العراقي بين الإستلاب الفكري ومفهوم الحرية ..الفرزة الثانية-داود الحسيني
Fri, 13 Apr 2012 الساعة : 23:18

تتمحور هذا الفرزة حول هوسٍ يصعبُ تصنيفه ، فهو وليد مشوّه لولادة متعسرة ونتاج لزواج غير شرعي ولا أتصور بأن أي سياسي ديمقراطي مثقف يلجأ اليه ، إلاّ إذا وضعته الضروف فوق مقصلة من الخيارات الصعبة وهو بالتالي ( كالمستجير من الرمضاء بالنار) فلقد كنا في زمن إنحطاط القيم الديمقراطية والدينية نأخذ على العفالقة في نهايات سنواتهم المرّه أتكاءهم على العشائرية والمذهبية الطائفية ، جعلوا من كل شيخ عشيرة مخبرا أمنيا يرصد تحركات أفراد عشيرته بظلم ودكتاتورية قلَّ نظيرها . فهل حصد هؤلاء غير البؤس والخسارة فلماذا نعيد ذلك السيناريو البغيض.!!؟ أعرف أن تصرف قسمٍ من شيوخ العشائر تصرف فردي يرقى الى التطرف وخارج على حدود القوانين السماوية والوضعية . وكنت قد تمنيتُ على بعض الشيوخ في جنوب العراق أن يكون داخل العشيرة مجلساً إستشارياً يضمّ عالماً دينياً وسياسياً نظيفا ومفكراً أو أديبا ولا يقرر الشيخ قراراً إلاّ بعد المرور على هؤلاء وأن يتعهد الشيخ بالقضاء على الحيف والألم داخل العشيرة حتى لوكان هذا الظلم قد وقع على طفلٍ أو أمرأةٍ ضعيفة ليكون الجميع عناصراً فاعلة في عملية الإصلاح والتغيير في عراقنا الجديد فهل يقبل الشيوخ الحد من سلطاتهم وهم الذين يريدون عودة الإقطاعية التي قضت على أغلبيتها الجمهورية العراقية؟ ويحلمون أن تكون لهم اليد الطولى في الحكم والتحكم ولقد بدأ البعض من الشيوخ والكبار في الناصرية تحدي الحكومات المحلية وبناء المضايف في أي مكان يريدونه حتى لو كان غير مملوك لهم (حدث هذا في مدينتي الجبايش ) والقسم الآخر أحاط نفسه بجيش من الحمايات لهم رواتب ومناصب بحيث يصعب عليك مقابلته .
لعل شيوخ العشائر سيتصوروني رافضا لمبدأ العشيرة أو القبيلة وضدهم ولكننا نريد إصلاح اجتماعي وديمقراطي يطال كل مفاصل حياتنا ومجتمعنا وليس لي من قصد غير الإصلاح.
أما الصحوات ففي حلقي غصة وأموت وفي نفسي شيئ منها ، لأسباب بسيطة وثابتة ولا أجدها إلا مسميات بديلة عما كان يسمى في زمن الطاعون العفلقي ( الجيش الشعبي والفدائيين!!!)
دعوني أرجع قليلا إلى كم هائل من الأمراض والتبعات التي ورثها المجتمع والساسة الجدد من النظام البائد لكي نعذر خطواتهم البطيئة المكدودة ثم نلتمس لها بعض العلاجات المؤقتة والدائمية قدر ما نفهم وما نستطيع.
لقد اعتمد عفلق ومساعدوه اسلوباَ كارثياَ في بناء الكيان الإجتماعي والثقافي للشخصية العراقية المغلوب على أمرها ..وهو اسلوب (التلقي السلبي) .. فقد كان الطفل في الروضة أو المدرسة على مقاعد الدرس .. وقبل أن يبدأ في تعلم القراءة والكتابة يمتلئ رأسه بسموم مثل( قيام ... قادسية صدام .. جلوس .. انتصرنا على الفرس المجوس) في عملية قتل للفطرة وترسيخ منطق الغاب و الحقد والطائفية في عقله الصغير بدل أن يزرعوا المحبة وأدب الحوار وتقبل الراي الآخر.. فحين ينشأ الفرد ستكون هذه الطريق منهجه المعتاد .. واذا ما وصل الى مرحلة متقدمة .. سيردد الأفكار والمقولات التي تتلمذ عليها .. (وكأنها الحقيقة الوحيدة التي لا ينبغي أن يقارعها شيئ ..وسيرى اية محاولة لنقدها ومناقشتها بمثابة انحراف عقيدي وفكري يجب قمعه وازاحته عن الطريق بكافة الوسائل وأن كان الحديد والنار) وهو منهج مارسه البعثييون بنجاح رهيب خلال عقود حكمهم السوداء. وتحت ساديّة فكرية وتعطش للتفرد بالسلطة .. أمـّّمَوا مصادر الدخل وجعلوه مقتصرا على ما يجود به القائد الأوحد ..فأصبح أنبوب ماء الشرب وورق التواليت .. وقطعة الأرض والراتب الشهري ووو .. من مكرمات السيد الرئيس لشعبه الذي بدا وكأنه قطيع من الأغنام لا يأكل إلا مما يختاره له الحزب ولا يلبس إلا ما تجود به كفُّ الرفيق القائد .. فتحول الشعب من منتج خلاّق الى شعب ينتظر هبات القيادة ورحمتها واختياراتها ! كان هذا النهج الظلامي يتغلغل بين مسامات المجتمع مثل مرض خبيث .. وزاده محاولة البعثيين أدلجة الحياة تطرفاً إضافيا وأنانيّة .. فكل شيئ حوله العفالقة إلى غاية سياسية تبرر الواسطة القمعية .. فحتى الشعار وظفوّه لصالح مشروعهم التخريبي .. فحين تجادلهم وتضرب لهم مثلا في شعار رفعوه .. يقولون وبلا تردد إن هذا الشعار كان مرحلة وتجاوزها الحزب .. وأصبح شعار المرحلة سيفاً يسلّطونه على من أرادوا ويغمدونه حين تقتضي مصالحهم وأهدافهم .. وفي سابقة لم تكن في عراق الحضارات .. جُعـِل الولاء للحزب معياراً لوطنية الشخص .. ومقياساً لانتمائه والتصاقه بوطنه .. فخوّن الرفاق كل معارض لتوجهاتهم وأجازوا لأنفسهم القصاص منه ومصادرة حقه في الحياة والعمل والتفكير وغدت البيوت العراقية مستباحة يتسورها رجال الأمن في آناء الليل والنهار ..يرهبون الأطفال ويختطفون الرجال والنساء بلا رقيب أو حسيب أو تهمة حقيقية .. فكم أزهق البعثيون من الأنفس التي عارضت بصدق وطني حرب القادسية البلهاء .. ولأول مرة في التاريخ يموت الناس من أجل رغبة القائد الرمز الأوحد وأوامره وأحلامه المجنونة بعيداً عن الدفاع عن الوطن والدين .. وسُمَّيت الحروب بأسماء أشخاص لا يفقهون حقيقة أنفسهم وآبائهم. قلتُ لا بد لي من المرور سريعاً على أمراض البعث الوبائية والتي أرهقت الشعب العراقي وأدمت مفاصل عيشه .. لكي نحاول أن نصل الى تركيبة العلاج والمراهم التي تساعد هذا الجسد المصاب .. جسد العراق الموجوع من أجل أن يستعيد صفاءه وجماله . ولكي تكتمل مسرحية الزيف والحقد العفلقي .. ورغبة في تأسيسه لسياسة الفرقة والخوف من الآخر عمد حزب البعث لبث عيونه وشرطة أمنه في كل مكان ... في الشارع والمصنع والدائرة والثكنة العسكرية .. ووصل الى غرف النوم فجعل الزوجة تتجسس على زوجها والجار يحصي حركات جاره ... والأبناء ينقلون ما يتفوه به الأباء على مائدة الإفطار صباحاً .. فزرع في القلوب عقدة الترهيب وأن ( للحيطان آذان ) لكي لا يجرأ أحد على نقد الأوضاع المزرية ..واصبح التلفـّت سمة المتناجيَّين .. فتجذرت ثقافة الخوف وصار المجتمع يجلس فوق براميل من اليأس والرعب ..لقد أصبحنا شعباً يخاف حتى من الضحكة !! .. وفي محاولة للقضاء على أحلام الناس وهي في صدورهم إدّعى صدام بأنه يرى باطن الأشياء وما خلف الصدور حتى اذا لبس البعض نظّارات سميكة!!..كل ذلك والناس بين مصدق ومكذب ومصدوم .. ومع الوقت أصبحت بضاعة كتـّاب التقارير رائجة ومربحة .. يتنافس عليها الحالمون بالثراء وظل الأحرار يحملون خشبتهم على ظهورهم رغم الرياح العاتية والجرائم البشعة .. بعد هذا يأتي مَن ينتقد العراقيين بأن معارضتهم لم تكن مِن و في داخل البلد وكأنهم لم يعرفوا أن البعثيين حرّموا علينا قراءة الكتب والمجلات التي لا تتفق مع توجهاتهم أو سماع محاضرة دينية من إذاعات دول الجوار ، ثمّ أجبروا العراقيين على قراءة مايكتبه الرئيس والرفاق حصراً وهي بضاعة فاسدة لا تستحق ثمن الورق التي طُبعت عليه وأصبح الفقير والمحروم حين يشتري كيس دقيق لأطفاله مجبرا على شراء كتاب من كتب القائد حتى لو كان هذا المسكين لا يعرف القراءة والكتابة .. ثم حول صدّام الجيش العراقي من جيش كان من المفروض أن يدافع عن الوطن والمواطن إلى جيش ينتشر على الطرقات والشوارع .. لتفتيش جيوب الناس وثقوبهم وكنا نفتح دفاتر خدمتنا العسكرية،ولا نعيدها الى حقائبنا .. كان صدام يخاف من المواطن العراقي !! أخذ يزجُّ الناس في حروب وأمهات معارك خاسرة وبلا جدوى .. وتغافل عن قضية فلسطين وهمـّشها وهي القضية المركزية في وجدان المواطن العراقي وقلبه .. وأعجب من حب الفلسطينيين له وهو الذي كسر ظهر فلسطين حين أبهظ المسلمين بحروب القادسية وأم المعارك العبثية والتي كانت خسائرها كافية لطرد اليهود ومَن والاهم خارج أرض العرب .. ومزق شمل الأمة العربية في حلم صبياني على مائدة سكر .. بغزوه واحتلاله جارتنا العزيزة دولة الكويت!! وأدارَ للأدب والشعر والإعلام وجهه بعدما عرف أن حرفة الكتابة حرفة المجامر والوجع .. والعراق بلد المواجع والشعراء وأن للصحافة دور مهم في غسل جرائمه وأمواله المسروقة من قوت العراقيين ودمائهم ..فأخذ يشتري من لديه الإستعداد لبيع ضميره .. ويستغل حاجة المحتاجين ويبذل الملايين من أجل شراء الذمم والأبواق .. وما كوبونات النفط إلا دليل واحد وشاهد على هذا التوجه المشين .
إلى الفرزة الثالثة
داود الحسيني
[email protected]