بغداد .. سيدة نساء العالمين (الحلقة الأولى)-نبيل ياسين

Mon, 28 May 2012 الساعة : 15:39

نشر هذه المقالة احتجاجا على تحويل تمثال الشاعر البغدادي العراقي معروف الرصافي إلى مزبلة. لقد هانت بغداد على العراقيين حتى تحاول شعرها إلى مزبلة.
جف حليب أمي ولم ترضعني. فأسلمتني إلى بغداد التي القمتني ثديها  كرضيع جائع . ناغتني ودللتني وهزت مهدي الخشبي ذا اللون الأزرق المفضض الذي كان عليها أن تأخذه بعد فطامي وتهديه إلى مرقد السيد محمد قرب سامراء، في رحلة بطيئة مع أكوام الحاجيات المهداة إليه من نساء عاقرات يحبلن ذات يوم ، وأمهات ينتظرن عودة ابن طال غيابه ، أو زوج طال هجرانه ، أو رزق ساقه الله بعد ظمأ وجوع . تلك الرحلة التي كنا ننتظرها بفارغ الصبر من المحطة العالمية في غربي بغداد.
أما كان المتنبي على حق وهو يقول:
اعز مكان في الدنى سرح سابح. كان اعز مكان لنا في الدنى ,الرفوف الخشبية الطويلة المعلقة في العربات والمخصصة للحقائب . هناك كنا نتمدد طوال الرحلة البطيئة منتظرين بذلك الشوق الطفو لي والصبياني ، محطات الطريق التي ستزودنا فخاريات اللبن الخاثر المغطى بتلك الطبقة الرقيقة الصفراء من الزبد .

لم يدل مشهد ما ، على ذلك التيه الرافد يني الأبدي  مثلما دل عليه المشهد في المحطة الأخيرة للقطار في برية واسعة . لم تكن هناك محطة . عمود واحد يقف بين أعمدة التلغراف الممتدة على طول سكة الحديد والتي كانت تبدو كطناطل شاحبة تتقدم إلى الأمام بالسرعة نفسها التي يسير فيها القطار  بينما كانت هي في واقع الأمر ثابتة على الأرض الترابية. عند ذلك العمود يتوقف القطار ، وتهبط حشود الخلق : نساء بعباءات سوداء وأطفال وشيوخ ورجال منحدرين في رحلة برية لثلاثة كيلومترات إلى ذلك المرقد الواقف وحده في البر الشاسع . هنا قتلوه ذات يوم ، وهنا دفنه العابرون ، والى هنا تأتي الحشود لتقيم طقوسها .

وما من بلاد يتوزع الشهداء والقتلى الغرباء ثراها مثل هذه البلاد  كأنها الملاذ الأخير لكل من يريد أن يسقط في الميدان.،لقد ظهرت لي بغداد في كل النساء اللواتي عرفتهن. وإذا كان من عادة الأمهات فطام أبنائهن ، ووضع نبات الصبر المر على حلمات أثدائهن ليمتنع الرضيع عن الرضاعة ، فان بغداد لم تحاول فطامي إلا بعد أن صار لي زوجة وطفل . ولم تضع الصبر المر على حلمتها البنية الداكنة ، لكي لاتفطمني عنها.،وفي نفس اللحظة التي فارقت فيها أمي ، ذلك الفجر البعيد ، فارقت بغداد . ظلت أمي على هيئتها تلك ، لم تستطع تحمل رحيلي . فهوت على اسمنت المدخل وتحجرت إلى اليوم بثياب حدادها على أبي  وصارت تبدو منذ ذلك المشهد ألفجري على هيئة تمثال لكاهنة سومرية تحيطها هالة من عتمة الفجر ألشتائي الرمادي البارد وبغداد ظلت على هيئتها تلك  متيبسة راكعة على ضفاف دجلة الرمادية في ذلك الفجر بثياب حدادها على شعب كامل . وقد خلطت  فيما بعد بين بغداد وأمي وكل النساء اللواتي عرفتهن ومررن في طريق رحيلي الطويل ، الطويل ، في مدن وشوارع وحانات ومقاه ومحطات وقطارات وليال وفضاءات ضيقة واخرى واسعة لامتناهية ممتدة في زمكان فيروزي وسندسي اللون ، دائري مغلق . ومثل شراع هاو من اعلى الصاري ، هويت على كل مدينة بحثا عن الالهة الأم التي تنحل في نهاية التكوين بحثا عن بغداد .
الملح في اليدين
،الخبز في اليدين،والماء في العينين،
جئت إلى بغداد،احمل هذا الزاد
،في خرجيَ المنسوج من أهداب امرأة،
( افتتاحية قصيدة مرثية بغداد 1969)،دهاليز بغداد القديمة وبيوتها المكونة من إيوان تطل عليه شبابيك الحجرات ، في الحيدرخانة, والسنك, وجديد حسن باشا, والكريمات, والكاظمية والصالحية والشواكة, وسراديب بيوتها الباردة، قادتني إلى البحث عن عصور قديمة.

كنت اسأل : هل هذا ما تبقى من بغداد ، من عصر ازدهارها العباسي كعاصمة للعالم ?

كنت أشم رائحة الطابوق(الفرشي) برطوبته وعطن رائحته, فأشم رائحة تاريخ وأجيال وفلاسفة ومعتزلة ومتكلمين وشعراء وخلفاء ومكتبات وحرائق وقصائد وحروب وتدمير . كان دجلة يدفع بضفتيه الشبيهتين بذراعين لدنتين, جانبيها وكأنه يفصل بين رئتين .
وحين وضعت قدمي على طريق الصحافة في وقت مبكر ، في السادسة عشرة من عمري ، كانت محلة جديد حسن باشا ,هي شارع الصحافة في بغداد: المنار, الفجر الجديد, كل شئ, البلد, صوت العرب, المتفرج, الفكاهة,  وغيرها من صحف منتصف الستينات .
طريق سيري الليلي ، بعد انتهاء العمل في الجريدة  كان مرورا في السحر ، والصوفية ، ومشهد الأزل السرمدي في مكان ما ، في كون آخر . شارع المتصرفية الذي ينتهي في شارع جديد حسن باشا ، الذي يلتقي بشارع المتنبي . عتمة الأضواء ، والأبواب المغلقة للمكتبات ، والورق المتطاير في ريح هادئة ، ووقع الأقدام على أسفلت الشارع ، والحيطان العالية للأبنية القديمة ، والصمت الذي حل قبيل منتصف الليل كلها ملامح سحرية تلفني قبل آن ادخل إلى سوق السراي الضيق والمسقف الطويل الذي عاش منذ العصر العباسي كسوق للوراقين ، وحوانيته المغلقة في الليل تنام على مخطوطات ، وكتب قديمة وطبعات شعبية عن عنتر وعبلة والمياسة والمقداد وكليلة ودمنة وألف ليلة وليلة والملاحم والفتن, وغيرها من كتب صعدت من طبقات بغداد القديمة لتبقى إلى جوار النهر. في العشرينات من القرن التاسع عشر, كانت منطقة المتصرفية, او القشلة, مقر الوالي المملوكي داود باشا.واتى حريق بغداد عليها الذي أضرمه العثمانيون المهاجمون فظل القصر واسطبلا ت خيل السلطان المملوكي تتلوى تحت النار ثلاثة أيام . وسقطت القلعة ذرات من رماد ذرته الريح إلى النهر الذي كان يشهد, كل بضعة أعوام, رمادا لشئ ما . وقبل ذلك كان القصر العباسي للخلافة التي انتقلت إلى الرصافة في عصر الخليفة المهدي مهجورا قائما قرب مقرات سلاطين وولاة الدولة الذين نصبوا طوب أبو خزامة ليكون شاهدا على إخضاع مراد الرابع لبغداد التي أغوت كل البرابرة والغزاة، كما أغوت الفلاسفة والروحانيين والمتصوفة والعلماء للرحيل إليها. هناك من سمع

الأمام الشافعي يقول :
ما دخلت بلدا قط إلا عددته سفرا ، إلا بغداد فاني حين دخلتها عددتها وطنا. لكن بغداد ظلت تحتفظ بأسرارها التي لاتبوح بها إلا لواحد مثلي من أبنائها ومحبيها ، كما يبوح جامع الآصفية ، في نهاية السوق  بصلوات عباد متوحدين في آخر الليل ، تتسرب من بابه المفتوح إلى الفجر . وبعد ثلاث خطوات أو أكثر قليلا يبدأ الجسر إلى اليمين منحنيا ، مثل زمان متجمد  حنون ، على نهر دجلة المعذب بالأنات والأغاني والتراديد وشجى الفقراء الجالسين على أرصفته بانتظار العابرين . كل يوم ، كل يوم ، في مثل ذلك الوقت ، أقف على الجسر ، من جانب الرصافة ،ناظرا إلى ساحة القشلة الحجرية, عاكسة ضوء مصباحها الوحيد على سطح مياه النهر, لأرى الجنيات يسبحن في مياه دجلة الفضية المعتمة, على حواشي بغداد طالعات من ألف ليلة وليلة ، عائدات عند الفجر ، إلى حجراتهن تحت قصر الخليفة مختطفات من الفجر ، شذى الرازقي, وندى الجوري, وعبق الطلع في نخيل بساتين بغداد في الرصافة والكرخ والكاظمية . من على الجسر ، تلوح العطيفية عند منعطف النهر في جهة الكرخ  حيث دوّر المنصور مدينة بغداد هناك ، ممتدة إلى الجعيفر الذي يضم رفات بغداد الزوراء التي زوّر المنصور أسوارها لتمتنع عن الغزاة.
قال رباح البناء وكان ممن تولى بناء سور بغداد بعد اكتمال بنائها : إن بين كل باب من أبواب المدينة إلى الباب الآخر ميل  وفي كل ساف من اسواف المدينة مائة ألف لبنة واثنتان وستون آلف لبنة من اللبن الجعفري ( المنسوب إلى أبي جعفر) . فلما بنينا الثلث من السور لقطناه ( أي ضيقناه ) فصيرنا في ألساف مائة ألف لبنة وخمسين ألف لبنة  فلما جاوزنا الثلثين لقطناه ، فصيرنا في ألساف مائة ألف لبنة وأربعين آلف لبنة إلى أعلاه. ،كأن بانيها كان يعرف أن الغزاة سيأتون إليها من كل فج عميق ، ومن كل متاهة حتى يصلوا هذه القبة السماوية المضروبة على قمة الأرض وسط العالم في تصادم الرياح الأربعة الهوجاء. قيل لرجل : كيف رأيت بغداد ? قال : الأرض كلها بادية وبغداد حاضرتها ( تاريخ بغداد للخطيب البغدادي) سحر الليل على ضفاف دجلة هو سحر يرقى إلى التاريخ والزمن القديم الذي بقيت أشلاؤه مطروحة على الضفاف الطينية لمدينة يقوم على ضفتي نهرها مسجد وجامعة وسوق للكتب ومزار لصوفيّ .
لم يبق في قلبي حب لامرأة إلا كما بقي فيه حب هذه المدينة التي رأيتها في حبيبتي وفي أمي .
لقد جلسن ، ثلاثتهن ، على ضفاف دجلة ، في فجر ما ، سحيق في القدم ، ليتحللن في حواء واحدة ، نهضت من أعماق الماء جنية مبللة الشعر لتهرع نحوي في نداوة ذلك الفجر الذي ولدت فيه ، وأغادرها في صمت ذلك الفجر الذي رحلت فيه . هل قدر لي أن أولد في الفجر ، وان ارحل في الفجر ? ما أحببت فجر مدينة مثلما أحببت فجر بغداد . مدينة يهيم في شوارع فجرها التاريخ والأنس والجن من مردة وعيارين وفقراء وصوفيين ودراويش وشعراء ومغنين ومرتلين ومرددي أدعية مختفين في عبق حدائقها وبساتينها ، ورائحة أسواقها : سوق الصفارين  سوق الذهب ، سوق السراي ، سوق الشورجة ، سوق النهر ، سوق الدجاج سوق الشواكة  سوق الفحامة ، سوق حمادة ، سوق القماش ، سوق الآلهة التي هدمت هذه الأسواق ولم يبق منها سوى صياح الباعة مترددا في الفضاء الفسيح الممتد من محلة الشيخ صندل وعلاوي الحلة في الغرب إلى المربعة ( حيث سوق الثلاثاء في العصر العباسي وخمارات أبي نؤاس في بعض الأديرة التي كانت قائمة آنذاك ) والباب الشرقي في الشرق  ومن أسواق الكاظمية وباب الدروازة في الشمال إلى الطريق إلى كربلاء في الجنوب.،عن أبي يعقوب الإسرائيلي وكان قد قرأ الكتب ، انه قيل له : مال بغداد لاترى فيها إلا مستعجلا ، فقال : لأنها قطعة من بابل فهي تبلبل بأهلها . قال أبو الحسن بن المنادي : فنظرنا في كلام هذا الإسرائيلي فإذا هو كلام لايصح في المعتبر(الخطيب البغدادي):
بغداد حلم الله أعطاها النواح ،
وكثرة الشعراء،
بغداد حلم الله،
أعطاها الفرات ودجلة ،
وسلالة من أجمل الشهداء،.....
بغداد تنأى عن يدي،وتصير اقرب من وريدي،...،
بغداد تنأى عن يدي،
وأعيد تشكيل الشوارع ، والأزقة ، والبيوت،
وأعيد رصف طفولتي وأشيد الماضي وارسم شارع السعدون  والميدان مقهى في الرصافة .حانة البحرين،أو سرجون
(بغداد الجديدة1981 ).
الحلقة الثانية والأخيرة الأسبوع القادم.

Share |