جهـــاز الإدعــاء العــام بيــن الــواقــع والاطــار القانوني- القاضي ناصرعمران الموسوي
Tue, 22 May 2012 الساعة : 11:58

جاء في الاسباب الموجبة للقانون رقم(10) لسنة 2006 والمتضمن منح اعضاء الادعاء العام الصفة القضائية ما نصه : (بغية اعطاء اعضاء الادعاء العام دورهم القانوني ومساواتهم في العمل مع القضاة ولبناء دولة القانون في ظل الدستور الدائم وقانون التنظيم القضائي رقم 160 لسنة 1979، والذي نص على التماثل والمساواة بين القاضي وعضو الادعاء العام وحيث ان الكفاءة متوفرة في كل منهما للقيام بمهام الاخر,ولغرض اشغال اعضاء الادعاء العام المستمرين في الخدمة المناصب القضائية المنصوص عليها في قانون التنظيم القضائي حيث يتمتعون بالكفاءة العلمية والقانونية ,ولغرض ان يكون كل منهما مهيئا لتولي أي من المهمتين حسب الحاجة وهذا ما معمول به في كثير من الدول العربية ولغرض تحقيق ذلك ,شرع هذا القانون ) ,ولدى منا قشتن لواقع العمل القضائي بالشكل العملي الذي يخرج عن التنظير القانوني ,واستنادا الى الاسباب الموجبة لصدور هذا القانون ,فإننا وبعد سنوات من الدخول العملي للتعديل القانوني لقانون الادعاء العام رقم 159 لسنة 1979 ,لم نلمس تغييراً حقيقياً,في طبيعة عمل الادعاء العام ,وبخاصة اننا في بلد يعيش مرحلة تغيير قانوني واجتماعي واقتصادي وثقافي جديد ,وهذا يستلزم ان يكون ممثل (الهيئة الاجتماعية ) بمستوى التحولات ,ومنح الادعاء العام الصفة القضائية ,منحه دوراً فعالاً من الضروري ممارسته ,ولو اطلعنا على دور الادعاء العام في ظل قانون الادعاء العام النافذ نجده من الجانب التنظيري القانوني دوراً فعالاً ومهماً كأهداف ,لكن على ارض الواقع والتطبيق العملي هو دور خجول ونستطيع تلمسه في كثير من المواقع ابتداء من التحقيق الذي يجعله قانون اصول المحاكمات الجزائية يقف في نهاية الطابور لإقامة الدعوى الجزائية وتحريكها ودوره في العملية التحقيقية دور المشرف والمقدم لطلبات الدعوى واعتقد ان هذا الدور لا ينسجم مع الصفة القضائية التي تستدعي ان يكون القاضي في مستوى القرار ,لا ان يكون متذبذبا بين دور المشتكي والمدعي حينا ودور المحامي حينا اخر وهو بين الاثنين في موقف الخجول ,ودعونا نبتدئ من قانون الادعاء العام وقانون اصول المحاكمات الجزائية ,فالمادة (1)من قانون الاصول االمحاكمات الجزائية رقم(23 لسنة 1971 تنص في فقرتها (أ)على تحريك الدعوى الجزائية والتي تكون على شكل شكوى شفوية وتحريرية تقدم الى(قاضي التحقيق ,المحقق ,أي مسؤول في مركز الشرطة ,او أي عضو من اعضاء الضبط القضائي ) وتقدم من (المتضررمن الجريمة او من يقوم مقامه قانوناً,شخص علم بوقوعها ,اخبار يقدم الى أي منهم من الادعاء العام مالم ينص القانون على خلاف ذلك ) وبذات الرؤية اشارت المادة(2) من قانون الادعاء العام حيث نصت (للادعاء العام بالإضافة الى الجهات الاخرى التي يعينها القانون:
اولا:اقامة الدعوى بالحق العام ,ما لم يتطلب تحريكها شكوى او اذنا من مرجع مختص .
ثانيا:مراقبة التحريات عن الجرائم وجمع الادلة التي تلزم للتحقيق فيها .واتخاذ كل ما من شانه التوصل الى كشف معالم الجريمة .
وبالمتابعة مع قانون الادعاء العام نجد المادة (3) تنص على مايلي :
(يمارس عضو الادعاء العام صلاحية قاضي تحقيق _في مكان الحادث_عند غيابه وتزول تلك الصلاحية عنه عند حضور قاضي التحقيق المختص ما لم يطلب منه مواصلة التحقيق كلا او بعضا فيما تولى القيام به .
ان نظرة متفحصة في طريقة واختصاص الجهة التي تحرك الشكوى او التي تقدم لها الشكوى ,يؤكد لنا الدور الخجول للادعاء العام وهو الذي ينص قانونه على ضخامة كبيرة في الاهداف المبتغى تحقيقها لعل اولها :حماية نظام الدولة وليس آخرها باقتراحات تشريعية ومراجعة قوانين وحماية اسرة.
ان كل تحقيق هذه الاهداف يتضاءل امام الاختصاص الممنوح له في تحريك وإقامة الدعوى العامة التي تشكل خطرا مهما على امن وسلامة المجتمع ’ان فلسفة الشكوى ملك المجنى عليه والمدعي هي فكرة تضاءلت امام التطور القانوني والقضائي ,ثم ان كل ذلك لا ينسجم مع التعديل الاخير الذي مُنح فيه عضو الادعاء العام صفة قضائية واعتقد ان الصفة القضائية هي سلطة وليست درجة وظيفية ,فحين يتصرف الادعاء العام في الدعوى التي تقع امامه مثلا ،هو يتصرف بالصلاحيات التي يمتلكها كقاضي ,وما دام عضو الادعاء العام بعد منحه للصفة القضائية صار يخضع لقانونين هما التنظيم القضائي من جانب كونه قاضيا وقانون الادعاء العام كونه يمارس اختصاص عضو ادعاء عام . ان هذا الامر يستدعي ان تكون للادعاء العام اليد الطولى في تحريك الدعوى والتحقيق فيها ,مثلما هو معمول به في البلدان العربية وبخاصة مصر,حيث تكون النيابة العامة المصرية من ضمن السلطة القضائية وهي وليس سواها من يقوم بالعملية التحقيقية حتى احالة المتهم الى المحاكم المختصة بعدها يمارس دوره الاتهامي اما م المحكمة.
يمكننا على ضوء ذلك ,ومن باب التحريك القضائي واستناداً الى الاسباب الموجبة للتعديل التي تؤكد اقتراب نظامنا القضائي مع قريناته من الدول العربية ,فان اصدار تشريع يتضمن منح النيابة العامة اليد الطولى في العملية التحقيقية امر بات مهماً جدا ً وضرورياً وهذا يحقق عدة امور:
اولا: السيطرة الكاملة للجهاز القضائي على الاجراءات التحقيقية بالكامل ,منذ لحظة وقوع الجريمة وحتى اتخاذ قرار فاصل في ايلولتها ,اما بالإفراج او الاحالة ,وذلك يستدعي ايضا اعادة النظر,في القوانين الجزائية وبخاصة قانون اصول المحاكما ت الجزائية ,وقانون العقوبات ,فكما هو معلوم ان الثقافات في البلدان المستقرة تتغير كل خمس سنوات ,فما بالك ببلد مثل العراق ,يتغير بشكل جذري لمرات متعددة بحسب ما طرأ على مجتمعه من تغييرات اقتصادية واجتماعية وسياسية ,وهذا يعني ان يكون الجانب القانوني على مستوى حالة التغيير.
ثانيا:-منح الاجهزة التنفيذية دورها الحقيقي التنفيذي وبخاصة (جهاز الشرطة ) الذي له دور كبير في العملية التحقيقية ,ووجود قرارات التحقيق ضمن الاطار المكتبي لا يسهم البتة في تحقيق الامن المجتمعي ,هناك رؤية في ان يكون الجانب القضائي وبخاصة الجزائي على تماس مهم مع الحدث , صحيح ان قانون اصول المحاكمات الجزائية اصلا ًيعطي قاضي التحقيق ويلزمه الحضور في مسرح الجريمة او الحادث اوجوزا ً منح غيره بذلك كالمحقق او ضابط التحقيق الا ان الجانب العملي يؤكد ان الاصل صار استثناء وصار ضابط التحقيق في كثير من المناطق هو من يقوم بكل ذلك ,والذي يصل الى القاضي هو عمل ضابط التحقيق والمحقق ,اللذين نرى بأنهما يجب ان يكونا عونا لقاضي التحقيق وليس العكس كما ان الحدث والجريمة ,تكون لحظاتها الاولى اهم مرحلة من مراحل التحقيق ,وهناك قول معروف لأحد الفقهاء الالمان المختصين في التحقيق يقول فيه (ان الدقائق التي تمر هي الحقيقة الي تفر ) فالأمور الاجرائية التحقيقية التي تستند في زمنها الى اوقات قريبة من الحدث او الجريمة كما هو معروف معول عليها كثيرا كونها الاقرب الى الواقعه , ونرى بان منح الادعاء العام الصفة القضائية تجعله في شراكه دائمة مع قاضي التحقيق تستدعي اعادة النظر بتوزيع الاختصاصات .وإيجاد تشريع يعالج ذلك .
ثالثا : ان التغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي للمجتمع العراقي ,والتحول نحو اقتصاد السوق وأنظمة الخصخصة ,وهو امر يستدعي ما يقابله من تغيير قانوني وقضائي ,فغياب الفلسفة الاشتراكية لمصلحة التغييرات الجديدة ,يعطي – مستقبلا- تأشيرا مهما لمعالجة ما يستجد من جرائم ترافق هذا التحول وقد ظهرت في الوقت الحاضر جرائم يراد وضع تشريعات عقابية لها كجرائم اجهزة الاتصالات النقال وجرائم الانترنت ,ومثل هكذا تغيير يستدعي ان نستفيد من تجربة البلدان الاخرى والقوانين الدولية ,والتي تعتمد معظمها على نظام النيابة العامة .علما ان هناك بلداناً تجعل من النيابة العامة هيئة مستقلة لها اقسامها مثل دولة قطر .
اننا نرى وبعد التعديل الاخير لقانون الادعاء العام ,واعتبار اعضاء الادعاء العام قضاة ,بان ذلك لا يحقق الاسباب الموجبة التي من خلالها صادق مجلس النواب على التعديل وان ثمة ما يستدعي الوقوف بتمحيص دقيق لتحريك عمل هذا الجهاز وإعطائه الفاعلية التي تنسجم ودوره القضائي ,القضاء لدينا يعتمد نظام الاتهام التلقائي في الدعاوى الجزائية ,فوجود جريمة يعني اتخاذ اجراءات قانونية في فك طلاسم الواقعة الجرمية سعيا للوصول الى الحقيقة .
وقد يكون هناك مشتكي او لا يكون ,وفي كلا الحالتين يستدعي الامر اجراء تحقيق ,واذا ما صادف وجود قاضي حتى ولو لم يكن قاضي تحقيق ,في موقع الحدث فانه يكون ملزما بإجراء التحقيق في الجريمة لحين تسليمها الى القاضي المختص وفي ممارسته عمله كقاضي يمارس جميع الصلاحيات المخولة له كا صدار اوامر القبض والتحري والتوقيف والتفتيش واجراء الكشف والاستماع الى شهادة الشهود وافادة المتهم والمشتكي ,ومثل هذا الامر اشار اليه قانون اصول المحاكمات الجزائية في الفقرة(ج) من المادة (51) وبذات الصلاحيات منح قانون الادعاء العام اعضاء الادعاء العام صلاحية ممارسة سلطات قاضي التحقيق في المادة(3) منه وعلى ضوء التعديل فان اعضاء الادعاء العام يتمتعون بالصلاحيات ,واذا كانت لهم هذه الصلاحيات فمن الاولى تحريك التحقيق بزج النيابة العامة وإعطائها صلاحية تحريك الدعوى الجزائية والتحقيق فيها ,او على الاقل العمل في التعليمات رقم (2) لسنة 2002 والتي نظمت اعمال الادعاء العام امام محكمة التحقيق ,وأخيرا نرى ونعتقد بان اساتذتنا وهم يعملون جاهدين على الارتقاء بالعمل القضائي ,الذي يشكل الان وطبقا للدستور احدى السلطات المهمة التي يعول عليها شعبنا العراقي الكثير في ارساء دولة القانون والمؤسسات التي ينظمها القانون ويحكمها القضاء بأنهم ينظرون مثل ما ننظر الى اهمية اصدار قانون جديد للادعاء العام وإلغاء هذا القانون بالشكل الذي يعطي لهذا الجهاز دوره الحيوي على الصعيد الجزائي واقترح اصدار قانون النيابة العامة .
كما هو معمول به في بعض البلدان العربية وخاصة مصر وبلدان العالم الاخرى والاهتمام بجهاز الادعاء العام عن طريق دعم استقلاليته وتخصيص ميزانية مستقلة له وتحقيق اهدافه عبر وجود الية مهمة في عمله تحقق حماية جهاز الادعاء العام للنظام الديمقراطي وحماية المال العام والغاء الهيئات التي تجرد الادعاء العام من اختصاصه كهيئة النزاهة وربط الهيئات ذات الاختصاص المتعلق ببناء الدولة بالادعاء العام كونه من ناحية يمتلك الصفة القضائية ومن ناحية اخرى ممثل عن الهيئة الاجتماعية والتي يسعى لتحقيق امنها وحماية نظامها الديمقراطي كما يستدعي ذلك العمل على وجود الية علائقية بين الادعاء العام ومجلس النواب وبخاصة في تشريع القوانين ذات الصفة الجزائية وابداء رأي الادعاء العام فيها.
ان فاعلية جهاز الادعاء العام سينعكس بشكل كبير وايجابي على تحقيق منظومة رادعة ضد ظاهرة الجريمة عبر رصدها وايجاد التشريع العقابي لها وبخاصة ظاهرة الفساد الاداري والمالي وجرائم الارهاب ،الامـر الذي ينعكس ايجابا على الواقع الامني والمجتمعي .