دروس في تفسير القرآن الكريم- الدكتور علي رمضان الأوسي- انجلترا

Thu, 14 Jun 2012 الساعة : 9:37

الغلو آفة الإيمان
(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ، لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ، مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ، قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ)[1].

تحدثت الآيات السابقة عن جانب من الانحراف العقائدي لدى اليهود، وهنا يأتي الحديث عن بعض الانحراف الذي طال الفكر المسيحي.

 

دعوى الالهية:

وأشد ما فيها دعوى ان المسيح بن مريم هو الله أو ابن الله.

جاءت الآية المباركة قاصفة هذا الادعاء بقوله تعالى: (لقد كفر) فلام القسم وكلمة (قد) الداخلة على الفعل الماضي تزيدان التأكيد وتحقق الفعل فهم كفروا لا محالة حين قالوا: (ان الله هو المسيح بن مريم)، وهذا الكفر جحود بحق النعمة الالهية التي أضافوها الى غيره سبحانه.

 ولعل فرقة اليعاقبة او اليعقوبية هي من روّجت لهذا الادعاء الباطل وقد زعموا ان الله سبحانه حلّ في ذات عيسى (ع) واتحد به حيث صاراً شيئاً واحداً، وحقيقة ان الأمر ليس كذلك (فلا اتحاد ولا حلول) حيث تأثر الفكر المسيحي بالثقافات التي دخلت عليه وانتهجوا ذات الغلو الذي أصاب اليهود من قبل: (وقالت اليهود عزيز ابن الله)[2].

وعلى ما يبدو فأن العصر الأول للتاريخ المسيحي كان بمنأى عن هذا الغلو (التثليث والشرك) ولم يجرؤوا عليه في وجود النبي عيسى (ع)، حيث ردّ بنفسه على بؤر هذه الافكار، وآيات القرآن الكريم شاهدة على ذلك (انظر الآيات 110-118 من سورة المائدة) مثالاً على تلك الردود المباشرة. كما في قوله تعالى حكاية عن قول عيسى (ع): (قال اني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً)[3].

 

الدعوة لعبادة الرب الواحد:

(وقال المسيح يا بني اسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم) وهذا اعتراف بملكية الله له ولبني اسرائيل فهو ليس إلهاً وإلا كيف يطلب من نفسه ويدعوها إذا كان إلهاً.

ثم تأتي قاعدة (إنّه من يشرك بالله فقد حرّم الله عليه الجنة) وهذا المنع من دخول الجنة لمن أشرك باعتبار ان الجنة دار الموحّدين ولا يدخلها مشرك، وبناء على ذلك يكون مستقره ومأواه النار وهناك لا نصير لهم من عذاب الله تعالى بعد ان استحقوه (وما للظالمين من أنصار) فالظلم أوضح الصور انطباقاً على هذا الشرك والغلو.

 

ثالث ثلاثة:

بعد الشرك جاءت النسطورية والملكانية فقالوا بالتثليث أي ان الالهية متوزعة أو مشتركة بين ثلاثة أحدهما: الله والآخر: عيسى وكذلك: أمه مريم وقد يسمي البعض الثالث: (روح قدس) بدلاً من أمه مريم (ع) فيقولون: (الأب والأبن وروح قدس)، وقد تورطوا في هذا التثليث الذي يصعب تفسيره وبيانه فلا معنى له أساساً حيث يقولون: ان كل واحد إله والكل إله واحد، وفراراً من هذا التعقيد قالوا بثنائية المسيح (ع) بين الناسوت واللاهوت فهو ابن الله بل نفسه من حيث اللاهوت، وهو جسم مخلوق من مخلوقات الله من حيث الناسوت.

وهذه كلها تمحّلات غير علمية تستند الى أفكار الحلول والاتحاد وكلاهما مرفوض ولعل خطبة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) في نهج البلاغة عن الواحدية والتوحيد الالهي من أروع البيان لردّ مثل هذه الدعاوى.

 

الجواب القرآني:

قال تعالى: (وما من إله إلا إله واحد) من: توكيدية جاءت ضمن أسلوب حصر الالهية - من خلال النفي والاستثناء - بالواحد لا بالتثليث أو غيره.

بعد ذلك توعد القرآن الكريم هؤلاء ان لم ينتهوا عن التثليث والشرك فأن عذاباً أليماً (ليمسّنهم) وهذه اللام للقسم توكيدية مع نون التوكيد كما ان تكرار مادة (كفر) ثلاث مرات في هاتين الايتين يؤكد انغماسهم في الكفر واستحقاقهم العذاب سواء من قال منهم: ان الله هو المسيح او من قال انه ثالث ثلاثة.

 

دعوة للتوبة والاستغفار:

جاء الاستفهام بالهمزة محفوفاً بالانكار عليهم لماذا تركوا التوبة وكذلك التعجب من إصرارهم على الكفر في (الاتحاد والحلول)، نعم حثتهم - يهوداً ونصارى – هذه الآية المباركة على التوبة الى الله والعودة اليه من هذا الكفر الجريء وذلك بالاستغفار وطلب التوبة وبهذه الطاعة يستحق الثواب، اما اسقاط العقاب عنهم فهو تفضّل منه سبحانه إن أراد.

 

الموقف القرآني مرة أخرى:

رداً على تلك الدعاوى:

1- (ما المسيح ابن مريم) فعيسى (ع) بشريته واضحة من أمه دفعاً لدعوى انه ابن الله. وإلا كان آدم (ع) الذي لم يولد من أب وأم بشريين أولى بهذه الدعوى.

2- حصرت الآية كون عيسى رسولاً وليس بأله وشأنه شأن الرسل الذين خلوا من قبل أي ماتوا ولم يدعوا إلهية وهم متساوون بهذه المنزلة.

3- (وأمّه صديقة) أي صدّقت بآيات ربها وما شهدته من فضل لولدها (ع). أو لكثرة صدقها مع الآخرين. قال تعالى: (وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من الصادقين)[4].

4- (كانا يأكلان الطعام) فالإله لا حاجة له بالطعام ويبقى من يأكل الطعام محتاجاً إليه وتعجزه الاشياء.

ثم تخاطب الآية الكريمة رسول الله (ص): (انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون) ففي تعجب من أمرهم تكررت (انظر) مرتين مزيداً للتدقيق في سيرة هؤلاء. كيف انهم يصرفون عن الحق بعد كل هذه الدلائل.

5- (قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً). فهو سبحانه القادر دون غيره يضر وينفع حيث يشاء وليس هذا شأن غيره من الاصنام أو البشر المخلوقين لذا جاء (ما) تشمل العاقل وغيره، وهنا تهديد آخر لهم بقوله: (والله هو السميع العليم) حيث لا تخفى عليه خافية.

 

الغلوّ:

الغلوّ لغة: تجاوز الحدّ، والخروج عن القصد.

فغلاء الاسعار وغليان الماء، واللغواء في الحيوان حين يجمع، كلها من أصل واحد بمعنى التجاوز والارتفاع.

وقد يكون الغلو في الاشخاص والعقائد والافكار حين يؤلّهون أو يقدّسون من غير تقديس! ومن الغلو الحب المفرط وعبادة البشر. وربما يدخل التطرف في دائرة الغلو فهناك غلوّ قومي وآخر عشائري، وحزبي وغير ذلك فلم تسلم العبادات ولا جانب المعاملات ولا السلوك ولا العقائد من هذا المرض الذي يدخل في الشيء ما ليس فيه.

فهناك من قال: بالحلول أو بالتفويض أو بالاتحاد أو بالتناسخ وكل هذا الغلو كفر.

ورد عن الامام علي (ع): (إياكم والغلوّ فينا، قولوا انا عبيد مربوبون وقولوا في فضلنا ما شئتم).

وورد عن الامام الرضا (ع): (الغلاة كفار، والمفوّضة مشركون).

وقد أوضح الغلوّ قول رسول الله (ص): (لا ترفعوني فوق حقي، فأن الله تعالى اتخذني عبداً قبل ان يتخذني نبيّاً).

وقد ابتلي المسلمون سنة وشيعة كغيرهم من اليهود والنصارى والاقوام الأخرى بالغلو وقد تصدى رسول الله (ص) وأهل بيته (ع) لذلك الغلوّ لكنه وللأسف أخذ ينتشر في ظل الفقر والجهل والاضطهاد وعهود الظلم.

وأكدت الآية المباركة منادية رسول الله (ص): (قل يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم غير الحق). فما تجاوز الحق قد يدخل في الغلو إذا كان في جانب الافراط، وبين الغلو والتقصير يأتي الحق وهو الاعتدال والاقتصاد.

ولعل اتباع (الأهواء) الضالة هي وراء ظاهرة الغلوّ (ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل) واولئك تجاوزوا الضلالة ليضلوا غيرهم (وأضلوا كثيراً) حتى ضاع عليهم مستقيم الطريق (وضلوا عن سواء السبيل) بعد (ضلالهم وإضلالهم).

 

دروس اجتماعية مستفادة:

1- الجحود حينما يضيع حق النعمة.

2- الحلول والاتحاد طرءا على التاريخ المسيحي واليهودي من أقوام أخرى.

3- (قل هو الله  أحد) ليست الأحدية العددية ولا الأحديّة البشرية.

4- أسباب نشوء الانحراف العقائدي في الاديان التوحيدية السابقة.

5- أخطار الغلوّ في السياسة والمجتمع.

6- أساليب مواجهة الغلو والتطرف.

 

 

 

 

--------------------------------------------------------------------------------

[1] - سورة المائدة: 72-77.

[2] - سورة التوبة: 30.

[3] - سورة مريم: 30.

[4] - سورة التحريم: 12.

Share |