أنا وراديو اليابان الدولي – ج 14-سليم السراي

Wed, 16 May 2012 الساعة : 19:14

دعينا نصبح أسرة
ارجو أن تظلي محبة لي حتى بعد مائة سنة
حدث أن أحرجتك أمام الناس
وحتى عندئذ كنت تضحكين بجواري
شكرا على أختيارك لي
مهما كان عمق ثقتنا ببعضنا

ربما سيحدث أحيانا ألا نفهم بعضنا

ولكن , أن يعيش المرء متقبلا تلك الوحدة

ربما هو نفسه أن يحب

يوما ما , بظهر كبير كظهر أبي

يوما ما , بحنان هادئ كحنان أمي

دعينا نصبح أسرة

تتغلب على كل المحن

" كلمات ماسوهارو فوكوياما "

بعد زيارتنا لمحطة موجي للقطارات , توجهت مع الاستاذ عادل الدسوقي وبصحبة الأستاذة ماريكو اينو , لم اعرف حينها الجهة التي نبحث عنها , فقد تقدمت علينا كثيرا , ولعنا خشينا أن تتيه منا , لكن الأستاذ عادل الدسوقي كان شاطرا في تتبعها ومعرفتها من بين ذلك الزحام .

وأخيرا ....

وجدناها وهي بصحبة صديقتها الأستاذة سايكو موراياما , وكم لي أن أصف تلك السعادة التي غمرتني بها , فالأستاذة موراياما تتحدث العربية , وحدث إن الأستاذتين اليابانيتين قد درستا اللغة العربية معا في سوريا , فأزداد الوقت سعادة ومتعتا .

حدثتني الأستاذة موراياما عن نفسها وهي تقول إنها تحضر لنيل شهادة الدكتوراه , وكان موضوع رسالتها حول الأيام الأخيرة للعصر العباسي وبداية العصر المغولي , ومن أجل دراسة تلك الحقبة الزمنية فإنها جلبت معها كتبا تاريخية وبزنة 300 كيلو غرام من سوريا .

زرنا جميعا بيت قديم مبني من الخشب , وهناك دمية على شكل إنسان وهو يدفع بعربة صغيرة , ولعل تلك الدمية تمثل بائع متجول أو متسول ولكنه بملابس جديدة غير باليه , وذكرت الأستاذة ماريكو إن العالم المشهور إنيشتاين قد زار هذه المنطقة , حيث سكن في هذا البيت لمدة من الزمن , وأضافت إن المنطقة ضربها الزلزال سابقا ودمرت جميع البيوت التي كان أساس البناء فيها هي الخشب , لذا تحول البناء من مادة الخشب إلى الاسمنت المقاوم .

وقفنا على بوابة جسر كمبو , حيث هناك منصة استراحة , وكان مشهدا رائعا , لوجود الأشجار الملونة الضاربة قاماتها مع امتداد الميناء , فمنها يحمل اللون البرتقالي والأحمر والأصفر والأخضر , فيما أصوت النوارس أخذت تكسر جدار الصمت , وأخذت الرياح المحملة بالرطوبة تهب هونا ؛ وكأن التعب أعياها وهي تهب على حياء , فالشعب الياباني غالبها فغلبها ووصل الى نقطة لم تدركها الشعوب الأخرى , وظللت حيرانا في تلك اللحظات , وأسأل تلك الرياح بصمت إن كانت مرت على ثرى الوطن المباح .

تبلغ سرعة المياه في مضيق البوسفور الياباني وكما يطلق عليه حوالي 8 كم في الساعة , وقد وضعت علامات ضوئية تحذير للسفن , وأيضا هناك أجهزة مقياس لارتفاع المياه وسرعتها وكذلك بعضها يشير الى وجود الصخور .

توجد لوحة كبير رسمت على حافة جبل يقابل أمتداد الجسر , وتروي هذه الجدارية التي رسمت بالألوان الجميلة قصة قديمة حدثت بين عائلتين عريقتين , وقد نشبت الحرب بينهما , وقد حدثتني الاستاذة ماريكو اينو عن ذلك بقولها ( ان الاسرتين احتكما إلى الحرب بينهما , لذا دارت الحرب بينهما , وكانت لأحداهما 700 سفينه والاخرى 500 سفينة , وكانت نتيجة الحرب هو القضاء على احد العائلتين وهروبها من ديارها .

إذن هي مرة أخرى اسمع أخبار حرب , التي لطالما فارقت الرقة , وألفت طباع السباع الضواري , ففي ذلك الوقت كانت الحرب لا تسمح لنفسها ان تسعفها روح التخلق والتحلي بالصبر والرأفة تجاه ذلك الطفل والمرأة أو الشيخ , الذين يقتلون جميعا بدم بارد , تحت سيف الثأر والعداوة .

هل ذلك هو الحق الذي تمثله الحياة ؟

فهل نفدت كل الدوافع التي تحمل الانسان للجنوح للسلم , حتى يقرر تسليم نفسه للموت , ويعرض الاخرين الى الهلاك والزوال , يهيئ هذا وذلك كفتان من الدم , ولا عبرة هنا ان كانت رجحت احداهما على الاخرى , فكل واحدة تلهث وراء رائحة دم الغريم , تدفعهم عوالم الغدر والشر , وتسقط عن النفوس البصيرة واللين , فلا أحد يعنيه عاقبة الامور , كأنهم أطمئنوا الى الغلبة ان تكون لصالحهما معا , فالسلاح مصقول مسلول يقابل سلاحا حاضرا وشاهرا جسده , قد نزع من غمده وبقي عريانا يعشق ان يفض جلد إنسان , ويأخذ حماما من الدم , فلا يرجع الى بيته في غمرة الحرب وقعقعة أدواتها , والانسان فيها قد شرد منه الفكر وملازمة الرأي , يملأه غرور في نفسه ان يقابل الفا أو يزيد كأنه في صومعة راهب غارقا في قداسه , لكنه يعيش في زيف , وهو يهز قائمه في يده , حيث أمتلأت النفوس بنظرة ضاقت قوة وعدد الغريم , قد علقوا روح القتل فوق هاماتهم , يكادون يقتلون كل ما يمر بطريقهم , ولعل وحشيتهم تصل بهم جميعا الى قتل كل شجر وحجر يمرون عليه , وبأقبالهم للحرب يحسنون كل أنتباه , فمن غير الصحيح ان يتسرب العجز والهوان الى احد الفريقين , إنهم يقتاتون من وعاء النار التي تسعر في عقول قلوبهم , ليتذوقوا بعد حين من مائدة جراحات وقتلى وسبي الغريم , على أبخس نصر تهدأ الحرب فيه وترقد النفس لعلها الى نوم .

انتقلنا من ذلك المكان الذي يحكي قصة الحرب , لنعود الى المدينة التي يقع ميدانها على ساحل البحر , واستأجرنا زورقا يتسع لعدة اشخاص , لنخوض فيه غمار فوهة المضيق , وجالت في نفسي ذكريات البسفور التركي , فكانت ذكريات تمر على مذاقي مثل الحنظل , وشاءت الصدف ان يكون وقت النزول الى البحر عصرا كما كان النزول الى البسفور , فلم تقف حركة الزورق لحظة , وهو يجري في هبوب المياه المتدفقة , والنفس تتوتر لشدة عصف البحر تارة , الذي يأخذ زورقنا بأمواجه عرضا بأتساع وامتداد , ليرمينا كالشلال , ليطمر امواجه , فيما يطمر القلب تعاسته من ركام وحطام الايام التي ترعرع فيها .

انتقلنا مع الى احد النوادي لتناول المرطبات ( الايس كريم ) , وكان هناك حديثا باللغة اليابانية يترعرع بين الاستاذتين اليابانيتين , ولعل النظرات التي ترمقني واكون في منتصفها , فهي من المؤكد اني محورها , ولحظة اخرجت الاستاذة ماريكو اينو من حقيبتها ورقة وناولتها الى صديقتها , ومن الطبيعي جدا تعرفت على تلك الورقة بسرعه , فهي رسالة كتبتها بخط اليد الى عائلة ( شوسيه كودا ) .

وراحت الاستاذة سايكو يتحرك هدوئها بين سطورها , فتقتحمها وتتقرب اليها وتتعرف الى أشتاتها , حتى جمدت حركتها , وأتت على آخر حرف منها , فطوت تلك الصفحة , وأخذت تنفض الحياة , والتأثر الطبيعي أخذ منها مأخذا كبيرا , وأنفجرت باكية في موعد غير محدد , وبسطت لها مشاعري , وقلت لها :

- من غير المستحسن ان اراك في هذه الصورة .

فلم أعلم سببا لهذا البكاء العفوي , الذي ذكرني ايضا ببكاء الاستاذة نوراي في تركيا , فالبكاء هنا ليس فعل عشوائي قد صدر من غير بواعث محددة , وكذلك ليست ارادة معبرة ارادت صاحبتها أن تكون فكانت , بعد أن أكتمل نضجها , حتى أطلقت لها سراح أقفال المآقي من دون أدنى عائق وتكلف يتحكم فيها .

- استاذ سليم : هذه ليست دموع حزن وأسى , بل هي دموع فرح وسعادة , أن أجد في هذا العالم إنسان يفكر بالآخرين .

لم تنحرف بوصلة الاستاذة سايكو في مضمون جوابها بعيدا , فهو ذاته في وحيه وقدسه , الذي جاء على شكل صوت ترنيمة لا يدركها قصور في فهم , أو تخبط في تأويل , وكيفما كان التعليل والتبرير وانفراط قوامه , بعيدا عن التمزق أو الخرق لتنوع الثقافات , بل هي أخلاق انسان حقيقي متكامل نقي الدم في وحدانية الجنس والمشاعر , منسجم مع إنسانيته وفطرته التي أنشأه الله عليها الى جوار غريزته الاجتماعية , تدفعه تلك الغريزة ان يلتقي بمثيله أينما وجد وولد , ويدفعه القدر ان يلتقي ببني جنسه التوأم أينما حلت به القدم شرقا أو غربا , كأنه قانون ثابت وطبيعي , بالرغم من ظاهرة الضعف والتحلل التي راحت تعصف بمجتمعات اليوم , إنسياقا وراء الاهواء وظهور حالة من التمزق الانساني .

هذه هي نظرة الاستاذة سايكو , المرهفة الحس , ذات الحديث العذب , فيردد سليم حديثها ويعيده , وكأني أوطد علاقة الراهب مع ربه وهو يقيم شعائره في أبهى صورة أمام مجتمع يتمنى فيه ؛ ان يسوده العدل ويتحقق له الخير , وينتشر في ربوعه السعادة الروحية .

كانت لحظات اللقاء تتسارع , كأنها تحسب دقات الفؤاد في تسارع نبضه , غير خاضعة لحساب الزمن الذي يقاس بالساعة , فكان اللقاء أمرا أزليا وأمراً مقدراً , فالفضل الى القدر المحتوم , وليس للمال فضل في ذلك , وإنما كان صفقة إنسان مع الإنسانية , خضعت لسلطانها صاغرة كل القوانين .

شاركتنا الاستاذة سايكو موراياما العشاء في مطعم يدعى ( Briliansa ) وهو من المطاعم الفاخرة المفتوحة ( الدفع المسبق ) في المنطقة يقدم مأكولاته البحريه الشهية المتنوعه , ويمكن للزبون ان يأكل ما يريد , وفي الوقت ذاته توجد لوحة صغيرة كتب عليها باليابانية ( من لا يترك شيئا من الطعام في الإناء فإن له هديه خاصة

Share |