وقفة مع جواد الأئمة .... معجزة الإمامة في صباه - أبو فاطمة العذاري
Sun, 3 Jun 2012 الساعة : 12:33

الإمام الجواد (ع ) يَصْدُق عليه ما صدق على يحيى (ع)
{ واتَيْناهُ الحُكْمَ صبيّاً }
ففي صباه حيث حيّر العقول بعلمه وإجاباته عن أعقد المسائل.
يروي محمد ابن طلحة فيقول: "لما تُوفّي والده الرِّضا(ع) وقدم الخليفة المأمون إلى بغداد بعد وفاته (أي الرِّضا) بسنة، اتفق أنَّه خرج إلى الصَّيد، فاجتاز بطرف البلد في طريقه، والصبيان يلعبون ومحمد (الجواد) واقفٌ معهم، وكان عمره يومئذٍ إحدى عشرة سنة فما حولها. فلما أقبل المأمون انصرف الصبيان هاربين، ووقف أبو جعفر محمد(ع) فلم يبرح مكانه، فقرب منه الخليفة، فنظر إليه، وكأنَّ الله عزَّ وعلا ألقى عليه مسحةً من قبول، فوقف الخليفة، وقال له: يا غلام، ما منعك من الانصراف مع الصبيان؟ فقال له محمد (الجواد) مسرعاً: "يا أمير المؤمنين، لم يكن بالطريق ضيقٌ لأوسّعه عليك بذهابي، ولم يكن لي جريمة فأخشاها، وظني بك حَسَنٌ إنّك لا تضرُّ من لا ذنب له، فوقفت" .
انها شجاعة الموقف والإرادة الحقيقية من صبي يمتلك ملكة قدسية ربانية .
جاء في تاريخ المسعودي بإسناده عن محمد بن الحسين بن أسباط، قال: "خرج عليّ أبو جعفر، فجعلت أنظر إليه لأصف قامته لأصحابنا بمصر، فقال لي: يا علي بن أسباط، إنَّ الله احتجَّ في الإمامة بمثل ما احتجَّ به في النبوّة، فقال: {وآتيناه الحُكمَ صبيّاً} وقال لما بلغ أشدَّه: {آتيناهُ حكماً وعلماً}.. فقد يجوز أن يُؤتى الحكم صبياً ويؤتاه ابن أربعين" .
وروى الشيخ المفيد في (الإرشاد): "وكان المأمون قد شُغِف بأبي جعفر(ع) لِما رأى من فضله من صِغَر سنِّه، وبلوغه في العلم والحكمة والأدب وكمال العقل ما لم يساوِه فيه أحدٌ من مشايخ أهل الزمان، فزوّجه ابنته أمَّ الفضل وحملها(ع) معه إلى المدينة، وكان متوفِّراً على إكرامه وتعظيمه وإجلال قَدْره. روى الحسن بن محمد بن سليمان، عن عليِّ بن إبراهيم بن هاشم عن أبيه، عن الريّان بن شبيب قال: لما أراد المأمون أن يزوّج ابنته أمَّ الفضل أبا جعفر محمد بن عليٍّ(ع)، بلغ ذلك العباسيّين، فَغَلُظَ عليهم واستكبروه، وخافوا أن ينتهيَ الأمر معه إلى ما انتهى مع الرِّضا(ع) (بأن أعطاه ولاية العهد)، فخاضوا في ذلك، واجتمع منهم أهل بيته الأدنون منه، فقالوا له: ننشدُك اللهَ يا أمير المؤمنين، ألاّ تُقيمَ على هذا الأمر الذي قد عزمتَ عليه من تزويج ابن الرِّضا، فإنَّا نخاف أن يَخرج به عنا أمرٌ قد ملّكناه الله، ويُنْزَع منا عِزٌّ قد ألبسناه اللهُ، وقد عرفتَ ما بيننا وبين هؤلاء القوم (من بني هاشم) قديماً وحديثاً، وما كان عليه الخلفاء الراشدون (العباسيّون) قبلك من تبعيدهم والتصغير بهم، وقد كنا في وهلةٍ من عملك مع الرضا ما عملت، حتى كفانا الله المهمَّ من ذلك، فاللهَ الله أن ترُدَّنا إلى غمٍّ انحسر عنّا، واصرِفْ رأيك عن ابن الرضا، واعدل إلى من تراه من أهل بيتك يَصْلُح لذلك دون غيره.
فقال لهم المأمون: أمّا ما بينكم وبين آل أبي طالب، فأنتم السبب فيه، ولو أنصفتم القوم لكان أولى بكم، وأمّا ما كان يفعله مَن كان قبلي بهم، فقد كان قاطعاً للرحم، أعوذ بالله من ذلك، وواللهِ ما ندمتُ على ما كان مني من استخلاف الرّضا، ولقد سألته أن يقوم بالأمر وأنزعه من نفسي فأبى، وكان أمر الله قَدَراً مقدوراً، وأما أبو جعفر محمد بن عليّ فقد اخترته لتبريزه على كافة أهل الفضل في العلم والفضل مع صِغَر سنِّه، والأعجوبة فيه بذلك، وأنا أرجو أن يظهر للناس ما قد عرفته منه، فيعلموا أنَّ الرأي ما رأيتُ فيه.
فقالوا: إنَّ هذا الصبيَّ وإن راقك منه هَدْيُه، فإنَّه صبيٌّ لا معرفة له ولا فقه، فأمهله ليتأدّب ويتفقّه في الدنيا، ثم اصنع ما تراه بعد ذلك، فقال لهم: ويحكم، إنني أعْرَفُ بهذا الفتى منكم، وإنَّ هذا من أهل بيتٍ عِلمُهم من الله وموادّه وإلهامه، لم يزل آباؤهُ أغنياء في علم الدين والأدب عن الرعايا الناقصة عن حدِّ الكمال، فإن شئتم فامتحنوا أبا جعفر بما يتبيّن لكم به ما وصفتُ من حاله.
قالوا له: قد رضينا لك يا أمير المؤمنين ولأنفسنا بامتحانه، فَخَلِّ بيننا وبينه لِنَنْصِبَ من يسأله بحضرتك عن شيءٍ من فقه الشريعة، فإن أصابَ في الجواب عنه لم يكن لنا اعتراضٌ في أمره، وظهر للخاصة والعامة سديدُ رأي أمير المؤمنين، وإن عجز عن ذلك فقد كُفينا الخطب في معناه.
فقال لهم المأمون: شأنكم وذاك متى أردتم، فخرجوا من عنده وأجمع رأيهم على مسألة يحيى بن أكثم، وهو يومئذ قاضي القضاة، على أن يسأله مسألةً لا يعرف الجواب فيها، ووعدوه بأموالٍ نفيسة على ذلك، وعادوا إلى المأمون، فسألوه أن يختار لهم يوماً للاجتماع، فأجابهم إلى ذلك.
واجتمعوا في اليوم الذي اتفقوا عليه، وحضر معهم يحيى بن أكثم، وأمر المأمون أن يُفرَش لأبي جعفر(ع) دَسْتٌ (أي جانب من البيت) وتُجعل له فيه مِسْوَرَتان (متكأ)، فَفُعِل ذلك، وخرج أبو جعفر(ع)، وهو يومئذٍ ابن تسع سنين وأشهر، فجلس بين المسورتين، وجلس يحيى ابن أكثم بين يديه، وقام الناس في مراتبهم (أخذ كلٌّ مكانه حسب رتبته الرسميَّة)، والمأمون جالسٌ في دَسْتٍ متصلٍ بدست أبي جعفر(ع).
فقال يحيى بن أكثم للمأمون: يأذن لي أمير المؤمنين أن أسأل أبا جعفر؟ فقال له المأمون: استأذنه في ذلك، فأقبل عليه يحيى بن أكثم، فقال: أتأذن لي ـ جُعلت فداك ـ في مسألة؟ فقال له أبو جعفر(ع): "سل إن شئت" قال يحيى: ما تقول في مُحْرِم "الإنسان أثناء الإحرام في الحجّ) قَتلَ صيداً؟
فقال له أبو جعفر: "قتله في حلٍّ أو حَرَم؟ عالماً كان المُحْرِم أم جاهلاً؟ قتله عمداً أو خطأ؟ حُرّاً كان العبد أم عبداً؟ صغيراً كان أم كبيراً؟ مبتدئاً بالقتل أم معيداً؟ من ذوات الطير كان الصيدُ أم من غيرها؟ من صِغار الصيد كان أم من كبارها؟ مُصِرّاً على ما فعل أو نادماً؟ في الليل كان قتلُه للصيد أم نهاراً؟ مُحرماً كان بالعمرة إذ قتله أو بالحج كان مُحرماً".
فتحيّر يحيى بن أكثم، وبان في وجهه العجزُ والانقطاع، ولجلج حتى عرف جماعة أهل المجلس أمره، فقال المأمون: الحمد لله على هذه النعمة والتوفيق لي في الرأي، ثم نظر إلى أهل بيته، وقال لهم: أعرفتم الآن ما كنتم تنكرونه؟
ثم أقبل على أبي جعفر(ع)، فقال له: أتخطب يا أبا جعفر؟ قال: "نعم يا أمير المؤمنين"، فقال له المأمون: أُخْطُبْ، جُعلت فداك لنفسك، فقد رضيتك لنفسي وأنا مزوّجُك أمَّ الفضل ابنتي وإن رَغَم قومٌ لذلك. ثم قال له المأمون: فإن رأيت أن تسأل يحيى عن مسألةٍ كما سألك. فقال أبو جعفر ليحيى: "أسألك". قال: ذلك إليك، فإن عرفتُ جوابَ ما تسألني عني وإلاَّ استفدتُه منك.
فقال أبو جعفر(ع): "خبِّرْني عن رجلٍ نظر إلى امرأةٍ في أوّل النهار فكان نظره إليها حراماً عليه، فلما ارتفع النهار حُلّت له، فلما زالت الشمس حَرُمت عليه، فلما كان وقت العصر حُلّت له، فلما غربت الشمس حَرُمت عليه، فلما دخل عليه وقت العشاء بالآخرة حلّت له، فلما كان انتصافُ الليل حَرُمَت عليه، فلما طلع الفجر حلّت له، ما حالُ هذه المرأة، وبماذا حلّت له وحرُمت عليه؟".
فقال له يحيى: لا والله ما أهتدي إلى جواب هذه المسألة، ولا أعرف الوجه فيه، فإن رأيت أن تُفيدناه.
فقال له أبو جعفر(ع): "هذه أمَةٌ لرجلٍ من الناس، نظر إليها أجنبيٌّ في أوّل النهار فكان نظره إليها حراماً عليه، فلما ارتفع النهار ابتاعها من مولاها فحلّت له، فلما كان الظهر أعتقها فَحَرُمَت عليه، فلما كان وقتُ العصر تزوّجها فحلّت له، فلما كان وقتُ المغرب ظاهر منها فَحرُمت عليه، فلما كان وقتُ العشاء الآخرة كفّر عن الظِهار فحلّت له، فلما كان نصف الليل طلّقها واحدةً فَحَرُمت عليه، فلما كان عند الفجر راجعها فحلّت له".
فأقبل المأمون على من حضره من أهل بيته فقال لهم: هل فيكم أحدٌ يجيب عن هذه المسألة بمثلِ هذا الجواب أو يعرفُ القول في ما تقدّم من السؤال؟
قالوا: لا والله، إنَّ أمير المؤمنين أعلمُ وما رأى".
أن بني العباس حرصوا على بقاء الخلافة فيهم، ولذلك كانوا يرفضون أي علاقة بأيّ شخص من أهل البيت (ع)، خشية من التفاف الناس حوله حيث دل موقف المأمون على أن أهل البيت(ع) قد فرضوا أنفسهم على دار الخلافة .
صدموا حين تغلّب على أكبر قاضٍ في البلد حيث تحوّل السائل المتحدي إلى مسؤول لا يملك نفسه أمام الإمام(ع) .
فالجواد (ع) كانوا يقبل التحدي ويستجيب للأسئلة في الحال من دون حاجة إلى وقتٍ يتأمل فيه، أو يراجع الكتب وهو ما لا يملكه الآخرون.
ورغم ان سنِّ الإمام الجواد(ع)، حوالي الخمسة والعشرين سنة، فقد التف حوله جمعٌ من العلماء كتلاميذ يستفيدون منه وممن ذكره السيد الأمين :
"قال الخطيب (البغدادي) في تاريخ بغداد: أسند محمد بن علي (الجواد) الحديث عن أبيه (الرضا).. وفي المناقب: كان بوّابه عثمان بن سعيد السمّان، ومن ثقاته أيوب بن نوح بن درّاج الكوفي، وجعفر بن محمد بن يونس الأحول، والحسين بن مسلم بن الحسن، والمختار بن زياد العبدي البصري، ومحمد بن الحسين بن أبي الخطاب الكوفي، ومن أصحابه شاذان بن الخليل النيسابوري، ونوح بن شعيب البغدادي، ومحمد بن أحمد المحمودي، وأبو يحيى الجرجاني، وأبو القاسم إدريس القمّي، وعلي بن محمد، وهارون بن الحسن بن محبوب، وإسحاق بن إسماعيل النيسابوري، وأبو حامد أحمد بن إبراهيم المراغي، وأبو علي بن بلال، وعبد الله بن محمد الحصيني ومحمد بن الحسن بن شمون البصري. .
أنّ الإمام الجواد (ع) كان في أسلوبه ألاستقطابي للمخلصين من أصحابه، يؤكد لهم الثقة بهم والتقويم لأعمالهم ولدرجاتهم في الإخلاص والنصيحة والطاعة، ليزدادوا بذلك إخلاصاً، وليشعروا بحقيقة القيادة الإسلامية الأمامية .
أبو فاطمة العذاري