انا وراديو اليابان الدولي – ج 16 -سليم السراي

Wed, 20 Jun 2012 الساعة : 16:18

يحيط بنا الشفق دون أن ندري
لا بد ان العالم خارج النافذة منشرح القلب لسبب ما
هذا العالم الذي قليلا ما يتغير هل سيبدو أحسن يوما ما ؟
اليوم الشتوي لا يزال يهبط على ناصية الشارع القديم المألوف
وهنا يوجد شخص ينتظر شخصا
عندما يتحول الضوء الخافت الى أمنية
هناك من أريد ان أكون معه , محاطين بالليل
ليتنا نستطيع ان نكون أكثر صراحة , وإن كان صعبا
ما زلنا مترددين رغم انه من المؤكد اننا سنفهم بعضنا
هذا العالم الذي لا شيء يميزه ليس في الحقيقة سيئا الى هذا الحد
اليوم الشتوي يزور من جديد مكان ذكرياتنا
وهنا يوجد شخص يعود الى مكان ما
وسط رياح جافة , هناك من أريد ان أنظر معه متعانقين بلطف
الى السماء حيث أخذت النجوم الكثيرة تتلألأ
اليوم الشتوي يمر خارج كل نافذة
ناظرا الى سعادة نعيشها بغير أكتراث
عندما يلين القلب قليلا بفضل هطول الثلوج
أريد ان أواصل التأكد من الدفء لأن الجو لا يزال باردا في الخارج
" قلب الشتاء : كلمات / ماسايوشي يامازاكي "

في صباح يوم السبت المصادف للعشرة الثانية من نوفمبر 2010 , توجهت وبصحبة الاستاذة ماريكو اينو والاستاذ عادل الدسوقي الى أحد الروائع والشذى الياباني الأصيل , إنها قلعة العراقة وآية من صور الفن المعماري القديم " قلعة كوكورا " في منطقة كيتاكيوشو التي كانت هدفا رئيسيا للقنبلة النووية الثانية خلال الحرب العالمية الثانية , ولكن السماء كانت حاضرة للدفاع عنها , فغطت افاق المنطقة بالغيوم , مما أضطرت الطائرات بالتوجه نحو ناكازاكي والقاء القنبلة الذرية عليها .
شيدت القلعة من قبل احد الاقطاعيين الذي كان يحكم المنطقة قبل أكثر من 400 عام تقريبا , وقد سميت بإسم " كوكورا " نسبة الى شعب الكاكورا الذي كان يعيش في المنطقة , وأستمر بنائها حوالي 4 سنوات , وقد خرجت الى النور على مساحة تقدر بأكثر من 1000 متر مربع , فكانت نجمة الجنوب الياباني في تألقها , تخبرك عن ماضي ينفح منه سحر الشرق وعبيره , بيدَ ان القلعة وبسبب اوضاع الحرب السائدة خلال عصر موجي , لحقت بها أضرار كبيرة بعد مئتي عام من تشييدها , ثم تم اعادة بنائها في مطلع القرن التاسع عشر , وقد استغلت كقاعدة عسكرية , وبسبب الحرب دمرت مرة أخرى , وأعيد بنائها في منتصف القرن التاسع عشر , وأفتتحت للزوار لأول مرة خلال مطلع عام 1990 .
ان ما يميز هذه القلعة الحصينة دون غيرها من القلاع اليابانية المشيدة , هي في طريقة تشييدها على أرض منبسطة , بالرغم من قرب موقعها المجاور للجبال , ويمكن القول وبدون اية مبالغة ان في ذلك لغزا , فالمعروف بشكل عام ؛ ان جميع القلاع أو الحصون في اليابان وغيرها من البلدان تشيد على أرض مرتفعة نسبيا أو الجبال , لسبب بسيط ؛ وهو توفير حماية أكثر اثناء حدوث النزاعات أو الغزو , ومن الملاحظ ان موقع هذا الحصن يقع في وسط كيتاكيوشو , ويبدو ان أختيار الموقع له أهمية كبيرة تتعلق في حراسة مضيق شيمونوسيكي .
أستقبلتنا القلعة التاريخية بروائع الفن الياباني المتكون من الحفر والنقوش على الحجر , وتزدان قلعة الكوكورا أكثر تألقا بما تحيطها مجموعة من اشجار الكرز " الشجرة المفضلة لدى اليابانيين " , فما ان تحط الرحال عند القلعة حتى تشعر بأجواء الرهبة والتأمل التي تضغط على الروح , ويخيل لك ان أرواح الرجال الذين كانوا يدافعون عن القلعة , ما زلت تعيش فيها .
" جادت القلب والطريق المستقيم "
تخبرك قلعة كوكورا عن نفسها ما ان تدخل الى ارضها الحرام , بنصب تذكاري من الحجر يعود الى مالك القلعة , ولعله يكون شعار لها , بارتفاعها يزيد على متر واحد نقشت عليها هذه الكلمات " اخلاص , قلب , سليم , طريق " وهي تتوسط تحت فيء مجموعة من الاشجار الباسقة .
في هذا الجو يوشك الزمن ان يعود بنا , يعود الى الوراء اكثر من ثلاثة قرون قد مضت بحضارتها وبادت مع شعوبها , غارت عنها الانفاس بصورة تتقطع أوصال الحبر بوصفها , فتلك بداية الدخول الى هذا العالم الذي كان يمثل مستهل الحداثة اليابانية إن صح التعبير , بداية لحركة الانسان الياباني , الذي قطع مرحلة النضوج الفكري والحضاري اشواطا عبر العصور التاريخية , بالرغم من غلاف العزلة عن العالم الخارجي خلال عصر موجي ؛ والذي يمثل بمثابة حياة داخل صدفة قوقعة , الا ان ذلك الانسان بما يملك من الاحساس المرهف ؛ كسر الطوق وأخذ يتناغم مع انتمائه للإنسانية وتجاوز الحدود المغلقة فيما بعد , فقد رفض الظلم , وتغافل عن الاحقاد , وأذاب الانتماء المحدود وأحيى الانتماء الواسع الذي يمثل اليابان , ليحلق فوق اسوار دورة الحياة الطبيعية , فلم تتناثر قواه الى أشلاء وأطلال على مدى الأزمنة والمسافات , وقد ساعدته غريزته الاجتماعية ذو الطاقة المذهلة التي كانت هبة السماء له , ان تسيطر على سلوكه وتدفعه الى الامام بدون تردد او تقهقر مهما كانت الصعوبات التي تواجهه .
حدثتني الاستاذة ماريكو اينو عن القلعة :
- كان في القلعة حاكما ظالما , ومن ضمن حراسه رجلا شجاعا من مقاتلي الساموراي , وقد وصل الحال بالحاكم وحراسه الاخرين انهم جميعا يخافون من شجاعة هذا الفارس , وحينما أوجس الساموري خيفة في نفسه من هذا الواقع , تسلل الى اعالي الجبال بليل قد كسى الارض بثوب الحزن الاسود ليطمئن على سلامته , نائياً بنفسه من قدر لعله لم يحسب له حساب او يتداركه .
كلما تخط قدمي لها اثراً في تلك المساحة , كلما أطوي تاريخا حافلا بتنوع الثقافات وتطور الانسان في موكب الحضارة على طريق التاريخ بنقاوته وقساوته , الذي ولد انسان جديد له ثقل في ميزان القوة الحضارية والتقدم , بعد قرون كادت به ان يتدلى نحو الانحدار والانهيار , الا انه ابى الا صعودا نحو الازدهار في ذروته والحضارة في نقائها وصفائها , قد أختزل الزمن وجمع اشتات جهوده حينما عين مكامن الخلل الذي اصاب أوصاله .
قلعة الكوكورا يحيط بها خندق مملوء بالماء يبلغ عرضه حوالي ثلاثة أمتار والذي يمثل الخط الدفاعي الاول , وصقلت جدران القلعة بالحجر الملتصق والمرصوص مع نفسه , بشكل شبه مائل على ارتفاع اكثر من مترين , ثم عزز البناء بسياج من الحجر ايضا , ويتخلل ذلك السياج نوافذ صغيرة , وقد فهمت من الاستاذة اليابانية ان وراء كل فتحه كان يجلس مقاتل من الحراس الاقوياء الذين كانوا يشكلون حماية للقلعة , وفي جعبة كل مقاتل مجموعة من السهام , لصد عن هذه الحاضرة اي حالة تسلل الى داخل القلعة او اثناء حدوث النزاعات .
تحركت بنا الخطى نحو القلعة التي فقدت زهو ابوابها , فيما خطت مكانها اشارات الى مواقعها ومواصفاتها من قبيل ارتفاعها وعرضها , وبأي حال من الاحوال فقد كانت الابواب عظيمة من ناحية قياس عرضها وارتفاعها ووزنها , ومن الجدير بالاشارة فان مواقع الابواب كانت على طريق شبه متعرج .
على درجات القلعة انسابت قاماتنا جميعا , وعلق الصمت الرهيب بنا كما يلتصق الليل بالمعمورة , واخذت خطاي تتنقل بوثبات ذهول وتذاءب مشحون بالقلق والخشية , قد بلغ من أمرها في مصارعة الالتواء مرارا , فيما اخذت نظراتي بطبيعتها الملهمة من الوحشية تتيه في ذلك الفضاء الرحب , ونحن نتوجه بعد عناء ومشقة نحو محراب قلعة الكوكورا ,حتى اخذ هدير عيني يرتشف تارة ويرمي نفسه في أخرى ما أمكنه من هذا الكبرياء الياباني الشاهق الخارق .
قلعة الكوكورا تتكون من عدة طوابق , وقد اخذ الهيكل الخشبي الذي يزين القلعة ويصنع لها هيبة تسجد اشعة الشمس على صلابة معدنه , وسمو ينذر بالهلاك لكل من يحاول الاقتراب منها , شامخة بجلال على ساحل كيوشو .
في وسط فناء القلعة كرسي تكسوه مهابة , ولعله مكان جلوس الحاكم الاقطاعي , فيما تمتد على أديم ذلك الفناء مجموعة من المقاعد البسيطة , يقترن وجودها لعادة جلوس الاعيان وكبار المحاربين .
تتكون القلعة من عدة طوابق لا يغيب عنها الشموخ , مباهية زوارها بما تكتنزه من أسلوب الحياة والزهو الفاتن على مدى العصور التي مرت بها , الذي يجعل العين صريعة وممزقة لا تود الرحيل عنها , فيما تتجمد خطى الاقدام عندها فهي الاخرى لا تريد المغادرة , ولكن هو أمر معقود ومحكوم ان أرحل أينما شاءت الاستاذة اليابانية , التي لا يغيب عنها شموخ اعتزازها بما حققه بلدها من تقدم وازدهار , لكنها بقيت خافضة الجناح تلتمس المواساة , في خطوات اعد فيها انفاسها , وكأنها تبحث عن شيء قد فقدته في القلعة , فما ان وصلنا الى الطابق الاخير الذي يغزو أطراف المدينة , الذي يجعل الفرد وهو يجد فرصة لإمعان النظر في حالة احتضار لأنفاسه المبهورة , وقفت الاستاذة امام الة أحضرتها التكنولوجيا الجديدة :
- استاذ سليم , لأصنع لك ميدالية أحتفظ بها للذكرى .
كانت الميدالية تحمل صورة للقلعة التاريخية , وقد كتبت عليها هذه الاحرف ( SALEEM ALSARA IN JAPAN 20.11.2010 ) .
يوجد في القلعة جدارية ثلاثية الابعاد تصور جانبا من حياتها اليومية , من ناحية وجود الحراس وهم ينتشرون في كل اجزاء القلعة فيما أخذ النسر محلقا فوقها وهو يدق فضائها بجناحيه , وهناك ايضا يوجد في احد طوابق القلعة فيلما يعرض جانبا من حياة الدكتاتور وهو يجتمع بمحاربيه وهو يرشدهم في كيفية تجاوز المرحلة الصعبة التي يعيشونها بسبب الظرف الاقتصادي السيء .
 

Share |