عدما تخطئ البوصلة -حسن علي خلف - / الناصرية
Sun, 13 May 2012 الساعة : 9:36

رواية بوصلة غضبان ابن شداد للكتب حسن عبد الرزاق – نموذجا :
ليس الكتابة كصيد الغزال الاكحل وحتما فانه ليس كل من اجرى اليراع بكاتب ... فالكتابة ( الادبية منها ) هي فيض من تراكم الخبرة وينبوع من تزاحم الحصيلة الثقافية ورافد من النبوغ الادبي ... وهي لا تتوفر للتو واللحظة في كل احد او اي احد ... حيث كما قيل :
لا يعرف الشوق الا من يكابده ولا الصبابة الا من يعانيا
والرواية او القصة على وجه التحديد هي نوع من المعاناة التي تؤرق الكاتب منذ اليوم الاول الذي يفكر في انشائها او بنائها او تركيبها . فالمعاناة تبدأ من الفكرة ... ومن ثم من الشخوص ابطال الرواية ... وتحديد البطل المحور ... يسبق ذلك العنوان او ما يقال له في عالم الادب العتبة التي ينبغي ان تكون ( وبالضرورة ) مفتاح الرواية ودلالتها وقصديتها واول اداة لفك شفراتها وبيان معانيها وعلم بيانها وعمق بلاغتها ... ثم ياتي البناء الدرامي والتركيب التصاعدي لاحداثها وبلوغ القصد والرموز الموغلة في الابهام او المفتوحة . اما البناء وما يترتب عليه من تعب وسهر وتمزيق اوراق وشطب واعادة كتابة وتسفيه فكرة وتصويب اخرى فان ذلك الجهد لعمرك هو كبير جدا ... حيث ( لا ينهض البازي الا بجناحيه ) . ولابد ان تقترن العتبة بدالتها على المعنى والابطال مجسدين له مع وضوح في الهدف التربوي والاجتماعي والاخلاقي . كون الرواية هي التي تسلط المزيد من الضوء على سلوك الانسان من حيث العواطف ونوازعه الاخرى ... وتكشف في اغلب الاحيان عن الدوافع المتصارعة والمتناقضة في اعماقه ... وهي من حيث التصنيف تعد من اكمل الفنون الادبية في قدرتها على التعبير عن الحياة في اتساعها وحركتها وتشابك علاقات البشر فيها ... وهي فوق هذا وذاك تعبير عن موقف الكاتب رغم محاولاته في كثير من الاحيان ( ان يحتجب ) وخاصة الكاتب الجيد الموصوف بحرفيته وقدرته العالية على الكتابة وباعه الطويل في الادب . ليترك للعمل الادبي حرية التعبير ... ولكنك ترى الاتجاه الفكري في عمل الكاتب الذي بين يديك يشي به من خلال العديد من المواقف في الرواية ... كون الكاتب هناك ثمة شيئا يريد ان يقولة ... وهذا الشيء هو احد الوشاة بشخصيته وايديولوجيته . ولكن نجاحاته تتوقف بان لا يتدخل كثيرا في احداث روايته ... وان لا يفرض معنى روايته فرضا على القارئ وجعل المعنى ينساب عبرنسيج الرواية كاملا ليصل الى امتاع القارئ بعيدا عن التقريرية المباشرة التي تجرد عمله الفني من ذاتيته الخاصة وجوانب الابداع فيه . والروائي حسن عبد الرزاق ذلك الاديب المبدع ذو الباع الطويل في ساحات الادب والمعرفة ... طرح تجارب عديدة في مجال الرواية .. ومساهمات خلاقة في البناء الدرامي .. الذي راح يتصاعد من رواية الى اخرى ( كوننا نتابع بعض اعماله ) فلقد لمسنا ذلك التصاعد بل والتطور والابداع ، الذي تجلى في اروع صوره في روايته الموسومة ( بوصلة غضبان ابن شداد ) التي على ما يبد كتبها بتاني وتؤودة تمكن من خلالها ان يلتقط نبض الشارع ويصوره دراميا على اكمل وجه وفي ابهى صورة اي كما قالوا :
قد يدرك المتاني بعض حاجته وقد يكون مع المستعجل الزللا
فقد جسد الكاتب جانب من احداث مرحلة مرت بالعراق تصارعت فيها قوى عديدة كانت من اكثر المراحل تركيبا ... حيث الجيش المهزوم من الكويت والمقاومة المضادة الخجولة من الحركة اسلامية والوقوف الاجنبي المتأرجح وعدم وضوح الرؤيا وطوفان الفوضى التي عصفت في البلاد حيث اهتزت معها مبادئ الكثيرين فاخطأت بوصلة العديدين ممن كانوا يبحرون بالعراق لتنجر سفنهم الى متاهات لا قرار لها ... بعيدا عن القيم والمبادئ والثوابت والمسلمات التي كانوا يبشرون بها ... فتمكن الروائي حسن عبد الرزاق ، وبالتفاتة فذة ان يصور بطل روايته متردد مدعي تتقاسمه افكار وهاجس ونوازع شتى .. هي عينها التي سيطرت على مجتمع العراق سواء ايام الحصار او ابان الفوضى وفي المراحل التي سبقتها ... التي قادت الى تلك الفوضى والى هذا الانفلات الخلقي بفعل الجوع والقهر والتعسف التي مارستها السلطة على شعبها بغية ان تستمر اطول فترة في دست الحكم . فكان الروائي متمكنا جدا عندما يصور بطله اثناء لجوئه الى المستشفى الذ يصفه في الصفحة السادسة من روايته ( المستشفى الفائح بروائح الاهات ....والمضاجعات الامنة وغير الامنة في الحمامات والمطبخ الرئيسي وغرف الخفارات ودورات المياه ومكتب المدير ) وهذه وابيك انعكاسات لسلوك افراد بنظام فقد شرعيته ووجوده واصبح حماته هم من يمارسون الفساد والافساد ، وفي لحظات نسوا انفسهم بانهم جزء من هذا الشعب ولكن التمايز ... بالرواتب والمخصصات جعل منهم بطانة للحاكم يعبدونه من دون الله . والشعب المسكين صابر محتسب لا حول له ولا طول ، الام تنتظر ولدها في جبهات الحروب بعد ان ياست من سلامته متى يعودون به اليها محمولا على نعش ، حيث يصور الروائي ذلك المشهد فيقول في الصفحة 20 من الرواية ( لترسلها الى جبهات الحروب فتعود الى اهلها بعد حين اما في التوابيت او على كراسي العوق او مصبوغة بشيب الاهوال ) هكذ هو الحال الذي تمكن معه الكاتب بعبقرية ان يؤرخ لمرحلة لايمكن ان تنساها ذاكرة العراقيين ... تلك المرحلة المرتبكة التي كل واحد يدعي بها احقيته على الاخر .. الثوار ... الدولة ... الاجنبي ... لذا ضاعت المعايير واهتزت القيم واختفت المثل وساد النهب كما يصوره الكاتب في الصفحة 12 من روايته بشكل رائع ( وعلى الفور انطلق الى الخارج ميمما عقله صوب المصرف الرئيسي الذي راى بعينيه فرار موظفيه وموظفاته الى الازقة المجاورة ) ليلتحق بعدها بطل الرواية مع اللذين يدخلون بيت الحاكم وبطونهم نصف جائعة .. وكانت المفاجئة عظيمة عندما وجدوا صناديق التبريد الكبيرة والمصممة خصيا لبيت الحاكم ... مليئة بما لذ وطاب من الاطعمة وبكل صنوفها والتي تكفي لحارة من حارات المدينة ولعدة ايام ... حيث يقول الكاتب او يقول بطله في صفحة 23 مخاطبا الحاكم : ( اللعنة عليك يا كلب يا مجرم كل هذا الطعام لديك ونحن محرومون من رغيف الخبز ) وهو تعبير عن حالة التمايز التي خلقها النظام السابق بين الناس وحرمان عامة الشعب ... والترف والبذخ للذين يرتبطون بحاكم الدولة ويؤلهونه . وهكذا تمكن الكاتب وبرؤيا ممتازة ان يسجل اتجاهات تلك البوصلة التي قاربت للتو واللحظة ان تسير الى نهاياتها بين العدم والهلاك او البقاء . .. ولكن استطاع ايضا ان يعد المتلقي ، ان البوصلة هذه المرة ان قادت ابن شداد الى شيء من الشواطئ القلقة ولكنها في نهاية المطاف ستؤدي به الى المهالك حالما تهب رياح الغرب العاصفة التي لا تبقي ولا تذر ... فكان الاستاذ حسن عبد الرزاق كدابه في روايته السابقة قد استخدم العقل بشكل مركز ... بحيث راح يتلمس العذر لبعض شخوصه ... ويجعل بعضهم يجلد ذاته بشكل خفيف تحت وطأة ذلك العذر المؤلم الذي اتاحه لهم الكاتب وقد قالوا ( اعقل الناس اعذرهم للناس ) ونحن نستعرض هذه الرواية للاديب المقتدر حسن عبد الرزاق نود ان يطلع عليه النقاد لتقييمها في ذاتها وبيان درجتها بالنسبة لسواها من الروايات . كونها عبرت عن حركة ادبية كاملة في مرحلة زمنية معينة في راينا ... بل وارخت لتلك المرحلة بشيء من التفصيل ، مكنت اي مؤرخ ان يستنطقها ويحاكم الاحداث التي وردت فيها من الجوانب السايكيولوجية ، ليكتب تاريخا صحيحا لمرحلة من اكثر مراحل العراق الما ... فالرواية وحدة فنية متكاملة تفاعلت مع الظرف التاريخي ونقلت نوازع النفس البشرية في ازمنة الارتباك