الحنين الى الوطن الحلقة الثانية -كريم مرزة الاسدي - امريكا
Mon, 6 Jun 2011 الساعة : 10:52

من ابن الرومي والمتنبي ...حتى الجواهري و جمال الدين
يسكن ابن الرومي ( وطنا ) في بغداد ,وكان له جار اسمه ابن ابي كامل , في رواية (زهر الاداب ), أغتصب بعض جدر دار ابن الرومي (221- 283 هج \ 835-896 م) , و أجبره على بيعها ,ففزع ابن الرومي الى سليمان بن عبد الله بن طاهر شاكيا وذاكرا تلك الدار او ذلك الوطن ,, أقرأيا عزيزي لابن الرومي البغدادي ! :
ولي وطن آليــــت الا أبيعـــــه وألا أرى غيري له الدهر مالكا
عهدت به شرخ الشباب ونعمة كنعمة قوم أصبحوا في ظلالكا
وحبّبَ أوطان الرجــال اليـــهمُ مآرب قضاها الشبـــــاب هنالكا
اذا ذكروا أوطانهم ذكرتهـــــم عهود الصـــبا فيها فحنوا لذالكا
فقد آلفته النفــــــــس حتى كأنه لها جسد ان بان غودر هالكــــا
أعتقد أنه لم يسبق لأحد أن أستعمل كلمة (وطن ) بهذا المعنى غير ابن الرومي , و ان حدث ذلك فبكل تأكيد , كان ابن الرومي أول من حلل تحليلا نفسيا رائعاعلاقة الانسان بوطنه , ويتدرج بهذا التدرج المنطقي المتسلسل من عهود الصبا الى شرخ الشباب ,حتى تألفه النفس , ويصبح كالجسد ,وبدونه يحل الهلاك , وله أبيات جميلة أخرى في التعلق بالبلدان ,ومدى تمثلها بالضمير:
بلد صحبت به الطفولة والصبـا ولبست ثوب العمر وهو جديدُ
فاذا تمثل في الضمير رأيتــــــه وعليه أغصان الشباب تميــــدُ
كأنني به لهذا التشبث بوطنيته وصدق ايمانه بعروبته , يتنصل من كنيته المفروضة عليه ,وكأنه يعلم ما يجر النسب عليه مما ليس لديه,والوطن يكبر بحجم العقول وسعة أدراكها , أليس هو القائل :
وللنفس حالات تظل كأنما تشاهد فيها كل غيب سيشهدُ
واذا عاش ابن الرومي طيلة حياته في بغداد , ولم يغادرها الا نادرا , ويرجع اليها لائذا , فالمتنبي (303 -354 هج \ 915 -965 م ) منذ صباه الأول , يفعل أم لم يفعل ,كان قلبه يعلم ,إن المعلوم ضائع , والمجهول آت , والغربة حال واقع , والشعراء يهيمون , ويهيمون !....يرى ببصيرته ,لابباصرته , أريد ان أستدرجك الى ما أعشقه أنا اليوم ,وأوظف شعره لصالح غربتي , ربما لك أن تقول :ليس كما يصب عشقه هو بالأمس لمحبوب يتطلع إليه , والشعر -على كل حال - ليس بالضرورة يجري كما يرميه الشاعر ,ولكن كما يهدف إليه الناقد , والحديث شجون ,إقرأ :
أرق على أرق , ومثلـــــي يأرق وجوى يزيد ,وعبرة تترقرقُ
جهد الصبابة ,أن تكون كم أرى عين مسهدة , وقلب يخفـــــقُ
ما لاح برقٌ , أو ترنـم طائــــــرٌ الا أنثنيت , ولي فؤاد شيـــقُ
ومهما يكن من أمر , بعدت أم قربت ,رضيت أم أبيت , لقد جرب المتنبي العظيم مرارة الغربة ,وضياع التشرد باكرا , حين هاجر الكوفة مكرها ,والحكم لله :
تغرب لا مستعظما غير نفسه ولا قابلا الا لخالقه حكما
ومهما كانت الاسباب ,فالحقيقة واحدة ,لقد عانى المتنبي كثيرا من الغربة عن الاهل والوطن , تحمل من تبعاتها كثيرا,واتهم اتهامات عديدة , رد عليها بقوة حزم, وشدة عزم ,فمن مثله لمثلها , ففي مجلس ابي العشائر( 338هج )أجاب من يهمه امر نسبه :
أنا ابن من بعضه يفوق أبا البا حث ,والنجل بعض من نجله
أنا الذي بين الالـــــــــــه به الـ ـــــأقدار,والمرء حيثما جعلـه
إن الكــذاب الذي أكـــاد بـــــه أهون عندي من الذي نقــــــله
وربــــــما يشهد الطـعام معي من لا يساوي الخبز الذي أكله
ويظهر الجهل بي و أعرفــه والدر در برغم من جهلـــــــــه
والدكتور طه حسين يعد هذه الأبيات من أروع ما كتب المتنبي طيلة حياته في كتابه ( مع المتنبي ) , مهما يكن من أامر ,يعّرّفه أبو العشائر على سيف الدولة الحمداني , ويحتل المركز الاول في بلاطه كشاعر ,ويلقي بين يدي حضرته غرر القصائد ,وأروع القوافي ,وأبدع المعاني ,فيغطي على خمسمائة شاعر ,ويمحي ذكرهم ,ولكن وقف له الحساد ,والأنداد ممن هم أكبر شأنا ,وأعلى همة ,من أؤلئك الذين خلفهم عند أبي العشائر ,فما كان له الا أن يطلق صرخته المدوية :
وا حرَ قلبـــاه ممن قلبه شبم ومن بجسمي وحالي عنده سقمُ
ما لي أكتم حبَا قد برى جسدي وتدعي حبَ سيف الدولة الاممُ
لا أريد أن أسرد لك مسيرة حياة المتنبي ,وأنما أسلط الضوء على بعض مشاعر غربته, وشجون لوعته ,يترك الشاعر الكبير بلاد الشام ,وبلاط سيف الدولة الحمداني مكرها أيضا ,بسبب النفاق ,وكيد الكائدين ,وحسد الحاسدين ,حيث قضى حياته بين مد وجزر ,فتوجه نحو كافور الاخشيدي لغاية لم تتحقق ,برغم الوعود ,ويرمى أخيرا في طي النسيان ,ويجزى على الاخلاص بالجحود , وتتوارد الأخبار اليه أن قوما نعوه في حضرة سيف الدولة بحلب ,فيسكب كل مواويل الغربة بقصيدته الرائعة :
بم التعلل لا أهــــل ولا وطـنُ ولا نديم ولا كـــأس ولا سكنُ
أريد من زمـــني ذا أن يبلغني ما ليس يبلغه من نفسه الزمنُ
يا من نعيت على بعدٍ بمجلسه كلٌّ بما زعم الناعـــون مـرتهنُ
رأيتكم لا يصون العرض جاركم ولا يدرُ على مرعاكم اللـــــــبن
جزاء كلِِِِِ قريـــب منكــــــــم ملل وحظ كل محب منكم ضغن
وتغضبون على من نال رفدكم حتى يعقابه التنغيص والمنن
فغادر الهجر ما بيني وبينكم يهماء تكذب فيها العين والاذن
إني أصاحب حلمي وهو بي كرم ولا أصاحب حلمي وهو بي جبن
ولا أقيم على مال أذل بــــــه و ألذ بما عرضي بــــــــــه درن
سهرت بعد رحيلي وحشة لكــم ثم استمر مريري وارعوى الوسن
وإن بليت بود مثـــــل ودكـــــم فأنني بفـــــــــراق مثلـــــــــــه قمن
صب المتنبي كل مواويل غربته في هذه القصيدة المعلقة , بل قل أشجانه وأشجان كل من لا يستطيع أن يعبر عن ذاته في لحظات الغربة المميتة ,والحنين المكبوت , إنها آهات نفس مكلوم ٍ موجع , ونواصل مسيرة الحنين لغريب لديار ,وبعد رحلة العذاب الى مصر ,وخيبة أمله , وانقطاع رجائه , يستستلم المتنبي للقدر , ويعترف ان الظروف أقوى من الانسان ,والانسان بمفرده ضعيف لاحول له ولا قوة ,والأحبة دونهم البيداء , فالحياة أصبحت عنده بلا طعم ولا ذوق :
لم يترك الدهر من قلبي ولا كبدي شيئا تتيمه عينٌ ولا جيدُ
أما الأحبة , فالبيداء دونـــــــــــهم ياليت دونك بيد دونها بيدُ
أصخرة أنا مالي لا تحركني هذي المدام ولا هذي الأغاريدُ
اذا أردت كميت اللون صافية وجدتها وحبيب النفس مفقودُ
تخنقه الكآبة ,ويعصر قلبه الأسى ,وتضنيه الغربة ,وتبخرت كل أمانيه ,وما من حيلة الا ان يحث الخطى ,تاركا وراءه أرض النيل الى أرض الفرات ,فالكوفة الحمراء ,مسقط رأسه , ومكان نشأته الاولى ,فواصل الخطوات متلهفا للعودة الى الوطن ,ليسترجع قواه المعنوية والنفسية ,ويلملم جراحه ,يتفس الصعداء ,وينظم قصيدته الرائعة المقصورة ,يذكر فيها معظم الأمكنة التي مر بها ,كأنما يعدها عدا مستعجلا الوصول !!:
ألا كل ماشية الخيزلى فدى كل ماشية الهيذبى
وقلت لها أين أرض العراق فقالت ونحن بتربان ها
وهبت بجسمي هبوب الدبو ر مستقبلات مهب الصبا
لتعلم مصر ومن بالعراق ومن بالعواصم أني الفتى
وأني وفيت وأني أبيت وأني عتوت على من عتا
ولا كل من قال قولا وفى ولا كل من سيم خسفا أبى
وصل المتنبي الى الكوفة بعد جهد جهيد ,ومكث فيها سنتين ,وغادرها الى بلاد فارس ليمدح عضد الدولة البويهي ,وما أن مدحه ,وأراد الرجوع الى مسقط رأسه ,قتله فاتك الأسدي ,خال ضبة ,الذي هجاه المتنبي ,وذلك قرب النعمانية سنة 354 هج\965 م ,مات الرجل ,وبقى شعره وذكره , نعم بقى المتنبي مالىء الدنيا ,وشاغل الناس على حد تعبير ابن رشيق القيرواني.
لا أريد أن أكرر نفسي مع ابي العلاء المعري ,وحنينه الى معرته أبان رحلته الى بغداد ما بين سنتي (398-400 هج ),لأنني ذكرت ذلك عند مقارنة معرته مع جيكور السياب في مقالاتي المتسلسلة عن الأخير, وللسبب نفسه -ومن باب أولى - أعكف عن حنين السياب ,ولكن من المهم أن نعرج على الجواهري ( 1899-1997 ), و(دجلة خيره ) ,عندما هزه الشوق,ودفعه الحنين - أعوام غربته البراغية - ليغرف من ذكريات أيامه الخوالي عن بساتين بغداد ,وضفاف دجلة , والقوارب الشراعية , والسهرات النؤاسية , والليالي الهارونية ,وأعياد الشعانين ,وقرى الدهاقين ,القصيدة من روائعه ,بعذوبة إنسيابها, وجزالة لفظها ,وحسن معانيها ,وصدق تعبيرها ,لك مطلعهاوبداياتها :
حييت سفحك من بـــــــــــــــعد فحييني يا دجلة الخير , يا أم البساتينِ ِ
حييت سفحــــــــــــك ظمآنا ألوذ به لوذ الحمائم بين الماء والطين ِ
يا دجلة الخير ,يا نبعــــــــــــا أفارقه على الكراهة بين الحين والحين
إني وردت عــــــــــيون الماء صافية نبعا فنبعا , فما كانت لترويني
وأنت يا قاربا تلوي الريـــــــــــاح به لي النسائم أطراف الأفانين
وددت ذاك الشراع الرخص لو كفني يحاك منه , غداة البين يطويني
يا دجلة الخير : قد هانت مطامحنا حتى لأدنى طماح غير مضمون
أتضمنين مقيلا لي سواسيـــــة بين الحشائش , أو بين الرياحين
خلوا من الهم إلا هم خــــــــــــافقة بين الجوانــــــــح أعنيها وتعنيني
يعزّ عليّ - من باب الحنين - أن أودعك ولا أذكر النجف الشريف ,أو(ظهر الكوفة ), كما كان عليه يطلقون ,هذا البلد الذي أنجب المتنبي ,وذكر بسيطته وثويته في شعره ,ومن بعد ألف من الأعوام يلد الجواهري ,وهما ممن مررنا على حنين شعرهما في هذه الاطلالة السريعة ,والآن أضعك أمام شاعر معروف من السادة الأجلاء ,ولد في قرية ( المؤمنين )التابعة لقضاء سوق الشيوخ سنة 1927,كما يذكر هو في ديوانه (الديوان ),ولي رأي أخر حول تاريخ الميلاد ,حسب تحقيقاتي الخاصة ,أعرض عن ذكرها في الوقت الحاضر ,بالرغم من تدويني عام ولادة الجواهري بشكلها الأصح في هذا المقال ,جاء السيد الى النجف الأشرف وعمره أحدعشر عاما ,وخرج منها وسنه ثلاث وخمسون سنة (1938- 1979) ,نشأ ,وترعرع ,ودرس,ودرّس ,واجتهد ,و برز ,وأشتهر فيها , على أغلب الظن أنك عرفت المقصود السيد مصطفى جمال الدين ,وأنا أريد أن أعرج على مقطع من رائعته (من أمس الأمة الى غدها ),التي ألقاها في مؤتمر إسلامي عقد في مدينة ( ديترويت ) في الولايات المتحدة الامريكية ,بمناسبة مرور أربعة عشر قرنا على وفاة الرسول الأعظم (29-12- 1991 ),والمقطع المعني يتذكر فيه النجف ,ويحن الى أيام طفولته وشبابه وكهولته ,إليك بلا إطالة ما يقول :
يا رملة النجف الشريف تذكري ظمأ العيون ,ففي يديك المورد
حنّت ,فكـــــــــــــان لها بذكرك مسرح وشكت ,فكـــان لها برملك إثمد
أشرقت بي نورا ,وغرسي نــــــــــاعم وزهوت بي ثمرا , وعودي أغيد
ووقيتني غرر الشبــــــــــاب فما التوت قدم ,ولا أمتدت لنـــــــــــاقصة يد
وعبرت بي نهر الكهولــــــــة لم يضق ذرعا بصاريتي الشراع المـــجهد
حتى اذا (الستون ) أثقل جذعهــــــــــا ثلج الشتاء , وباخ ذاك المــــــوقد
ألفيتني وملاب رملك في مــــــــــــدى عينيّ من زهر الكواكــــــــب أبعد
ووجدتني أنأى , وأحمل في دمــــــــي من ذكرياتك ما به أتجلــــــــــد
مررت بك على الحنين , و أحسبك قد حننت الى الماضي ,ولا أعرف انسانا الا ويروم أن يرجع به الزمن القهقرى,فالماضي هو العودة الى نقطة بداية الحياة , والقادم هو الأقتراب من حدود الموت ,والانسان مجبول على حب الحياة ,ولكن العودة هيهات ,فالمعري يقول :
أمس الذي مرّ على قربه يعجز أهل الأرض عن ردّه ِ
والمعري وحده الذي كان يرى :
تعبٌ كلّها الحياة فما أعـــــــــــــــجب الا من راغب ٍ في ازدياد ِ
ولا أراه كان يعني ما يقول , كان المعري عاشقا للحياة , وللخلود, وإن بدا للناظرين , إنه من العاكفين ,رحم الله أبا العلاء ,والناس أجمعين ,آمين !