العراقي بين الإستلاب الفكري ومفهوم الحرية-داود الحسيني
Mon, 9 Apr 2012 الساعة : 15:34

المدخل الأول
الفرزة الأولى:
قبل أن أدخل في قراءة تحليلية وموضوعية للواقع العراقي الذي نعيشه في الوقت الحاضر داخل الوطن المسلوب وقبل أن أضع أصبعي على مكامن الوجع كاشفاً بعض المستور لأعرض محنة هذا المواطن الجريح الذي ملَّ من كثرة الباكين والمتباكين حوله وعليه والمتاجرين بدمه وعذاباته دون أن يحصل على أبسط حقوقه في العيش الكريم وتساويه بالفرص مع أولاد السياسيين وأهل الحل والربط و أصحاب الأحزاب والمنظمات التي لا حصر لها ولا عد . بل حتى في شربة ماء باردة يبلُّ بها ريقه اليابس ونسمة هواء منعشة تمنع عنه سموم الصيف اللاهب أو في بيت يحميه وصغاره من غائلة البحث عن مكان وسط زحام المرابين والإقطاعيين الجدد . وكيف أن هذا المسكين يضيع في تفاصيل همومه بينما يتعارك من يهمهم الإمر لتبرير فشلهم وعجزهم واشتراكهم في هضم حقوقه ، فترى
الوزير الفلاني يتهم الوزير العلاني ليلقي عليه مسؤولية تقصير وزارته !هكذا لتستمر الأزمات تقهر الشعب المحروم وتزيد من معاناته . ولم يحس أحد بالفرق الواجب ظهوره بعد سقوط الدكتاتورية الصدامية وتخلصهم من حبالة العشيرة ومن ربقة عدي وقصي . فإذا بهم يقعون في براثن العشائرية التي لا يمكن أن تصنع مجتمعاً متحضراً أبدا ، وأولاد المعممين الذين يمتلكون صكوكاً من السماء تعطيهم الحق بفعل أي شيئ . ولا أدري مَن خوّلهم مثلاً بالذهاب الى حكومات بعض الدول والتحدث باسم الشعب العراقي وهم ليسوا أعضاء في مجلس النواب ولا وزراء للخارجية ! وربما شعر البعض بنوع من التحسر على الماضي رغم همجية أيامه . قلت قبل الدخول بهذا البحث أود تأكيد بعض الحقائق التي تقتضيها الدقة والموضوعية ولكي أكون عادلاً وصادقاً:
أولا: أنا عراقي مستقل وليس لي أية مصلحة في المراء والشجار وتسقيط الآخرين ولا أشَّهر بأحد إلا بمقدار الضرورة التي أجد في تثبيتها واجباً أخلاقياً لنصرة الشعب المظلوم الذي أنا جزء منه .
ثانيا: أنا متدين وكنت محكوماً بالسجن المؤبد في زمن البعث بتهمة الإنتساب الى حزب الدعوة الإسلامية .وليس لي أملاكاً ولا أطياناً ولم يعد لي حتى بيتي المصادر في الثمانينات لحد الآن .ولا أريد من خلال بحثي أن أنتقم من أحد. وأنا من المؤمنين بالديمقراطية وأن يعيش العراقيون بمختلف مذاهبهم وأديانهم ومشاربهم فوق الأرض العراقية لا يمسهم سوء ولا يقطع رؤوسهم سيف ولا يعاملهم أحد كمواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة .
ولا أقبل أن يحكمنا متطرف أكان معمماً أم غير معمم.
ثالثا: الوزارات كافة يستشري فيها الفساد الإداري والمحسوبية والرشوة وبحثي ليس موجهاً لشخص هذا الوزير أو ذاك ولكني رصدت ما أكتبه خلال أربع سنوات سود قضيتها في العراق بعد عودتي الكارثية لأني أحب تراب الوطن ولا أعيش إلا وأنا متوسد حنانه وطيبة أهله تلك العودة التي كابدت خلالها ما كابد أقراني وعرفت ما عرفه غيري وسكت ولكني لا أستطيع السكوت.
رابعاً: سأعود قليلاً الى الوراء لما قبل سقوط الدولة الكارتونية التي كان يقودها صدام ، وما زرعه البعثيون فحصدناه علقماً ليكون سردي للحقائق واضحاً ويستند الى براهين وثوابت فالتركة ثقيلة ولكن مَن حملها لم يكن أهلاً لحملها ولم يبذل ربع جهده في القضاء على أمراض المجتمع . انني مثل غيري أبحث عن الخلاص الذي لا أعتقده آتياً في المنظور القريب .
تمهيد :
في سورات البوح يفتشُ القلب عن الأحبة ويخلع ثوب التوجس كتبتُ قبل أشهر من سقوط دولة القمع لأستاذي المربي الكبير البروفسور عبد الإله الصائغ ( أنا خائفٌ يا سيدي الكريم أن يلبسَ الذئبُ ثوبَ الحمل وأن يعتمر الشيطان المتوحش عمامة الله ، فتنسى المصبات أنهارها ويذوب الغرام . أخشى يا سيدي إسرافيل أن يضع
البلهاء أصابعهم في آذانهم فلا يسمعون بوقك الرائع والعظيم)
لقد وقع الذي حذرتُ منه . العراقي في الداخل مع ما مرَّ عليه من استلاب فكري واجتماعي واقتصادي خلال عقود من البعث الضال لم يستوعب بعد التغيرات التي حدثت بسرعة خاطفة لم تتضح حقيقتها ، ساعده في ذلك افتقاره لوسيلة إعلام صادقة يثق بها . فهو يسبح في بحر من الأحداث وهو مقيّد ، تتناوشه القنوات الفضائية المغرضة والإشاعات فتقتل في نفسه الأمل ، فيلجأ البعض إلى منابر المساجد فلا يجد غير التبشير بالموت والزهد بالحياة الفانية واللطم على زمن كان من المفروض أن يكون منطلقاً لحياة أفضل ولبناء ما دمره الطواغيت ومن أجل أن تبقى هذه الأجيال محقونة بحب الله والوطن واعماره ( إعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا وأعمل لأخرتك كأنك تموت غدا ) كما يقول سيد الكلام علي ع . وصنف أستهوته لعبة جمع المال والمناصب فهو بعيد عن الغالبية المسحوقة لايهمه حرمان فقير وصراخ جائع وأخر حكمت عليه سلطات القهر بالرحيل إلى حيث ما تصوره أماكن للهدوء والسلام ولم يجدهما ، تعلق بأستار القطب المتجمد يجتر الذكريات ويتلقى المصائب وهي تترى عليه أشبه بسهام لا تتوقف. والبعثيون ومَن والاهم من العرب والعجم يمتلكون المال ووسائل الإعلام والعمق القومي الفاشتي الطائفي نشطوا من أجل أن يطاردوا الحلم العراقي وأن يحاصروه ليحصروه في عودتهم. وكأنهم يردون أن يقولوا للناس البسطاء: سوف لن يقر لكم قرار ولن تأمنوا في ليل ونهار دون أن نتسلط على رقابكم . وبقي المثقف العراقي مبعدا تحاط حركاته مهما كانت بريئة بريبة ولامبالاة ، فهو في الداخل مهزوم يخاف أن تشير إليه الأصابع المتربصة وليس أسهل من أن يتهم بالعمل مع الإستبداد ليجد رأسه أمام قدميه دون محاكمة ومثقف الخارج عزله الإعلام العربي والإسلامي وصوَّره مهرباً لثقافة الأبالسة الكفار الصليبيين!ولا يصلح لعصر الحضور!وقادم من المريخ! فوجد نفسه خارج الأسوار.
قلتُ أن مثقف الخارج عزله الإعلامي المتخلف ورسم له صورة ولغيره من القادمين والعائدين من منافيهم البعيدة في أوربا وأمريكا وغيرها من دول اللجوء القسري ليخدموا بلدهم ، رسم لهم الإعلام الوضيع وبعض المعممين المراهقين والذين لا يمتلكون فهما سياسيا صائبا رسموا لهم في أذهان السذج تصورا على انهم عملاء ومأجورين ( حتى لو كانوا وطنيين مخلصين ) وليسوا إلا آلات يتحكم بها الغرب الصليبي ! عن بعد ويحركهم كيف يشاء دون ان يعلموا بان هناك من ضاع اطفاله واهله لكونه أراد أن يحافظ على اسرته وتقاليد مجتمعه ، وإن منهم من عاد مع أطفاله الذي لا يعرفون اللغة العربية إلا اللمم لأنهم ولدوا هناك وترعرعوا وعرضهم للحرمان والحر والخوف ليحافظ عليهم وبدل ان يكافئ من الدولة ويحترم ويشار اليه بالبنان لا زال يسكن في بيوت لا تصلح للسكن لان أجرها زهيد، منسياً مهمولا .
الى الفرزة الثانية.
داود الحسيني
[email protected]
9.4.2012