من اجل خطاب ديني معتدل-عبدالستار الاسماعيلي-الناصرية
Sat, 7 Apr 2012 الساعة : 16:12

في ظرفنا الحاضر المملوء بالمتناقضات , نجد اننا بحاجه الى تحليل لما يدور في اوساطنا من ظواهر , والانطلاق من تحليلنا لكل ظاهره نحو تكوين رؤيه واعيه تستوعب الاسباب وتستقصي النتائج ومن ثم الخروج بصيغ واساليب عمليه تتجاوز مايكتنف واقعنا من سلبيات ادى اليها الفهم القاصر , والتعصب الاعمى , والتفسير الخاطئ .
ومن ابرز تلك الظواهر , ظاهرة الخطاب الديني وتأثير تلك الظاهره سلباً وايجاباً على مجمل الاوضاع السائده .
ولكي نخضع هذه الظاهره الى التحليل ودراسة ما يتعلق بها من جوانب لابد من الاشاره اجمالاً الى وظيفة كل من الدين كنظام سماوي والعقل واستنتاجاته ودوره في تقويم مسيرة الانسانيه وايضاح العلاقه بين الدين والعقل , ولكي نفهم هذه العلاقه لابد ان نستحضر حقيقه مهمه تمثل نقطة انطلاق نحوبلوغ هذا الفهم وهي :
ان كلاً من الدين والعقل منهجان يؤديان الى غايه واحده وهي تنظيم الحياة الانسانيه وان اختلفا في الطريقه والاسلوب الذي يوصل فيه كلاً منهما الى تلك الغايه وبناءاً على ما تقدم لابد من الاشاره الى وظيفة كلا المجالين :-
الدين رساله الهيه هدفها رسم المسار الذي ينبغي ان تسير بموجبه حياة الانسان , وفي هذه الرساله قانون شامل لكل مامن شأنه ان يقيم الحياة على اساس من العدل والمساواة وحفظ الحقوق وصيانة الكرامه وكل ما يرتقي بالانسان الى مستوى انسانيته , والدين يضع لحياتنا هدفاً ويحدد لنا الوسائل التي توصلنا الى ذلك الهدف , فهو ينقلنا من حالة العبثيه والعشوائيه الى حاله من النشاط والعمل الهادف , لأن الانسان عندما لايكون لديه هدف في الحياة انسان ضائع يسيطر عليه الملل والضجر , ولايجد لحياته طعماً , والدين فوق كل ذلك علاقه خالق له كل صفات الفيض والعطاء بمخلوق ما كان شيئاً مذكوراً لو لا خالقه الذي افاض عليه الوجود واغدق عليه هذه النعم التي لاتحصى وهذه العلاقه بين الخالق والمخلوق لكي تستمر وتقوى تفرض عليه جملة امور بالامكان حصرها في كلمه واحده هي الاستقامه .
اما العقل فأننا عندما نتأمل في بداية وجود الانسان نجد ان العقل حاضر منذ النشأة الاولى وقد ورد في الاثر ان الله سبحانه وتعالى عندما خلق الانسان واوجد فيه العقل قال له اقبل فأقبل ثم قال له ادبر فأدبر قال بك اعاقب وفيك اثيب وفي هذا دلاله على ان وجود العقل سابق على وجود الدين , وبأمكان الانسان بهذا العقل ان يدبر اموره وينظم شؤونه ويبني حياته بل ما قامت الحضارات والاكتشافات والاختراعات الا بهذا العقل ... ولو اتبع الانسان احكام عقله دائماً لهداه الى كل مايصلح شأنه ولكن الميول والاهواء والغرائز والمصالح ... الخ تؤثر على مهمة العقل في توجيه الانسان فتحرفه يميناً او شمالاً , فهذه المؤثرات تحاول دائماً اجتذابه وحرفه عن الطريق السوي ... وهنا يبرز دور الدين الاساسي وهو ارجاع الانسان الى رشده والى ما يستقيم مع الفطره السليمه , والى ترسيخ وظيفة العقل الذي اودعه الله تعالى في الانسان فالدين والعقل يلتقيان عند غايه واحده اساسيه هي بلوغ الانسان انسانيته , واذا ما ادركنا هذه الغايه واخضعنا سلوكنا لمنطق العقل فأننا في نهاية الامر نكون قد حققنا هدف الدين الاساسي وهو تحقيق كرامة الانسان من خلال نضوجه الفكري وفهمه للحياة .
وبهذا المنظار يكون مؤدى وظيفة العقل ودور الدين هو اقامة صرح الحياة الانسانيه على اسس قويه رصينه تكفل سعادة الانسان0
ولكن عندما نلقي نظره بسيطه على تاريخنا الاجتماعي ماذا نجد ؟
ان التاريخ يطلعنا على كوارث اصابت نظامنا الاجتماعي , ويوقفنا على مآسي وقعت نتيجه للتوظيف الخاطئ للعقل , وكان قدر مجتمعنا ان يرزح تحت نير هذه الويلات والحروب والدمار والفقر والتخلف والصراع الذي لامبرر له , اما الدين فأنه لم يأخذ فرصه كافيه في الاصلاح ولم يسمح لرسالته ان تؤدي دورها في تصحيح مسيرة المجتمع بل ان الفهم السئ والتفسير الجامد والتعصب الاعمى جعل من الدين سبباً للفرقه والتناحر والعداء بين الانسان واخيه الانسان وهو مانطالعه ونلمسه كل يوم في واقع نتمنى ان يعود له صفاءه ونقاءه .
وبناءاً على ما تقدم فقد ارتبط الخطاب الديني بمستوى فهم وظيفة الدين اجمالاً وصلتها بالقيم الانسانيه، فبالقدر الذي يبدو فيه الخطاب الديني ضرورياً لنشر الوعي , واشاعة الاحكام الالهيه وارشاد الناس فأنه في الوقت ذاته قد يكون وسيلةٍ لنشر مفاهيم واراء تثقل كاهل المجتمع بأعباءها عندما يتخندق الخطاب في اطار طائفي متعصب لايرى الا صحة الرأي الذي ينادي به .
ولقد كان للخطاب الديني ولازال تأثيراً بارزاً على مجمل الاوضاع السائده ايجاباً وسلباً وسبباً لأستقطاب الكثير من التوجهات , وبث مختلف الاراء والافكار هنا وهناك تبلورت فيما نراه من تجمعات يحاول كل منها الاعلان عن وجوده وايجاد مساحه لتحركه , وهكذا وجدنا انفسنا امام كم هائل من العناوين والمسميات التي لاتنتهي , مما كان له الاثر الكبير في ايجاد كثير من الاتجاهات والتيارات بفعل التأثير الذي احدثه الخطاب الديني في هذه المناسبه او تلك . وهذا يعود الى عوامل عديده اهمها :-
1 -غالباً مايرتبط الخطاب الديني بطقوس تضفي
عليه طابع القداسه لاسيما اذا كان ذلك الخطاب
مشبعاً بمفاهيم العقيده الدينيه فيصبح حينئذ عند
اصحاب هذه العقيده من المسلمات التي لايرقى
اليها الشك .
2- غياب الوعي الثقافي والفكري عند الغالبيه من
الجمهور مما يعني عدم وجود عقليه نقديه لما
يطرح من اراء وافكار .
3- التوجهات السياسيه التي تتخذ من الخطاب
الديني وسيله لتمرير افكارها وتنفيذ برامجها .
4- المصالح الماديه حيث ان كثير من التوجهات
اضافت الى خطابها الديني مغريات ماديه اجتذبت
الكثيرين من ذوي التفكير البسيط وهؤلاء شكلوا
شرخاً في البنيه الاجتماعيه .
5- غياب الخط الفكري الذي يتبنى مشروع توحيد
كافة التوجهات تحت رؤيه وطنيه واعيه تضع
في الاعتبار الاول مصلحة الشعب والوطن .
6- التوجهات الخارجيه والافكار التي زرعتها في
نفوس بعض الذين انخرطوا في تنفيذ برامجها
والتي تجسدت في شعارات التكفير والعداء
وممارسةالعنف والارهاب .
7- سعى البعض من خلال الانضواء تحت هذه
التوجهات الى تأكيد ذاته والتخلص من حالة
الضياع والفشل في الحياة فأخذ هؤلاء يرددون
مقولات وشعارات دون ان يفهموا
معناها ... ويتحركون في اطار هذه التوجهات
دون ادراك للأسس التي تقوم عليها .
ان النقاط المتقدمه ونقاط اخرى تفسر لنا ما للخطاب الديني من اثر عندما يتجه هذا الخطاب في خط طائفي متعصب , لايرى الا صحة رأيه وخطأ الاخرين , وقد يتعدى ذلك الى تكفيرهم كما حدث ويحدث ومانسمعه بين فتره واخرى من هذا المنبر او ذاك , فالمشكله في واقع الامر مع هذا النوع من الخطاب إذ ان الخطاب الديني المعتدل لااشكال فيه ولاغبار عليه بل هو من ضرورات الأرشاد والثقافه والمعرفه في كل زمان0
وفي اوساطنا من جهابذة الفكر الاسلامي ممن اغنوا بمؤلفاتهم ساحة الفكر العالمي وأثروا بأطروحاتهم مختلف الميادين الثقافيه ونالوا اعجاب القاصي والداني على اختلاف الاديان والقوميات ... ولنا ان نفتخر حقيقة بهؤلاء المفكرين الذين عبروا عن ما في الاسلام من فكر ناصع , وقابليه على التفاعل مع الاخرين , واستعداد لمد جسور الأخاء الانساني 0
ولعل الركيزه الاساسيه التي يستند عليها اي خطاب هي انطلاقه من رؤيه فكريه تنبثق عنها جمله من الاراء والتصورات المعبره عن هوية الخطاب , وعندما تكون هذه الرؤيه منغلقه على ذاتها ومتقوقعه في قالب جامد خاص بها فمن المؤكد ان الخطاب الصادر عنها خطاباً محدداً بمفاهيم ومقولات وشعارات قد لاتلقى من الاخرين قبولاً وتلقياً لانها صدرت من الاساس عن رؤيه لاتقيم لأفكار وقناعات الاخرين وزناً وبالتالي ايجاد حاله من التقاطع والتنافر ينتج عنها كذلك ردود افعال مقابله تزيد الحاله سوءاً ... لذا اصبح من الضروري في عصرنا الحاضر ان تتعامل كافة التوجهات والتيارات بذهنيه منفتحه على واقعها , تؤمن بالحوار , وبقيمة التفاعل المستمر بين تجارب بني البشر في الحياة الانسانيه , والايمان بالتعايش السلمي وان العنف والارهاب والاقتتال والتخريب والدمار ظواهر لايقرها دين ولاعقل وتنبذها تجربة الحضاره التي ماوصلت الى ماوصلت اليه إلا بتعاضد العقول وتلاقح الافكار والتقاء التجارب وتعاون بني البشر على اختلاف اديانهم وقومياتهم والوانهم ولغاتهم .
وفي عصر اصبح العالم بأسره بحكم التطور الذي بلغه في المواصلات والاتصالات يعيش حاله من التقارب والتعايش والاتصال تمتنع معها العزله اذ لابد من التواصل مع العالم كضروره من ضرورات الحياة المعاصره لكن ذلك لايعني بأي حال الغاء الهويه الذاتيه لهذا المجتمع او ذاك ... اما من اعرض عن ركب الحياة الانسانيه وركن الى قرون الاسلاف باحثاً عن قوالب تراثيه محطمه لتطبيقها على الحاضر , فمن المؤكد انه يخالف منطق الحياة المتطور ... لأن الدين والعقل لم ولن يختلفا ابداً في اقرار حقيقه مهمه وهي ان الله تعالى انما سخر كل ما في هذا الوجود لصالح الانسان وما عليه الا البحث في هذا الوجود عن الوسائل المؤديه الى اسعاده وتسهيل سبل معيشته ... ولقد كان من نتيجة التواصل الحضاري بين الشعوب والامم هذا التطور الهائل الذي بلغته الانسانيه , فالاكتشافات والاختراعات والصناعات وكل الاساليب التي انتجتها العقول المبدعه لم تكن حكراً على شعب دون اخر , ولا على امة دون اخرى بل كانت اسهاماً حضارياً مشتركاً يشهد به تاريخ الحضاره منذ ان وضع الانسان الاول اقدامه على هذه الارض , ام من يريد ان يخالف هذه الحقيقه وينزوي بفكره , وينغلق بطقوسه عن العالم فذلك الذي يشغل نفسه محاولاً ارجاع عجلة الحياة الى عصر الكهوف .
ان الانفتاح على فكر الاخرين يوفر فرص للتلاقي والحوار والتفاعل ومن ثم ايجاد ارضيه من التفاهم الانساني وتوفير مناخ هادئ من الاحترام والفهم وتجاوز لكثير من الاشكاليات الموجوده في هذا الجانب او ذاك .
وعلى ضوء ماتقدم فأن أي اتجاه فكري لكي يستكمل مقومات نجاحه لابد ان يفهم مالدى الاتجاهات الاخرى المنتميه لنفس الميدان ويتعامل معها تعاملاً موضوعياً مقترن بأحترام ثوابتها ومبادئها مع الاستعداد لفتح باب الحوار الهادف وصولاً الى تحقيق فهم مشترك لكثير من الجوانب ينتج عنه وسط شفاف خالي من الغموض والتعقيد ينعكس الى الحياة الاجتماعيه فيجعلها اكثر استقراراً واماناً ... ولتحقيق هذه الغايه لابد من توافر جمله امور في أي خطاب ولاسيما الخطاب الديني ومنها :-
1- بناء مفاهيم ومقولات الخطاب على اسس موضوعيه قابله للفهم من الاطراف الاخرى بأستخدام الوسائل التي تساعد على تكوين هذا الفهم .
2- الايمان بأن فهم الاخر وافهامه وسيله اساسيه لرسم مسارات فكريه مستقله لاتصطدم مع بعضها من خلال تكوين ذلك الفهم للطرفين .
3- وجود قناعه بأن الحياة الاجتماعيه لكي تسير في اطارها الصحيح لابد من ايجاد حاله من الاحترام بين مكونات المجتمع السياسيه والدينيه والقوميه ... الخ وان المصلحه الاجتماعيه تقضي بأجتناب كافة حالات التصادم والتنافر مادام الجميع يعيشون على ارض واحده .
4 - استيعاب الخطاب لظروف المرحله ومايكتنف تلك
الظروف من اشكاليات والتعامل مع تلك الاشكاليات
بعقليه تستوعب اسباب نشوئها والعوامل المؤثره فيها
بحيث لايثير الخطاب عندما يستحضر هذا الجانب أي
ردود فعل سلبيه لدى الاطراف الاخرى .
5- محاولة ايجاد قراءه تاريخيه مشتركه قدر الامكان
واجتناب الخطاب للقراءه التاريخيه الذاتيه لأن
ماموجود لدينا من اتجاهات دينيه ومذهبيه قد تختلف في
القراءه التاريخيه لمختلف الوقائع والاحداث .
6- وبما ان المفترض في الخطاب الديني – خاصةً – انه
يصدر عن رسالة الدين بأعتبارها رسالة بناء واصلاح
للانسانيه فمن باب اولى ان يستحضر الخطاب هذه الغايه
ولايتخطاها ويسعى الى تكريس قيم ومبادئ ما انزلت
الاديان الا لأشاعتها بين بني الانسان .
وفي الوقت الذي ننشد فيه صفة الاعتدال في الخطاب الديني فأن ذلك لايعني الغاء الثوابت الاساسيه لهذا الاتجاه او ذاك بقدر ما يعني التزام الخطاب بمسار ليس فيه تجاوز على ثوابت الاخرين واحترامها واذا كانت هناك وجهة نظر او رأي مخالف فأن الحوار المؤدي الى قناعات موضوعيه مشتركه هو السبيل الامثل اما التطرف بأي حال لاينتج حاصلاً . والله الموفق .