الأهوار العراقية بعيون ألمانية

Sat, 2 Jun 2012 الساعة : 23:43

جاسم ألأسدي/مهندس استشاري/منظمة طبيعة العراق
ليس بعيدا عن مضيق البسفور وفي الجانب الأوربي من اسطنبول كانت الألمانية ذات الجذور البولندية أغاتا سكوفرونك تتطلع بعينيين خضراويين لزيارة الأهوار العراقية ، يشحذ خطواتها كتاب المبدع كافن يانغ "العودة الى الأهوار " والصور الفتوغرافية الرائعة التي يحتويها بعدسة نيك ويلر،عن السكان المحليين،الوجوه المبتهجة لملامح سومرية والطبيعة الجميلة ،زوارق الصيد وخفة الصيادين،بناء أكواخ القصب وصناعات حرفية تنم عن موهبة وذكاء فطري وتوارث معرفي لأجيال متعاقبة موغلة في القدم.

لم تثنيها مشاكل المرور عبر بوابات المطارات ،ولا الانتظار الممل في تدقيق سمة الدخول،ولا أخبار الفضائيات عن القلق الأمني وهواجس العمليات الإرهابية.أنها صحفية حرة،أرادتها أكبر من كل المخاطر المحتملة ،لا سيما وأن هنالك أصدقاء ينتظرونها في أعماق الأهوار بكثير من الود.

من هي أغاتا ؟

ولدت أغاتا في عام 1976 م في بولندا وهاجرت وعمرها خمس سنوات مع أبويها الى ألمانيا ،درست الاتصالات السمعية والبصرية في المملكة المتحدة واسبانيا،تعيش منذ خمس سنوات أيضا في أسطنبول،تجيد ستة لغات ،هي البولندية،الفرنسية،الألمانية،الأسبانية ،الانكليزية وكثير من التركية ،وهي في طريقها لتعلم العربية.منذ عام 2006 تغطي الشرق الأوسط كمصورة قصص، ومنذ عام 2009 تعمل بانتظام في العراق.منذ عام 2010 وهي مغرمة بالأهوار العراقية بعد أن غطت تحقيقات فوتوغرافية صحفية لكل من مجلة ديرشبيغل الألمانية، وما تلاها فلم وثائقي لمنظمة مجتمع مدني نمساوية ذات صلة بالبيئة ودفاع عن الأهوار العراقية والحصة العادلة للمياه من نهري دجلة والفرات.تقول بثقة " أشعر أن قضية الأهوار العراقية ،قضيتي الشخصية،وأدرك وأنا التي أعيش في تركيا حيث هناك منابع دجلة والفرات،أن السياسة المائية التركية هي التي تقرر مصير الاهوار العراقية،من الصعب على أناس خارج هذه البيئة أدراك أهميتها الطبيعية والثقافية بقدر الذين يرونها وجهاً لوجه.أن سد أليسو الذي تقوم الحكومة التركية ببناءة على بعد 65 كم من الحدود العراقية-السورية سيغرق مدينة أثرية تركية تسمى حسنكييف وسيدمر الأهوار العراقية وتختفي بصرياً .

بين بيت قصبي لصياد هنا ومأذنة حسنكييف التاريخية هناك صلة البعد التاريخي والقيمة الحضارية،أن مصيرهما واحداً وهو يتعلق بسياسة تركيا المائية وإنشاء سد اليسو.أذا لم نستطع إيقاف هذا السد فسنكون شهود على مجزرة بيئية بحق الطبيعة"

تلك المرأة حريصة أن تكون في الواجهة الأمامية للدفاع عن حقوق العراق التاريخية في مياه دجلة والفرات،وصوتا مميزا لإبراز أهمية الأهوار العراقية بيئيا وطبيعيا واجتماعيا وحضاريا واقتصاديا.

الجبايش ترحب

كانت الإقامة في الجبايش تلك المدينة الجميلة التي تغفو على ضفة الفرات اليسرى بكثير من الحبور،مدينة أكتسبت شهرةً عالمية عبر كتابات الرحالة الأوربيين،وأطروحة الراحل مصطفى سليم  عنها عام 1955 والتي قدمها لجامعة لندن ونال بها درجة الدكتورة بامتياز وترجمة وطبعت بالعربية في ستينات القرن الماضي من قبل مطبعة العاني في بغداد تحت عنوان "الجبايش دراسة أنثربولوجية لقرية في أهوار العراق"

وفي الجبايش كان مكتب منظمة طبيعة العراق ، محطة أقامة لهما ،حيث البناء القابع بين الاهوار الوسطى من جهة وهور الحمار من الجهة الاخرى وعلى مسافة قصيرة منه مداخل الماء الرئيسية لبحيرة بغداد،وقرى أبو صوباط والسحاكي والساجية والغميجة والمجري .أنها الآن بأجواء سومرية وأيادي أمينة لمربي جاموس ،وجامعي قصب،ليالي تغدق عليها بظلال التاريخ السحيق ورحابة الحضور ،طقوس السمك المسكوف وقوري الشاي الذي يعده حسن،

الدهشة ترتسم على وجه ودود يرسم حدوده حجاب تعتمره يوم صعدت سلم الطائرة في اسطنبول،دهشة الذي رأى مالم يتوقعه،حركة لايشوبها حذر ولقاءت حوارية انسيابية،وابتسامات أينما ذهبت.أنها لغة المعدان وروحية الذين عاشروا الماء وجعلوا منه فردوس حياتهم رغم ضآلة الخدمات.

وفي الأهوار الوسطى كانت الأيام اللاحقه لوصولها مسرحاً لجولات جميلة يرافقها أدلاء وأصدقاء منظمة طبيعة العراق ،تلك المنظمةالتي تركت بصماتها على إعادة الاغمار لبيئة قطع التجفيف اوصالهامنذعام 1991 .كانت الأنطلاقة قبل شروق الشمس كل يوم،"شخاتير" تمخر عباب المجاري العميقة في مجرى أبو سوباط والعملاق والمجري وام بزونة وعمود الفرات . وعند مداخل الهور تنطلق الجواميس في رحلة نحو مواطن الكلاْ.

صيادو الأسماك،يذهبون الى حيث شباكهم القابعة طيلة الليل في البحيرات الجميلة،وصيادوا الطيور ينطلقون بزوارقهم الضيقة "التوابيت" الى حيث يوجد الحذاف،الزركي،دجاج الماء.

لقد أذهلها الهور،نباتاته،مسالكه،بحيراته،هدوءه،مرةً تصور وهي جالسة على حافة الزورق،ومرةً أخرى وهي تستلقي على بطنها مقربةً الكاميرا من سطح الماء.

وفي الاهوار الأخرى، كانت المشاهد متعددة،جامعوا وبائعوا قصب وحشيش،مربوا جاموس، أجناس مختلفة يوحدهم الهور وجذور اجتماعية واحدة، وثقافة واحدة،وتطلعات لاتتعدى توفير المياة والخدمات الأساسية ،وبين هذا وذاك تقبع مناطق جافة محترقة من الأهوار قريبة من منطقة الصيكل تلك التي كتب عنها "كافن يانغ" في كتابه الموسوم "العودة الى الأهوار"  بكثير من الحبور يوم كانت ممرات قصبية اخاذة،مزارع رز ساحرة،جزر تتوسد الماء ،وعالم قائم بذاته،ومكتفي بما حوله.

صديقتي الألمانية مأخوذة بكل شيئ ،بتلك البساطة في إقامة بيت قصبي في أقل من نصف نهار!!،في توازن الأطفال وقوفاً مع انطلاق "المشاحيف"، بمهارة القرويات في قطع الحشيش، بالحكايات المفجعة لهجرات قسرية،وأطفال لايجدون فرصة لتعلم الأبجدية وهم على كيلومترات قليلة من حقول النفط،بل بالأحرى هم فوق بحيرات منه.

وجوه متعددة....ورؤية واحدة

ومن هور لهور كانت المشاهد توحي بأن السلالة السومرية مازالت قائمة،لكن من يمثلها في البرلمان يجهل همومها،أو يتناسى أوجاعها وماعانته بعد ان آوته وقدمت له الزاد والملاذ الآمن في سنوات الحكم الدكتاتوري البغيض.

فعلى "أيشان" يعود لفجر السلالات تقوم قرية "أم الودع"،قرية كانت تعيش مستقرة منذ أحقاب طويلة على مسافة ليست بعيدة من سوق الشيوخ،يستوطنها الآ ن أغلبية من بني أسد ،يقول" صياد ناهي" احد سكانها الذين عاد أليها بعد أن عادت المياه "أن هذه الجزيرة يسكنها الآن مايزيد عن 1500 نسمة،اقتصادها يقوم على الماء ولاشيء غير الماء،صناعة حصران القصب،صيد الأسماك والطيور،تربية الأبقار والجاموس،بيع الحشيش.

حين   جفف  النظام السابق هور السناف الذي يحيط بالجزيرة عام 1991 هاجر مع من هاجر،وتشتت السكان بين مدن متعددة الإسكندرية،الفلوجة،سامراء،بلد....الخ من مدن العراق الأخرى واشتغل هناك كعامل زراعي اجير حيث يفتقد الى  قهوة الصباح المرة في جلسة عشائرية تجمعه مع أبناء عشيرته،أما اليوم وقد عاد بعد أن عاد الهور وتخطى معضلة الجفاف بفضل أعادة أغماره بمياه المصب العام فقد اطمئن قلبه ووجد في بيع الحشيش فرصة للعيش رغم انعدام الخدمات ألا انه يشعر ان اعظم ما أكتسبه هذه الحرية في التنقل والتعبير....ليس عسيراً عليه ان يتخطى الحدود الإدارية  لأي مدينه وهو لايحمل مايثبت هويته"

أما أبو جاسم فقد استرسل مع الأوربية القادمة من هامبورغ وقص عليها خفايا الهور وخباياه،أنه أبن الهور الذي لايستطيع ان يعيش بدونه.وجد بين أحضان الكرماشية مأوى ،وما الكرماشية سوى جزءاً محلياً من هور الحمار.

على اطراف الأهوار الوسطى وضمن حدود ناحية الخير وليس بعيداً عن أهوار الجبايش والمناطق الاثرية المنتشرة هنا وهناك في "حلاب" و"ايشان غضبان" ثمة بيوت لاتتجاوز اصابع اليد الواحدة،تشكل نسيجاً أجتماعياً مستوحداً ،بعيداً عن التجمعات الكبرى،أنها عوائل من مربي الجاموس"المعدان" بلغة أبناء الحواضر الأهوارية،هنا وعلى مقربة من الأراضي الزراعيه وقناة مائية آتية من نهر العز وتشكل هوراً مغلقاً صغيراً وجد "ابو فرج ال فريجي" نفسه وقليل من أقاربه مكاناً للسكن وتربية الجاموس،ليس بعيداً عن كوخه القصبي نصب شباك الصيد في مياه تشكل مصدر حياته.حين طلبنا منه الحديث عن ذكرياته قص في حضرة سميحة الشافعي حكايات وحكايات ، تنقلاته عبر سنوات الجدب والتجفيف،معاناته مع رجال الامن والشرطة والجيش في زمن الحروب والخطوب،قال مفاخراً وبضحكة من القلب "انه لم يخدم في جيش السلطة السابقة مطلقاً،لم يعرف البسطال والبيرية،ولم يكن واحداً من وقود الحروب العاتيه"،وحين سألته الصحفية وكيف استطاع الإفلات من براثن السلطة قال بزهو" مياه الهور وقصبه قادر على حمايتي"

أسئلة وأسئلة أخرى

لقد استمتعت تلك الصحفية الفوتوغرافية بالتنوع الطبيعي لأهوار جنوب العراق،ببساطة الحياة،بطقوس العمل اليومي،بجمالية المكان وحميمة الجغرافيا والتاريخ ،قضت ليالي مع عائلة أهوارية ،فقاسمتها فطور الصباح خبز التنور الحار والجبن المحلي غير مكترثة للسعات البعوض ورطوبة رياح شرقية وانقطاع التيار الكهربائي. أنها تعد لفلم مهم عن الأهوار العراقية سيتم عرضه على الصعيد العالمي.                                                                                                                     

الأهوار العراقية بعيون ألمانيةالأهوار العراقية بعيون ألمانيةالأهوار العراقية بعيون ألمانيةالأهوار العراقية بعيون ألمانيةالأهوار العراقية بعيون ألمانيةالأهوار العراقية بعيون ألمانيةالأهوار العراقية بعيون ألمانيةالأهوار العراقية بعيون ألمانيةالأهوار العراقية بعيون ألمانيةالأهوار العراقية بعيون ألمانيةالأهوار العراقية بعيون ألمانية
Share |