الموروث الإسلامي في شعر السيّاب- فاطمة فائزي-ايران

Sat, 31 Mar 2012 الساعة : 13:33

القسم الرابع (الدراسة في أربعة أقسام)
9: رمز إرم ذات العماد في شعر السيّاب :
ظلّ السيّاب في كل ما كتب يطمح الى تحقيق النموذج الأكمل في معمار القصيدة الحديثة، ولاسيّما قصائده التي تعنى بالدلالة الرمزية و الأسطورية، و كانت محاولاته تنبضّ بإحساس يدلّ على حرص صادق في تخطّي ما يحوّل بينه و بين هذا النموذج الذي يخترق به أعماق الحياة الإنسانية و يمثّل معطياتها بوعي، الأمر الذي مكّنه من أن يصل في بعض ما كتب إلى أعلى مؤشر في عملية الخلق والإبداع[118]، كما في قصيدته «إرم ذات العماد». حيث إرتفع بالدلالة الاسطورية فيها إلى مستوى تكنيكي لم يستطع أن يتجاوزه فيما كتب بعده. ففي قصيدة «إرم ذات العماد»:
يستلهم الشاعر قصة إرم ذات العماد، و يعطيه معنى أسطورياً ذات دلالة معاصرة، فيعطيه بعداً إنسانياً يتحدّ فيه ما هو ذاتي مع ما هو حاصل تاريخياً».[119]
والسيّاب في قصيدة «إرم ذات العماد» يعمد إلى إستثمار خبر رواهُ جدّه عن مشاهدته العيانية لجنّة «إرم» المستورة التي لا يراها الإنسان إلاّ مرّةً في كلّ أربعين عاماً «كما تقول الحكاية». فيستلهم منه رؤية معاصرة، يجعل معنى «إرم» في النهاية مستعداً، لا تحدّه سكونية، ولا يمنع من تدفّقه حقيقة.
حيث يقول: وقد جعل السيّاب حديث «إرم» على لسان «الرواية»:[120]
من خلل الدخان من سيكاره،
من خلل الدخان
من قدح الشاي و قد نشر، و هو يلتوي، ازاره
ليحجب الزمان و المكان،
حدثنا جدّ أبي فقال: «يا صغار»،
مقامراً كنت مع الزمان،
نقودي الأسماك، لا الفضة و النضار،
والورق الشبّاك و الوهار[121]
و إعتمد السيّاب صوت «الرّاوية» في مدخل القصيدة تكنيكاً حديثاً، إذ يجعل الخبر الأسطوري ينساب كأنّه الجوفة التي تعلن بدء الدراما، لهذا نرى الشاعر يرى أنّ اعتماد صوت «الرّاوية» يمنح القصيده أداءً بكراً، إذا ما أحكم الإنتقال من عالم الأسطوري البدائي، إلى عالمها المعاصر الذي يفلسفها وفق رؤيته، الأمر الذي دعاءه لأن يستكمل القصيدة وفق هذا المبنى.[122] حيث يحدثنا جده «الرّاوية» عن مشاهدته العيانية لجنّة «إرم» المستورة، حيث أنّه في ذات ليلة خريفية، و حينما كان يصطاد السمك في خور «الرميلة» لاحت نجمة وحيدة *. فتتبّعها في المسير حتى قادته إلى جدار قلعة بيضاء من حجر، فسار حول سورها الطويل يعدّ مداه بخطواته ، حتّى بلغ بوابتها الحديدية الرهيبة، فوقف عندها طارقاً، و بدا كأنّه ناسك يرفض آلهة دخوله المعبد، فجلس عند الباب كسائل ذليل يسمع الصدى الذي يلهث خلف الجدار كأنّه العويل. و حين أوشك الصباح ليهمس الضياء، نعس، ثم نام، و حين أفاق لم يجد غير المياه التي كانت تشعّ في الخليج، إذا اختفت «إرم» و هنا يتلفت الرّاوية إلى أحفاده يحدّثهم بصوت علا نشيجه [123]:
و لن أراها بعد، أنّ عمري إنقضى
و ليس يرجع الزمان ما مضى
سوف أراكم فيكم، فأنتم الأريجُ
بعد ذبول زهرتي، فإن رأى إرم.
واحد كم فليطرق الباب و لا ينم
إرم...
في خاطري مع ذكرها ألم،
حلم صباي ضاع ... آه ضاع حين تم
و عمري إنقضى[124]
و هنا يتوّصل القارئ إلى أنّ «إرم» غدت في نهاية القصيدة المدينة الفاضلة «يوتوبيا» التي كان يحلم السيّاب بتحقيق وجوده فيها، بعيداً عن مدن العذاب والصراع والغربة، إنّها الأمل الذي كاد يقرّ به فينشي به سعيداً حالماً، لكنّ ذبول العمر أضاع لحلم الصبا، و على الآخرين أن ينتبهوا له، فقد يحقّقونه. و في هذه القصيدة يبلغ «التوتر» ذروته، إذ تتعاقب الصور تتداخل بفعل تدفق خيال السيّاب و تداعيه، بشكل يوحي بقدرته على تطويع اللمحة الشعرية و جعلها ذات نبض و دينامية فحين تلوّح التجمّع الوحيدة للجد، يتداعى خياله فيذكر نجمته البعيدة «رمزاً عن الحبيبة» التي تنام فوق السطح في هذه الساعة *و حين تسمع الحبيبة الجرار و هي تنضّح، يتداعى الخيال بوقع حوافرحصان عنتر حين كان يجوب دجى الصحاري لزيارة حي عبلة:[125]
و إنفرج الغيم فلاحت نجمة وحيدة
ذكرت منها نجمتي البعيدة
تنام فوق سطحها و تسع الجرار
تنضح يا وقع حوافر على الدروب
في عالم النعاس، ذاك عنتر يجوب
دجى الصحاري إنّ حي عبلة المزار[126]
من هذا نستخلص بأن السيّاب إستطاع أن يستخدم أسطورة «إرم ذات العماد» في شعره، و قد أعطي قصيدته بناءً درامياً و بعد عن هذه المباشر المسطحة التي رأيناها في سطور قصيدة «إرم ذات العماد».
إلا حسب إعتقاد الباحث و الناقد الدكتور رجاء عيد بأن قصيدة «إرم ذات العماد» يشوبه بعض النواقص الفنية في نظم القصيدة و هذه القصيدة رهين زلة السيّاب حيث تختفي في القصيدة، اللغة الفنية و تسود النثرية، و نحسب أن عرض طرف من قصيدته كفيل ببيان تلك المآخذ.[127]
و يضيف الدكتور رجا عيد حول قصيده «ارم ذات العماد»:
"لعلّ أهم ما لاحظناه تلك النثرية الباهتة و الثرثرة الشكلية في تفصيلات جزئية لا تخدم البناء الدرامي الذي يضعفه أيضاً فقدان أحكام حلقة الموقفين اللذين تقوم عليهما القصيدة: الفقر والعجز واليأس، و الرغبة والطموح والأمل. حيث تصبح (ارم) الرمز الاسطوري الذي يلتقي على أسوارها موقفها، و على رغم المحاولة الإيهامية الساذجة ـ في إصطناع مدخل تمهيدي لهذا الجد الذي ينبثّ الدخان من سيجاره و قد تجمع حوله المستعمون. يحاول (السياب) بذلك إصطناع (جو درامي) و تهيئة قصصية فإن القصيدة تظلّ هامشيّة من حيث القيمة الفنيّة و تبيّن سطورها الأخيرة عن التدخّل المباشر و تظهر إنفصال الشاعر عن الأسطورة و إقامة تباعد منظوري بينه و بينها مع أنّ المفروض تشابك الجانبين و إتحاد الشعر الأسطورة و الأسطورة الشعر في بؤرة تناظرية متوحّدة"[128].
مع هذا فإننا نعتقد بأنّ لقصيدة «إرم ذات العماد» قيمة فنية و أدبية و التراثية. فقد إستهلم الشاعر بدر شاكر السيّاب من قصة «إرم ذات العماد» في القرآن الكريم: "ألم تركيف فعل ربك بعاد. إرم ذات العماد"[129]. و جعله مصدراً غنياً لشعره و قصائده.
و كذلك إن اعتماد السيّاب على تدفّق الصور و توليدها من بعضها البعض جعل القصيدة في منأى عن التوقف، حتى إستكملت توترها في النهاية، و هذه القصيدة تعدّ من خيرة قصائده الموظفة للأسطورة، إذ إستثارت في القارئ المشاركة و جعلته يعيش التجربة الشعورية بذات اليقين العاطفي للشاعر.[130]
10. قصة ثمود في قرآن و رمزها في شعر السيّاب :
يشير الشاعر بدر شاكر السياب، في معرض حديثه عن إبادة الحق إلى قصة «ثمود» في القرآن و كيف دمّرها الله في مساكنها في «الوادي»[131]:
أكاد أسمع العراق يذخر الرّعود
و يخزن البروق في السهول و الجبال
حتى إذا ما فضّ عنها ختمها الرجال
لم تترك الرياح من ثمود
في الواد من أثر[132]
و هذا المعنى مقتبس و من الآية الكريمة "و ثمود الذين جابوا الصخر بالواد"[133]. و يستوجب الإشارة بصورة عامة إنّ شعر بدر قد غصّ بالمعاني الاسلامية و الدينية الواردة في التوراة والإنجيل و القرآن. الأمر الذي يؤكد عمق ثقافة الرجل و يحملنا على القول أنّ الإسلام كان محطة رئيسية في فكر الشاعر و ممارسته ... و هو بذلك عربي يعيش العصر بمدّه و جزره بعلوّه و هبوطه. فتبقى في شخصيّة الأصول العربية ـ و الإسلامية نابتة، زاهية، مشرقة على الحضور الدائم للقيم و المعالم الإسلامية في شخصيّة الإنسان العربي و ممارسته.[134]
و نستنتج من هذا بإننا إذا كنّا نبحث عن الصورة الإسلامية في شعر بدر شاكر السيّاب فإننا نجدها إلى جانب سواها من الصور التي عاشت في تجربته الفنية والحياتية ... صحيح أنّه لم يكن يمارس شعائر الاسلام ... مثله مثل كثير من المسلمين، فإنّه دعا دعوة الإسلام و عبّرعمّا في دخيلة نفسه من مشاعر جيّاشة و أفكار متلألئة تصبّ في أهدافها في ما سعى إليه المسلمون في أقطار الأرض ... و لاريب في أنّ هذه الصورة غير واضحة، و يسيطر عليها شبح التذبذب و الإنتقاء و الفوضى شأنه في ذلك شأن الملايين من المسلمين الذين أوشكوا أن يضيعوا في معمعة القرن العشرين، قرن التيارات الفكرية المختلفة والحروب المدمرة.[135]
"ولكن الذي يجب التأكيد عليه هو أنّ بدراً لم يكن ملتزماً تياراً إسلامياً معيّناً لكنّه كان يشعر في أعماقه إنّه ينتمي إلى أرض أنبتت الأنبياء و قدمت كنوزاً من الفكر و الحضارة ما تزال آثارها قائمة إلى يومنا هذا ... وهو مسلمٌ لأنّ أكثرية المسلمين يشعرون بهذا الشعور ... هو مسلمٌ لأنّ الأسلام في هذا العصر يعيش في النفوس أصلاً ثابتاً لا يتراجع عن موقعه"[136]، ينتظر بزوغ فجر جديد فمتى يهطل المطر و يغرق العالم في نعيم الإسلام . ذلك لن يتمّ إلا إذا أنصف المسيح بين البشر و أطيع موسى و إستراح قابيل و هابيل من حربيهما و إنتصب النبي العربي مقوماً الإعوجاج في الكون[137]:
نبي الهدى يا نفحة الله للورى و يا خير ما جاد الزمان المقتر[138]

**************
مصادر البحث:
[118] أنظر: علي ، عبد الرضا؛ الاسطورة في شعر السياب، ص 140.
* إرم ذات العماد أو مدينة الألف عمود كما تسمّى باللغات الأجنبية Irem ،Ubar ،Wabar إضافة إلى "Thousand Pillars City of a " والتي تعني مدينة الألف عمود. وقد اعتبرها بعض الباحثين والمؤرخين أنها مدينة في حين اعتبرها البعض الأخر مثل الطبري أنها قبيلةمن بني عاد، كما قيل انها قبيلة ضربها الله بغضبه لكثرة خطاياها، وحسب خبراء الآثار يعتقد أن عمر هذا الأنقاض يعود لنحو 300 سنة ق.م . وإرَم ذات العماد هي مدينة عربية مفقودة تقع في القسم الجنوبي لشبه الجزيرة العربية وقد تكون في الربع الخالي أو اليمن أو ظفار في عمان، ويذكر أنها كانت مدينة غنية وكانت تشكل مركزا تجاريا هاما في منطقة الشرق القديم،وقد ورد ذكرها في القرآن الكريم، حيث ذكر في القرآن أن سكانها كانوا من العرب البائدة من قبيلة عاد، ويذكر بعض الباحثين أن ملك هذه المدينة كان يدعى شدّاد بن عاد حيث أنه أراد أن يقيم الجنة الموعودة في الأرض، ويذكر أنه يقال أن لهذا الملك أخ اسمه شديد بن عاد. يذكر أنه ورد ذكر إرَم في بعض الرقم الطينية القديمة لمدينة ايبلا في سوريا، كما ورد ذكر إرم ذات العماد وملكها شداد في الليلة ال 277 والليلة 279 من قصص ألف ليلة وليلة . و ورد ذكر إرم ذات العماد في سورة الفجر : "ألمْ ترَ كيفَ فعلَ ربُكَ بعاد، إرمَ ذاتِ العماد، التي لم يُخْلَقْ مثلُها في البلاد" (سورة الفجر / 6ـ 8) . كما أن الله قد أرسل النبي هود لدعوة أهل هذه المدينة للإيمان. عاد كانوا قوماً لايعبدون الله، وحار العلماء والمفكرين والتأريخيين بأن يعرفوا حقيقة هذه المدينة حتى الآن. (إرم ذات العماد ؛ من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة)
[119] أنظر: أوفسيكانيكوف؛ م، موجز تاريخ النظريات الجمالية، ترجمة: نوفا، سمير، ص 437.
[120] أنظر: علي، عبد الرضا؛ الأسطورة في شعر السياب ص 143.
[121] السياب، بدر شاكر؛ المجموعة الشعرية الكاملة، ج 2، ص 129.
[122] أنظر: علي، عبد الرضا؛ الأسطورة في شعر السياب، ج 2، ص 144.
* الصورة القريبة من «نجمة الصبح» او الكواكب الذي لم يأفل حتي قاد المجوس الي بيت لحم ليشاهدوا المسيح بعد ولادته.
[123] أنظر: م. ن ، ص 144.
[124] السياب، بدر شاكر؛ المجموعة الشعرية الكاملة، ج 2، ص 33.
* ينام العراقيون علي السطوح في ليالي الصيف، هرباً من الحر الذي لا يطاق و يأخذون معهم جراراً (قلل) يملأونها بالماء لترويهم عند الظمأ والجرار كانت علامة للفقراء الذين لم تدخل بيوتهم الثللاجات بعد.
[125] أنظر: علي، عبد الرضا؛ الاسطورة في شعر السياب، ص 145.
[126] السياب، بدر شاكر؛ المجموعة الشعرية الكاملة، ج 2، ص 30.
[127] أنظر: عيد، رجاء؛ لغة الشعر «قراءة في الشعر العربي الحديث»، ص 300.
[128] م.س ، ص 303.
[129] القرآن الكريم، سورة الفجر، الآية رقم 7.
[130] أنظر: علي، عبد الرضا؛ الاسطورة في شعر السياب، ص 146.
[131] أنظر: المعوش، سالم؛ بدر شاكر السياب أنموذج شعري لم يكتمل «دراسة في تجربة السياب الحياتية و الفنية و الشعريه»، ص 201.
[132] السياب، بدر شاكر؛ المجموعة الشعرية الكاملة، ج 1، ص 474.
[133] القرآن الكريم، سورة الفجر، الآية رقم 9.
[134] أنظر: المعوش، سالم؛ بدرشاكر السياب أنموذج شعري لم يكتمل «دراسة في تجربة السياب الحيايتة و الفنية والشعرية»،ص 202.
[135] أنظر: م .س ،ص 202.
[136] المعوّش، سالم؛ ملامح إسلامية في الرّواية العربية، ص 324، بتصرف.
[137] أنظر: المعوش، سالم؛ بدر شاكر السياب أنموذج شعري لم يكتمل «دراسة في تجربة السياب الحياتية والفنية و الشعرية، ص 203
[138] السياب، بدر شاكر؛ المجموعة الشعرية الكاملة، ج 2، ص 573
**************
• فاطمة فائزي ماجستير اللغة العربية طهران

[email protected]

 

Share |