فلسفة البيع والشراء في القرآن الكريم / جزء1- عقيل عبد الجواد

Tue, 14 Jun 2011 الساعة : 12:12

قد عبّر الله سبحانه وتعالى عن علاقة الانسان به بعلاقة البيع والشراء أو على الأصح بالأثر المترتب على هذه العلاقة سلباً أو ايجاباً بالنسبة للإنسان طبعاً . والبيع والشراء هو من المفاهيم الدنيوية السائدة لد ينا , إذن لماذا التعبير بهذا الشكل المادي عن علاقتنا بالله في حين يفترض أن تكون في غاية الروحية وهي كذلك فعلاً ؟ ثم كيف يكون الله هو من يشتري والانسان هو من يبيع والمشتري هو في حاجة للبائع وألا لما اشترى ...!!
وجواب السؤال الأول إن الله أراد تقريب وتوضيح مسألة الإيمان به والإطاعة له بشكل سهل ومفهوم يتلاءم مع عقولنا التي جُبلت على حُب الخير والمتمثل هنا بالربح المتأتي من هذه العملية وبسبب هذه الغاية المُحببة أصبحت العملية برمتها مُحببة فهي توحي بالأموال والربح والغنى وكلها مُحببة إلى انفسنا فطرياً (( وانه لِحُب الخير لشديد )) [ آية 8 العاديات ] .
كذلك يريد الله سبحانه ان يقول كما ان عملية البيع والشراء مجسمة وشاخصة للعيان بأشياء ملموسة محسوسة او ان أثرها لابد ان يكون كذلك فيما لو غابت الأشياء التي نبيعها ونشتريها كما هو حاليا في سوق الأسهم والسندات ,فكذلك عمل الانسان وطاعته لله فهي عملية بيع وشراء مادية وملموسة , من حيث أيماننا بتجسم الأثر المترتب والمتمثل بأما الجنة او النار وذلك بعد فناء كل مجسم من الدنيا وما فيها من أشياء كانت تُباع وتُشترى كذلك تَجَسم ما بعنا واشترينا به أي العمل سواء صالح أم طالح (( فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرةٍ شراًً يره)) [آية 7-8 الزلزلة] .
فتتجسم لنا بأشكال حسب العمل وتؤدي بنا الى واحد من الأثرين السابقين – الجنة او النار- .. أذن فكل عملية بيع وشراء فنت إلا عملية البيع والشراء الالهي فما بعنا واشترينا به ( الوسيلة ) خالد لا يموت وهو العمل .
والعمل له جانبان وهما :- العقل باعتباره مصدر العمل فهو عملية فكرية اولاً وأخيراً ,والثاني هو الاثر المُترتب على هذا العمل أي النتيجة وهي إما الجنة او النار وهذه العملية بِرُمتها –أي البيع والشراء بحسب المفهوم الالهي - إنما يُصطلح على تسميتها (( بالروحية المادية)) أي أنها روحية وسامية من جانب العلاقة مع الله فهي عملية مبادلة واخذ وعطاء مدارة من قبل الله .
وهي مادية كذلك عندما تم التعبير عنها بهذا الأسلوب المحسوس فالبيع والشراء والربح هي من الموجودات المادية في عالمنا . وحتى تصبح الأمور واضحة للانسان وتكون مفاهيم الدين وفكرته سلسة خالية من التعقيد قّربها الله لنا بما يستطيع عقلنا فهمه وبما هو من مستوى إدراكه .
أما كيف أن الله هو المشتري من دون حاجة لما يشتري وهو الغني عن العالمين !!
فأن شراؤه هو من باب التفضل والتكرم على البائع الذي هو في أمس حاجة لان يبيع او ان يجد مشتري في حين ان الله في غنى عما يبيعه البائع لأنه هو الغني الصمد ولان الله يتفضل على البائع بشيء يحبه وهو في أمس الحاجة اليه وأقصى ما يطمح اليه ويحلم به دنيا وآخرة وهي الجنة ونعيمها .
حيث أن الله ليس بحاجة اليها بل خلقها ليتفضل بها على من يبيع او يتجر معه. وليس لنا ان نستغرب هذا الأمر لأننا قد نراه من بشر حينما يكون البائع متعففاً فيعرض أشياء بسيطة غير ذات أهمية تذكر لمعظم الناس او لندرة وبساطة حاجة الناس اليها فيأتي شخص ويقوم بالشراء فشراؤه قد تم من دون حاجة فعلية لما اشترى سوى التفضل والاحسان على البائع ,هذا بالنسبة للمشتري أما البائع فالأمر لم يكن كذلك البتة .فالحمدُ لله الذي ضرب لنا الأمثال في هذه الحياة . والبيع والشراء يكون على شكلين رئيسيين :- أولهما مع المؤمنين والثاني مع الكُفار بحسب ما يتم بيعه وشراؤه ثم بحسب الأثر المترتب على ذلك.

1- فالذي مع المؤمنين يكن على صنفين :

أ‌- مع أصحاب العمل الصالح . ب- مع المجاهدين .

اصحاب العمل الصالح : عّبر الله عن عملهم بالقرض الحسن حيث البيع والشراء يتم لكن بشرط ان يكون آجل أي بع وأعطي ثم أجازيك يوم الجزاء الأوفى بأضعاف مضاعفة وليس هذا وحسب بل أضاعف بعد كل هذا التضعيف لمن أشاء وقد تكون واحداً منهم فأن_ عاملتك بالعدل أعطيتك الأضعاف الكثيرة (وهو القانون الأساسي لان الله كتب على نفسه الحسنة بعشرة أمثالها أذن هو تضعيف لكن يسمى عدلاً مجازاً لا اكثر لان العدل ان تكون الحسنة بمثلها بلا مضاعفة ) _ وان شئت ان أزيد فأزيد إلى ما لا يعلمه إلا أنا -أي الله-
وهذا القانون قد تم تصويره قرآنياً بتصوير جميل في الآية ((ومثلُ الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتاً من أنفسهم كمثل جنةٍ بربوةٍ أصابها وابلٌ فاتت اُكلها ضعفين فان لم يصبها وابلٌ فطل والله بما تعملونَ بصير )) [آية 265 البقرة] .

العمل هو كالجنة على ربوة التي ان لم يصبها المطر(كناية عن التضعيف الالهي ) فهي ولا شك سوف تُزهر وتُثمر لكونها قد سقيت من الندى(كناية عن قانون المضاعفة الأولية أو الأساسية وهو الحسنة بعشرة أضعافها ) .
وليس هذا وحسب بل هناك أشكال وصور رائعة أخرى للتضعيف الالهي لاتقف عند حد جزاءً للاتجّار مع الله كأن يمحو الله السيئات أو ان يعمد الى انجح عمل تجاري قام به العبد معه واعني بالنجاح هنا ان الله قد اثاب عليه بشكل لم يثب أي عمل آخر لهذا العبد بمثل ما اثاب عليه من أضعاف وأضعاف ثم يأتي الى هذا الأجر العميم ويجازي بمثله على كل اعمال الخير والاتجار لهذا العبد معه رغم أنها لا تستحق مثل هذا الجزاء الأوفى .
فهذه تعبر عن مفهوم من مفاهيم البيع والشراء وهو القرض الحسن الآجل . وقد يكون هناك قَرض غير حسن حيث أن كل عمل في هذه الدنيا وكأنه قرض أودعناه لدى الله فان كان عملاً أو قرضاً حسناً جازانا به أو كان عملاً أو قرضاً سيئاً عاقبنا به لان كل عمل في هذه الدنيا واقع تحت طائلة مفهوم القرض لان كل شيء فيها محكوم بمفهوم البيع والشراء .
ب- الصنف الآخر من المؤمنين وهم المجاهدين والشهداء .. بحسب الوصف القرآني ((فيقتِلونَ ويُقتَلون )) [آية 111 التوبة ] .

يقتِلون توصيفهم وهم يجاهدون ويُقتلون توصيفهم وهم يستشهدون .
وهم بكلتا الحالين الذين باعوا أثمن ما يملكون وتقربوا بأعظم عمل . لذلك تم التعبير عن عملية البيع والشراء خاصتهم بأن الله اشترى وانتهى الأمر فعملهم قرضٌ ايضاً لكن يتميز بأنه قد تم شراؤه سلفاً وجازا به بالجنة سلفاً وهي ابدية لهم وهم ايضاً ابديون لها فلا يزولون عنها ((خالدين فيها ابداً)) .
ان العملية هنا تبدو واضحة جداً ومختصرة فالتجلي الإلهي من خلال آياته الجهادية واضح وكأنما يأتي الانسان البائع ليقول لله بعت ويجيب الله مباشرة وأنا اشتريت فليس بالأمر انتظار لربحية من عملية تجارية تتطلب صبراً وانتظارا ً (كعملية القرض التي أُوضحت سابقاً) ثم حتى عندما تنجح التجارة- وهي ناجحة مع الله- يأتي القلق على هامش الربحية ( الثواب) هل هو كثير أم قليل .
في حين ان ما نتحدث عنه الآن عملية بيع ليس فيها أي قلق فهي عملية خاصة ومشروطة سلفاً من كلا الطرفين على حدٍ سواء, الله والانسان .
فالله يقول ان بعتني هذا الشيء اشتريته منك مباشرة وهنا لا بد من وقفة ,فالله كما مر سابقاً هو في غنى عن كل عملية شراء منه لما نبيع فهو يشتري تعطفاً ,لكن هنا يصل سبحانه الى تجاوز كل الحدود حينما يعلن عن شراءه المباشر !! ..
فهل هناك عطف ورحمة ومحبة أعظم من ذلك!! بل أكثر ان يأتي هذا الانسان والذي هو اصلاً ملك لله وهو اصلاً يبيع ما الله ليس في حاجته -كما مر- العجيب ان يأتي الانسان ويصبح طرفاً يتصرف على قدم المساواة مع الله ويضع الشروط انه أذا أنا فعلت كذا فلي عليك ان تضمن لي كذا من الأجر ,فسبحان الله ... هل هناك كرم يُعجز العقل اكثر من ذلك ! .

[email protected]

 

Share |