ذكريات حزينة 4اعتصام الساحة الكبيرة- نعيم كرم الله الحسان- الناصرية
Sat, 31 Mar 2012 الساعة : 13:59

بعد سلسلة هروبات ناجحة من سجن ابو غريب قسم الاحكام الخاصة كان الهروب الاول هو هروب السيد حسين الشهرستاني الذي دبره له السجين علي عريان وصباح البصري وكان علي عريان يعمل لدى المخابرات في قسم الخدمات التي تعنيهم مثل تنضيف سياراتهم وتهيئة طعامهم بينما يعمل صاحبه صباح البصري في مطبخ السجناء واستطاع الثلاثة ان يستقلوا احدى سياراتهم ويفروا بها ليلاً الامر الذي شجع سجن...اء اخرين من تكرار العملية فكان الفرار الثاني دبر من قبل الشهيد السيد كمال محمد وهو يسكن بغداد حي العامرية حيث فر هو ومجموعته ليلاً ونجح فرارهم , انه لم يذهب الى بيته بل التحق بمجاميع ثوار الانتفاضة في المسيب وقاتل الى جنبهم حتى استشهد فوق بناية مقر حزب البعث في تلك المدينة وفي ظل ذلك اصبح لدى عامة السجناء اصرار على الفرار الجماعي واقتحام بوابات السجن الرئيسية ليلاً وحدث في تلك الليلة التي صممنا بها على انجاز هذه العملية اصبحت هناك حركة داخل الاقسام واتصالات بين السجناء الامر الذي ادى الى ارتياب الجهاز الامني الموجود في السجن حيث ضاعف القوات باعداد كبيرة وجرى في تلك الليلة تطويق السجن بدبابات وسرايا من القوات الخاصة واحكمت القبضة على كل الاقسام من خلال تلك السرايا المدججة بالسلاح حيث وقفوا على كل الابواب واحكموا الاقفال باستعداد الى اطلاق النار على اي حركة تبدو من اي سجين الامر الذي ادى الى فشل محاولة الهروب الجماعي وفي الصباح حدث هياج عام واصبح لدينا قرار بالاعتصام في اليوم التالي في الساحة الكبيرة في سجن الاحكام الخاصة وهي ساحة تكاد تكون مساحتها بقدر مساحة ملعب كرة القدم وفي صباح السابع والعشرين من آذآر عام 1991 كانت هناك مجاميع من السجناء تهتف بصوت عال محرضة بالخروج الى الساحة الكبيرة لتنفيذ الاعتصام تأييداً لثوار الانتفاضة وفعلاً خرجنا من الاقسام ووقفنا في بداية الساحة الكبيرة بينما اعتلى الشهيد السيد حسين الشوكي منصة كانت قد وضعت له وحين بدأنا بالاعتصام فوجئنا بأن سطح السجن والبنايات الاخرى الملحقة به قد وضعت عليها مختلف الاسلحة الموجهة صوب الساحة كانت فوهات الbkc والاحاديات والمدافع الرشاشة موجهة صوبنا وقد وضع افراد السرايا ايديهم على الزناد وكانوا تحت امرت رجل لم نعرفه بالضبط حيث يرتدي ملابس عسكرية ونضارات سوداء وقد لف رأسه بكوفيه حمراء قيل انه وطبان التكريتي ويقف الى جنبه رائد الامن قيس واللواء عباس العبيدي مدير السجون العام وفي هذه الاثناء خاطبنا الرائد قيس : ان لم تدخلوا الى الاقسام عندما اعد من الواحد الى الخمسة سوف نطلق النار عليكم ولم ينجوا منكم احد فلماذا خرجتم وماذا تريدون فأجاب الشهيد السيد حسين الشوكي : انكم تقتلون اهلنا وابنائنا وتضربون المدن بالمدافع ونحن خرجنا من اجل ذلك وأذا انتم تعاملتم معنا بالسلاح دون ان تسمعوا منا فأننا نتعامل معكم بالاحذية .
كان سيد حسين رحمه الله وهو من الكوفة اسمر اللون طويل القامة يوحي منظره كأنه من ابطال الرياضة وكانت شجاعته لا حدود لها وكان خطيباً مقتدراً وهو الذي قاد الحركة واستشهد من اجلها بطريقة مؤلمة هو وصاحبه الشهيد السيد زايد وهو من اهالي العمارة .
وقف السجناء في مواجهة الاقسام بينما صوبت لهم الاسلحة فكنا نحن في الاسفل على الارض نقف على شكل حشد واحد وهم يقفون على اسطح السجن بحشدهم واسلحتهم وكنا نهتف جميعاً ونشيد بشجاعة الشعب العراقي وانتفاضته الباسلة وفي تلك اللحضات والمناوشات الكلامية بيننا وبينهم وفي ظل جو ينبئ بحدوث مجزرة لن ينجو منها احد تقدم الشيخ ابو ابراهيم وهو رجل كبير السن من اهل السنة وكان يضع مصحف على رأسه تقدم نحوهم وطلب منهم التفاوض من اجل حل الازمة والدخول بسلام الى الاقسام فبينما يوشك ان ينهي كلامه جائته رشقة من الرصاص من فوق رأسه الامر الذي جعله يتراجع الى حشد السجناء .
وبعدها وقف الرائد قيس في الاعلى وقال سوف ابدء العد من الواحد الى الخمسة فأن لم تدخلوا سوف ترون ما سنفعل وبدأ العد فما كاد ان يكمل انهمر الرصاص كالمطر وبدى صوته كصوت الرعد في هذه الاثناء كان يقف الى جانبي الشاب علي صالح وهو طالب في كلية الآدآب فأخترقت رقبته رشقة من الرصاص فوقع على الارض وسال دمه كنهر صغير واستشهد حالاً رحمه الله .
لم يكن في الساحة الكبيرة مأوى او شيء يلوذ به الانسان بل كانت ارض ذات سطح مستوي فهربنا جميعاً بأتجاه السور الاخير للسجن وانبطحنا على الارض بينما ظل الرصاص ينهمر علينا ولم ندري ماذا نفعل وكلما قدرنا عليه هو الانبطاح على الارض بينما هتف بعض السجناء يطلبون الاشتباك معهم فصحنا انا ومجموعة معي انا الاشتباك معهم يؤدي بنا الى مجزرة لم ينجو منها احد لأننا لا نملك سوى ايدينا المجردة وفي ظل انهمار الرصاص المستمر زحفت مجاميع من القوات الخاصة أتت من خلال الممر الرئيسي مدججة بالسلاح والهراوات والقنابل المسيله للدموع والقيود البلاستيكية الجاهزة وجاءت بأتجاهنا وحين وصلو اليناتوقف اطلاق النار وبدأوا يشتموننا بأقذع الالفاظ النابيه وكانت معالم وجوههم قاسية ويتحدثون بمفردات تدل على انحدارهم من مناطق معروفة مثل (هينا , يول , دحج ولك) وراحوا يستلون اي سجين من بين الحشد ويبرحونه ضرباً بالهراوات حتى يموت او يشرف على الموت فينقلونه بعربات نقل القمامة الى خارج السجن .
في هذه الاثناء كنت منبطحاً على الارض اسوة بزملائي وكان الى جانبي ينبطح ايضاً الاخ (عواد كاظم خشان) فجره مجموعة تربوا على الخمسة عشر فرداً من القوات الخاصة ونزلوا عليه بالهراوات واعقاب البنادق وقد ضننت ان عواد قد فارق الحياة وهكذا فعلوا مع كل الذين اخذوهم وجروهم من بيننا واذكر منهم الحاج ابو مسلم من الكوفة الذي اعدم ابنائه الثلاث والسيد عبد الامير كصاد من اهالي مدينة الصدر والشهيد عبد (المعوق) من اهالي سيد دخيل وبعد انتهاء هذا الاجراء قسمونا الى مجاميع في كل مجموعة 25 سجين وبدأوا يضربوننا بشكل وحشي وعنيف .
في ذلك اليوم كنت اعتقد ان الزمن قد توقف وان الشمس لن تغيب اليوم ويحل المساء وأذا حل المساء اين نكون فوق الارض ام تحتها كان هذا يجري منذ الساعة الثامنة صباحاً والان حلت الساعة الخامسة عصراً وبعد سلسلة تعذيب طويل وزعونا على كل السجون فأرسلوا قسماً الى قسم الاحكام الثقيلة وقسم آخر الى قاطع الاعدام وآخر الى قسم الافراج الشرطي وآخر الى قسم الاحكام الخفيفة .
حيث وضعنا في قاعات مجردة بلا اغطية او فراش وتركونا ثلاثة ايام بدون طعام وبعدها عادوا من جديد وبدأوا فصلا جديداً من التضييق والتعذيب وقد علمنا بعدها ان اخواننا الذين اخذوهم الى خارج السجن والذي يربو عددهم على 60 سجيناً قد دفنوا في مقبرة جماعية وهم احياء بينما شد الشهيد البطل السيد حسين الشوكي الى عمود واعدم رمياً بالرصاص هو والسيد زايد ودفنوا بكتلة من التراب حملتها جرافة من الجرافات المعدة لحفر المقابر الجماعية بينما ذهب اخرون في ذلك اليوم ولم نعلم عن اخبارهم شيءً وبقي من الذين وضعوا في قاطع الاعدام (اسعد رشيد , وناجي صالح الزعوتي , وعلي صاحب الناصري) .
بقوا احياء ولعلهم يذكرون فواجع اخرى غابت عن البال او احبة عاشو معنا وانستنا ايام القهر والاضطهاد اسمائهم فمعذرةً لهم ولهم مني اكاليل الزهور اضعها عندما تمر طيوفهم .