أسطورة قديمة تحول دون مستقبل جديد- علي الباب- الناصرية

Wed, 25 Apr 2012 الساعة : 18:02

*بول ووليفوتز: نائب وزير الدفاع الاميركي السابق وكان سفيرا لبلاده في اندونيسيا
‎لأول مرة خلال عشرين عام، رشحت المملكة العربية السعودية سفيراً لها لدى العراق، حيث لم يستجب السعوديون لسنوات طويلة لمطالب الإدارة الأمريكية باتخاذ هذه الخطوة، سيما وأن العلاقة الحالية بين هذين البلدين العربيين المهمين في منطقة الخليج ليست ودية. ولهذا يعد توقيت الخطوة مثيراً للفضول، وكما أن دافع السعودية من وراء ذلك ليس واضحاً. ولكن، إذا كانت السعودية مستعدة حقاً في المساعدة في رأب الصدع السني – الشيعي في العراق، والذي يتهمهم العراقيون في المساهمة فيه في الكثير من الأوقات، فإن هذا التطور لا يعود بالخير على العراق حسب بل على المنطقة برمتها.

‎الأمر الذي يجعل من المناسب القيام بمحاولة لتصحيح أسطورة راسخة لا تزال تلقي بظلالها السلبية على مواقف العراقيين تجاه المملكة العربية السعودية ومفادها أن السعوديين هم الذين أقنعوا الولايات المتحدة بعد حرب الخليج عام 1991، أي قبل عشرين سنة خلت، بالتخلي عن شيعة العراق وتركهم ليذبحوا بدبابات صدام حسين وطائراته العمودية. والحقيقة عكس ذلك، وهذا ما أستطيع إثباته.

‎فقد شكل سحق انتفاضة الشيعة في عام 1991 في أعقاب حرب الخليج الأول مباشرة مأساة لا تزال محفورة في ذاكرة شيعة العراق حتى يومنا هذا، ‎إلى درجة أن السفير الأمريكي في العراق، جيم جيفري، زار جنوب العراق مؤخراً للتعبير عن أسف الأمريكيين على ذلك. وكما قال ديك تشيني، نائب الرئيس الأمريكي السابق، "شعر الشيعة بأنهم تعرضوا للخيانة من قبل الولايات المتحدة بعد عاصفة الصحراء. ففي عام 1991، شجعناهم على الانتفاض على صدام، وعندما فعلوا ذلك، ذبح صدام الآلاف منهم، ولم نتحرك لمساعدتهم"، ولكن في الحقيقة السعودية غير مسؤولة عن تلك المأساة.

وبصفتي وكيلاً لوزير الدفاع لشؤون السياسات في عام 1991، مثلت وزير الدفاع في حينها ديك تشيني في أول زيارة لوزير الخارجية جيمس بيكر إلى منطقة الخليج بعد الحرب وبتاريخ 8 مارس 1991، التقى بيكر في الرياض مع نظيره السعودي ووزير الخارجية سعود الفيصل والأمير بندر بن سلطان السفير السعودي المتنفذ في الولايات المتحدة. وذكر المسؤولان السعوديان الكبيران أن صدام حسين يشبه "أفعى جريحة" ومن الخطورة بمكان تركه متولياً زمام السلطة. وقد ناشدا بيكر بمساندة الانتفاضة التي كانت قد انطلقت للتو في جنوب العراق. وأكدا "أننا لا نخشى شيعة العراق". لسببين أولهما،أن شيعة العراق عرب وليسوا فرساً، والسبب الآخر، أنهم قاتلوا بإخلاص دفاعاً عن العراق أثناء حرب السنوات الثمان العجاف مع إيران، ولا يمكن أن يتلقوا أوامرهم من طهران".

‎كيف لي أن أتأكد، بعد مرور كل هذه السنين، من أنني أتذكر هذا الحوار بدقة؟ فرغم كل شيء، يمكن للذاكرة أن تخدعنا، ولكنني لم أستطع أن أسقط ملاحظات المسؤولين السعوديين الكبيرين لأننا كنا نناقش في حينها انتفاضة الشيعة على متن الطائرة التي كانت تحمل جيمس بيكر، وقد أثرت المسألة أنا بنفسي وقلت أن شيعة العراق عرب وليسوا عجماً.
‎فضلاً عن ذلك، كان من المستحيل أن نغفل ملاحظاتهما الأخرى عن ولاء شيعة العراق أثناء الحرب العراقية الإيرانية لبلادهم، وهي مسألة لم يكن فيها مجال للجدل.

ربما يكونان قد أخفيا ما ينتابهما من قلق بشأن الشيعة ولكنهما كانا ينظران إلى صدام على أنه الخطر الأكبر ورحبا بانتفاضة الشيعة ضده.
‎ورغم أن مذكرات جيمس بيكر لا تشير صراحة إلى هذا الحديث، إلا أنه يلمّح إلى شيء مماثل، يكتب بيكر "أتذكر على نحو واضح الآراء التي تقدم بها العديد من كبار المسؤولين من شركائنا الآخرين في التحالف".

قال لي أحدهم "لا بد من أن نجد طريقة لمساعدة الشعب على مطاردة صدام. وقد حان الوقت لإثارة القلاقل. عليكم معاملة المعارضة العراقية مثل معاملتكم للمجاهدين في أفغانستان." يقول بيكر أن النقاش كان يدور حول اتخاذ إجراء خفي، الأمر الذي قد يفسر تكتمه على أسماء "كبار المسؤولين" المذكورين، ورغم أن بيكر يدافع عن امتناع الولايات المتحدة عن دعم الانتفاضة، إلا أن من الجدير بالذكر أنه لا يحمل في كتابه أن السعوديين كانوا مسؤولين عن ذلك القرار.

بيد أنه لم تكن هناك حاجة في ذلك الوقت لإجراء خفي. فبعد أن سيطرت الولايات المتحدة على الأجواء العراقية وعلى الضفة الجنوبية لنهر الفرات، كان بإمكان الولايات المتحدة إيقاف تحليق الطائرات العمودية العراقية المسلحة وتدمير طوابير الدبابات التي كانت تتحرك على امتداد الطريق الرئيسي. وقبل ذلك بأيام قليلة امتنعنا عن مهاجمة وحدات عراقية لا حول لها ولا قوة أثناء هروبها شمالاً من الكويت، وذلك لكي نتجنب وقوع ما يمكن تسميته "بطريق الموت السريع" ولكن، ومن خلال السماح لدبابات صدام وطائراته العمودية بالتقدم دون أي عرقلة لذبح الشيعة أصبحنا مسؤولين عن "طريق موت سريع" ثانٍ.
‎ربما كان هناك مسؤولون سعوديون أقل نفوذاً ممن عبّروا عن آرائهم للمسؤولين الأمريكيين ولكن يبدو أن السعودية دعمت فكرة تمرد شيعي مسلح لسنوات بعد الحرب. ففي خريف عام 2004، أخبرني الأمير بندر الذي كان أستمر في شغل منصب سفير بلاده في واشنطن، أن الملك فهد كان قد اقترح مثل هذه الاستراتيجية على الرئيس كلينتون عندما التقى الرجلان في حفر الباطن في السعودية في أواخر شهر أكتوبر من عام 1994. وقبل ذلك بأسابيع، أي في 7 أكتوبر، أرسل صدام مرة أخرى جيشه إلى الحدود مع الكويت، مهدداً بغزو جديد. وقامت الولايات المتحدة بنشر حوالي 30.000 جندي و 350 طائرة مما أجبر صدام على الانسحاب ولكن عملية نشر القوات كلّفت مئات الملايين من الدولارات. ولغرض وضع حد لقدرات صدام المستمرة على تهديد المنطقة، اقترح الملك أن يتعاون البلدان، ويقدمان المال بالتساوي لدعم انقلاب مسلح يطيح بصدام، شيء أشبه بالجهد المشترك الذي أدى إلى إخراج السوفييت من أفغانستان. وقد ذهل السعوديون وسرّوا عندما مد كلينتون يده مصافحاً الملك فهد، في إشارة على الموافقة على الفكرة.

ولكن، وبعد أن لاحظ الأمير بندر تردداً في واشنطن على متابعة الفكرة، توجه أخيراً إلى نائب مستشار الأمن القومي ساندي بيرجر الذي قال "ولكن يا بندر، ذلك يعني الحرب". وأخيراً، وافق بيرجر على العودة بخطة كما وعد. ونتيجة لذلك، وصل جون دويتش الذي كان مديراً لوكالة المخابرات المركزية في حينها، إلى السعودية. وعندما سئل عن المبلغ المطلوب من المال، أجاب دويتش "50 مليون دولار"، وحصل على المبلغ المطلوب في الصباح. وطبقاً للأمير بندر، علّق الملك على (المبلغ الصغير) بالقول مباشرة بعد ذلك "هؤلاء الأمريكيون غير جادون". وعلى الرغم من عدم توفر تأكيد مستقل لهذه القصة، إلا أن الأمير بندر سرد ذات الحكاية للصحفي باتريك تايلر بعد سنتين من ذلك، وأن الخطوط العامة تتوافق مع ما يعرف الآن لدى الجميع بالمحاولة الانقلابية الفاشلة على نحو مأساوي عام 1996 على صدام والتي أشرفت عليها وكالة المخابرات المركزية والمخابرات الأردنية. لكن الصورة التي كانت في ذهن الملك فهد وإشاراته إلى أفغانستان توحي بأنه لم يكن يفكر بمحاولة انقلابية بل بتمرد مسلح، شيء كان يمكن بالضرورة أن يتطلب تقديم دعم لشيعة العراق. ورغم هذه الحقائق، يستمر الزعم بأن الولايات المتحدة خذلت التمرد في العراق عام 1991 بسبب الضغط السعودي. كانت تلك أكذوبة كبرت بعد انتهاء العمليات القتالية الرئيسية مباشرة، عندما بدأت بالنظر إلى السماح بسحق الانتفاضات بطريقة وحشية على أنه خطأ استراتيجي وأخلاقي. لم يضع أي أحد اللوم على السعوديين في السجلات الرسمية، ولكن "مسؤولون في الإدارة" لم تذكر أسماؤهم، قالوا ذلك " خلف الكواليس" فقد ادعى أحدهم أن "الضغط الذي مارسه السعوديون كان شديداً على نحو واضح"، هذا ما ذكره مسؤولون فيالإدارة "فقد كان لجانب السعودي قلق جداً من قيام الأغلبية من الشيعة في العراق والذين يتركزون حوالي البصرة وعلى مقربة من الحدود السعودية، بالانفصال عن العراق وإقامة دولتهم الخاصة بهم". وإلى يومنا هذا، يشعر كل دبلوماسي أمريكي وعراقي كبير جداًبالدهشةعندما أخبرتهم أن السعودية كانت تحثنا بالفعل على دعم الشيعة.

‎إلا أن أسباب امتناع الولايات المتحدة عن دعم انتفاضات عام 1991 تبقى غير واضحة ولكن من الأكيد أن الموضوع لم تكن له علاقة بالضغوط السعودية. وقد نحتاج إلى مقال أطول بكثير لتحليل التفسيرات المتباينة التي قدمها مشاركون مختلفون في ذلك القرار. وبإيجاز، هناك ثلاثة أسباب شاع تقديمها كثيراً وهي:
‎القلق بشأن حالة "عدم الاستقرار الإقليمي"، والخوف من الانزلاق في "مستنقع" والقلق من إمكانية انهيار التحالف. وفي العام الماضي، وأثناء جلسة نقاش في مجلس العلاقات الخارجية، عقدت بمناسبة الذكرى العشرين لحرب الخليج، قدّم كل من برنت سكوكروفت المستشار السابق للأمن القومي وريتشارد هاس أحد كبار موظفي مجلس الأمن الوطني السابقين، قراءتهما لحالة القلق بشأن "الاستقرار الإقليمي".

ومن المثير للاهتمام، أن أياً منهما لم يدعي وضع المسؤولية على السعودية في فشل الولايات المتحدة في التحرك ولم يكن أي منهما، يختلف معي، في القول في تلك المناقشة، أن السعودية كانت تحثنا على دعم الانتفاضة.

أما مسألة احتمال انهيار التحالف في حالة قيام الولايات المتحدة بغزو العراق واحتلاله، فهذه حجة واهية لأن السعوديين كانوا يعملون من أجل أمر مختلف. القضية الحقيقية لم تكن مسألة احتلال بغداد أم لا ولكن كانت تتعلق بدعم انتفاضة الشيعة من الوضع العسكري القيادي الذي تبوأناه أصلاً، دون الحاجة إلى الدخول ميل إضافي واحد داخل الأراضي العراقية. والمحزن، يبدو أن هذه القضية لم تحظً أبداً بمستوى عالٍ من التداول. ورغم أن مستشار الأمن القومي السابق برنت سكوكروفت يعبّر عن نوع من الأسى بالسماح لصدام باستعمال طائرات عمودية مسلّحة لقمع المنتفضين، إلا أنه يقر أنه لم يتابع الموضوع أو يرفعه إلى الرئيس.

وبالنسبة لإدارة سجلت عملية صنع القرار فيها نجاحاً نموذجياً خلال الأشهر السبع التي سبقت ذلك، يعد ذلك الأمر فشلاً ذريعاً كانت له عواقبه الاستراتيجية. وبطبيعة الحال فإن التاريخ لا يكشف عن بدائله ولكني أؤمن بقوة أن التاريخ كان سيأخذ مساراً أفضل بكثير لو كان التمرد قد نجح. وبصراحة تلك مسألة مثيرة للجدل. أما الأمر الأكيد فهو أن السعوديين لم يكونوا مسؤولين عن تقصير الأمريكيين في التحرك. ومن المستحيل تحليل تبعات ذلك الفشل الأمريكي في التحرك ولكن مازال بالإمكان القول بأن السعوديين لا يتحملون وزر ‎قرار عارضوه وامتعض منه ملايين العراقيين الذين يسعى السعوديون إلى ترميم العلاقة معهم.

ولا تشكل أسطورة عام 1991 التي ما تزال قائمة إلا جزء من سجل العلاقات العراقية –السعودية وأن مسألة الخلاف السني – الشيعي هي القضية الحقيقية. ومنذ تحرير العراق عام 2003 ‎السعوديون اظهروا عدم رغبتهم في تاييد النظام العراقي الجديد، حتى ان العاهل السعودي الملك عبدالله امتنع عن دعوة غازي الياور، بصفته اول رئيس للحكومة العراقية الانتقالية (مع ان الياور سني ونصف سعودي كونه يحمل جوازا سعوديا). جاء هذا الامتناع عن الانخراط في الشؤون العراقية في وقت كان يمكن للدعم السعودي ان يساعد العراقيين في مواجهة دعم سوريا والإيرانيين للمتمردين، هذا عدا عن ان التجاهل السعودي اثار ريبة العراقيين.

وفي السنة الماضية، توترت العلاقات بين البلدين بسبب اختلاف موقفيهما تجاه الاحتجاجات في البحرين، الأمر الذي يعكس جزئياً خلافات طائفية. فضلاً عن ذلك، يتزايد تململ الطائفة الشيعية العربية في السعودية. ‎الحكومة العراقية، من جانبها، اختارت بكل أسى ان تمنح تأييدا صامتا لنظام الاسد في سوريا، نفس النظام الذي ايد الجماعات المسلحة في العراق - وهو، اي النظام السوري، سار على على نفس نهج صدام حسين الوحشي في ذبح مواطنيه. لذا، تحسن العلاقات السعودية العراقية يمكن لها ان (تكون ) أمرا إيجابيا للشعب السوري، والشعب العراقي أيضاً.
‎ولكن، إذا كانت تسمية سفير لأول مرة في عشرين عام تعد مؤشراً على أن السعودية مستعدة لفتح صفحة جديدة في علاقتها مع العراق، وربما حتى البدء بإصلاح ذات البين بين السنة والشيعة على نطاق واسع، فذلك تطور لا يجوز عرقلته بسبب وهم أو تفسير خيالي لأحداث وقعت قبل عشرين سنة خلت.

*بول ووليفوتز: نائب وزير الدفاع الاميركي السابق وكان سفيرا لبلاده في اندونيسيا
 

Share |