(إنَّهُ, الـــــــــوطن)- دلال محمود- المانيا

Thu, 14 Jun 2012 الساعة : 9:52

حينما كنت صغيرة, كُنَّا نذهب كثيرا لزيارة عتباتنا المقدسة, تلك الأماكن التي كانت اغلبها تقع في جنوبنا الشقي..
كنتُ,أتمتع بالنظر الى ماهو خارج محيط السيارة من خلال النوافذ ,أسرح بنظري اللامتناهي على إمتداد الطرقات, ونادراً جداً ما أُدخِلُ رأسي داخل السيارة ,بل بعد عناء من والدتي رحمها الله وموتاكم.
لازالت تلك الأيام تُشَكِلُّ, ماضياً رائعاً, من الصعب أن نعيده, لِمَا ,كان فيه من صدق وجمال وعفوية, حيث كانت الناس على بساطتها تشعرك بالأمان في تعاملك معهم,سرعان ماتتعرف عليهم لدرجة انهم يصبحون بمثابة الأهل , وفي كل زيارة يكاد المرء يتعرف على صنف من البشر يجعلك تعترف أن العراق لايحوي الاَّ الخيِّرين
قد يقول البعض ممن يطالعون لي بإستمرار, وممن لاتغريهم كلماتي بقدر مايبحثون عن زلاّت بريئة من قلمي النقي,مالنا, ومالكِ, في كل يوم ترغميننا على قراءة , ذكريات أقل من كونها عادية, سأجيبهم , بأن تلك الاشياء التي تبدو عادية للآخرين تلك هي التي صنعت تأريخنا وحاضرنا الأليم, فكل الامور تترابط ببعضها البعض,و كل تصرف متعمد او غير متعمد كان له التأثير في كل مايدور الآن.
هكذا هي الحياة لاوجود لشيء دون وجود شيء آخر.
دعوني, لدقائق فقط, كي أسرح في تلك الأيام,لأصفها إليكم , ايها الأحبة الطيبون, يامن لاأبغي منكم الاّ, التمتع بماأشعره من تمتع ولو لثواني عندما, اترك قلمي يكتب بصدق متناهي حين يفشي لكم عن أسراري, فلقد اعطيت الحرية المطلقة لأوراقي وقلمي وتعاهدت معهما الا اقيدهما بمنافع شخصية, ولن أجعل منهما أداتان مشوهتان تخدمان جهة معينة أوفئة أو مذهب, بل كان إتفاقي معهما خالصاً مخلصاً لشي واحد لاغيره , إنه العــــــــــــــــــــراق العظـــــــــــيم.
هذا العراق الذي طالما تخايلته في كل شارع وحي وزقاق,بصور اخشى وصفها احياناً, كخيالاتنا الصغيرة الكبيرة عندما كنا نتخايل الله سبحانه وتعالى في صور شتى لدرجة كنا نتوجس من ذكرها حتى لوالدينا اللذين هم اقرب الناس لقلوبنا, هل ينكر أحدكم كيف كان ذوينا يخيفونا من عقاب الله سبحانه وتعالى , وكيف كنا نتخايله بصور ترعبنا, حتي يخيل الينا انه سينقضُّ علينا حتى وان كنا نلوذ في احضان امهاتنا, ثم سرعان ماتتغير صورته في خيالاتنا فيبدو بأروع الصور حينما كنا نقدم على عمل الخير ؟هكذا هي كانت نشأتنا.
حين أذكر كلمة العراق , اشعر بشيء رهيب يهزُّ كل خلية في خلايايَ,يُبكيني عراقي كثيراً.
وقليلاً, جداً, يُضحكني ويسعدني.
ياترى أينطبق عليه البيت الشعري الذي يقول
(ياساحر النفسِ كالشيطان ياوطنا ,يُهوى ويصفى على الويلات والغيَرِ)
أتعلمون انه ينطبق على حالتي الآن, عجيب نحن البشر, كنت اندهش حين اسمع كلمات ذلك البيت, ودائما ماكنت اناقش صديقاتي واسألهن كيف يحب الانسان من يجلب له العذاب والويلات ويؤذيه, فتجيبني احداهن( أنه الحب) وتستمر ضحكاتي من الجواب الساذج, وأردد كيف يولد الحب من العذاب؟ وأغيضهن بعبارة تباً للقلب الذي يهوى من يعذبه,وظل رأيي هكذا لحد هذه الساعة التي أكتب فيها الآن , والآن فقط أكتشفت أن هناك نوع من هذا الحب يكون للوطن فقط وأيُّ وطن إنَّهُ....
إنَّهُ, العـــــــراق ، أتصدقون لو قلت لكم انني أسمعه الآن يعاتبني , ويوبخني, كيف هان عليَّ ان أصفه بمعذِّبنا؟
ألم يعطِنا الكثير, الكثير؟
ألم نكن نحن قوم جاحدون؟
لقد علّمَنا أول حروف الكتابة, جلسنا على مقاعد الدراسة في صفوف مدارسه,تدفئنا تحت أشعة شمسه ,في أحلى سني أعمارنا,تخرجنا من جامعاته على يد أرقى أساتذته, شربنا من مياهه , ءَكلُّ هذا , ونسميه ظالم؟ تباً لنا كم نحن جاحدون
وطوبى للظلم حين يكون كظلم العراق لنا.
ياإلهي الذي لاإله لي غيره,كيف غرست في اعماقي هذا الحب الأزلي قبل أن افقه سر الحب للأوطان, وقبل أن اكتوي بنار الاحزان؟
لماذا إسمك يذكرني بعمق معاني اسم ابي وبغدادك تحيلني لقطعة من الهمَّ وهي تدق على قلبي ذكرى أمي التي فارقت الحياة وأنا هنا في وحشة الاغتراب.
لماذا اسماء محافظاتك تذكرني بكل شقيقاتي الطيبات منهم وغير الطيبات؟
أوآ.....ه من ساعات حزن الصباح الآن,في أيَّ زاوية خُزِنَتْ, تلك الذكريات حين كنت انظر من خلال نوافذ السيارة فأرى مساحات شاسعة من الأراضي الصحراوية, والخالية على الأغلب من أي خضار, بين مدة وأخرى كانت تظهر بساتين واشجار من النخيل الباسق الذي يشعرك بكبرياء لامثيل له في كل إمبراطوريات الحكام.
ولكن للأسف كان يشغل مساحات صغيرة بالقياس الى المساحات التي كانت جدباء.
خيالي كان يوحي لي آنذاك بأن كل المساحات هي بساتين غنَّاءة , ومناظر خلاًّبة, كنت أغمض أجفاني,اصطنع النوم الذي اجفاني,أخلق لنفسي عدسة كاميرا , أهديها لخيالي الغالي لينقل لي صور أروع مافي الكون, هي عبارة عن ورود, وأزاهير, وحقول عامرة بسنابل القمح,والشعير , وحمائم تطير هنا وهنا, مابين حقول الاطياب والاعناب تتواصل تلك المناظر في مخيلتي الى ان تصل الى الاماكن التي فيها البساتين والخضار وبهذا كان يتراءى لي ان العراق كله عبارة عن ارض خصبة وخضراء ومزهرة غناء.
حين افتح أحداقي يجفل قلبي فزعاً, ماهذا ياإلهي اين الخضار الذي كان تواً الآن,ثم أشرع ثانية بالتحليق الى السماء لأرى انني أزرع تلك الاراضي القاحلة , واسقيها مع الجموع الغفيرة من اهلنا الفلاحين, لتزهر الارض من جديد..
البيوت الطينية كنت أراها ابهر من القصور الفخمة الشاهقة ولن , اتذكر ان منظر القصور تلك قد اغراني يوماً ما.
أطفال وطني العراق وهم في عزِّ فقرهم وعوزهم, يُخيل لي أنهم اغنى نفوس الارض فيصور لي خيالي ملابسهم المتهرئة وكأنها مطرزة بخيوط من حرير وذهب.
يتبع

 

Share |