , وخرج علينا رجلا لم يبلغ الستين عاما , وهو يتمتع بشباب متدفق , وعرفتني الاستاذة انه والد الفقيد , وبعد القاء مفاتيح التحية والسلام , حمل والد شوسيه حقائبنا الى صندوق السيارة , بالرغم من امتناعي من ذلك , ولكن ماذا تفعل امام التقاليد اليابانية , فلا حيلة امامهم تنجح , الا ان تعلن الاستسلام التام .
هنا أنطلقت بنا السيارة في طريق ليس بواسع , بيد ان بعضا منه معبد , نحو دار سكن العائلة الريفية , وما هي الا دقائق حتى وصلنا , وقد وجدنا العائلة جميعا باستقبالنا .
دقائق قلق كأنها دهرا برمته , وعيني كسفتها الغيوم , وتناثر دمي من أعواده , وأبالغ في الجهد ان يبقى مغروسا في الضمير .
باب صغيرة ثم فناء صغير بمساحة 1متر مربع تقريبا لنزع الأحذية , ثم تصعد ثلاث درجات وبأسلوب خاص , حيث تجد حذاء خاص وضع بطريقة خاصة تدخل به الى البيت , فللبيت حرمة وقدسية كبيرة , وقد شعرت بالعناء من هذه الانظمة والقوانين , وقلت في نفسي ( شنو هاي , اني وين , شنو بالمريخ ) .
كان الجميع يلتحفون بي وهم يرشدونني الى غرفة الجلوس , حيث عقرت ساقاي كما فعلوا وربما كنت الاخير , لأحاكي قصتهم في تقاليدهم ولا أخرج عن مألوفهم .

 

Share |