الاحتـلال الگوتي للعراق القديم- أباذر الزيدي-كربلاء
Thu, 29 Mar 2012 الساعة : 12:17

الاحتـلال الگوتي للعراق القديم
ما انفكت تهديدات قبائل اللولوبو عن أرض العراق حتى تعرضت في النصف الثاني من الألف الثالث قبل الميلاد الى غزو القبائل الگوتية التي هاجمت الدولة الأكدية وآلت الى سقوطها وسبّبت الدمار الكامل للمدن والبلاد .
والگوتيون من الأقوام البربرية الهمجية التي لم تكن تعرف الحضارة ، وقد استوطن هؤلاء في الجبهة الشرقية والشمالية الشرقية من بلاد الرافدين ، أي في المناطق الجبلية الممتدة لسلسلة جبال زاكروس. وكانوا يجاورون أيضاً قبائل اللولوبو في منطقة استقرارهم جنوب منطقة شهرزور. ولا يُعرف على وجه التأكيد أصل الگوتيين فيما إذا كانوا من الأقوام الهندية ـ الأوربية أم لا ، ذلك لأنهم لم يتركوا وثائق مدونة بلغتهم فلا يُعرف عن لغتهم شيء. غير أن ما يُعرف عنهم هو بعض أسماء ملوكهم الواردة في جداول الملوك السومريين والتي تخصص لهم واحداً وعشرين ملكاً حكموا
(125) عاماً. ولم يكن حكم الواحد منهم يتجاوز الخمس أو الست سنوات ، مما يدل على كثرة الفوضى العارمة والاضطرابات التي سادت العراق خلال فترة حكمهم. واستمرذكر الگوتيين في المدونات التاريخية الى العهود المتأخرة ، حيث ذكر احفادهم باسم " قوتو " في رسائل مدينة " ماري " خلال ( الألف الثاني قبل الميلاد ) كما أشير اليهم في أخبـار الملوك الآشوريين وحملاتهم العسكرية مـراراً ومما يؤيد ملامح هذا الرخاء ما ورد في مؤلف سومري أدبي قال فيه أحد الشعراء وهو يصف العاصمة " أكـد " قبل أن تمتد اليها يد الغزاة الگوتيين بالآتي :
" في تلك الأيام كانت مساكن أكد مملوءة بالذهب
بيوتها الساطعة اللامعة مملوءة بالفضة
والى مخازنها كان يحمل النحاس والرصاص وحجر اللازورد …
عجائزها وُهبْنَ سِداد الرأي
وشيوخها وهبوا فصاحة اللسان
وشبابها عُرفوا ببطش السلاح
وصغارها مُنحوا قلوباً مرحة …
البلاد كلها كانت تعيش في أمان
وملكهم الراعي نرام ـ سين
يخطو كالشمس نحو عرش أكد المقدس
أجل ! لقد كانت أسوارها تطاول السماء كالجبال الشاهقة … "
انتهز الگوتيون ارتباك الأوضاع السياسية في العاصمة أكد فقاموا بهجوم عنيف على المدن الأكدية فاكتسحوها وتذكر جداول الملوك حاكمين آخرين هما دودو ( Dudu ) الذي حكم ( 21 سنة ) ، وابنه شودورول ( Shudurul ) الذي حكم ( 15 سنة ) . وفي ضوء الأدلة التاريخية المتوافرة ، يمكن القول بأن الاحتلال الگوتي لم يشمل أرض العراق كلها ، بل كان احتلالاً جزئياً ،تركز في بعض المدن الشمالية الشرقية من العراق. ومما يؤكد ذلك بعض النصوص المسمارية التي تشير الى أن الحاكم الأكدي ( شودورول ) كان يتمتع بسلطة قوية بحيث أن نفوذه وصل الى منطقة اشنوّنا ، ويفترض بعض الباحثين أن هذين الحاكمين كانا يحكمان في ظل الإحتلال الگوتي .
بعدها انسحب الغزاة الگوتيون بعد تدميرهم لمدينة أكد والمدن الأخرى إلى الجهات الشمالية من العراق واتخذوا من مدينة أرابخا ( كركوك ) مركزاً لهم على ما يرجح .
لذا يبدو أن وطأة الاحتلال الگوتي في القسم الجنوبي من العراق كانت أخف نسبياً مما كان عليه في الشمال . ويعود سبب ذلك إلى أن الغزاة الگوتيين الجبليين لم يعتادوا القتال في منطقة الأهوار الموجودة في الجنوب من جهة ، وأنهـم لم يشعروا بالطمأنينة في الأراضي المنبسطة ، إذ لم يتمكنوا من تكييف أنفسهم للعيش فيها ، كما أنهم وجدوا أنفسهم جهلاء بأساليب الحياة السومرية ، فكانوا يشعرون بالضياع بين المعابد والحدائق وبين الدور والمنازل وفي الأسواق التي يجري فيها البيع والشراء وفي الأنهار التي تمخر فيها القوارب والسفن ، من جهة أخرى. ونتيجة لذلك بقيت المدن السومرية تتمتـع بشيء من الحريـة السياسية والتجاريـة ، وممـا يؤيـد ذلـك قيام
سلالتين سومريتين هما سلالة الوركاء الرابعة (حكم فيها خمسة ملوك لمدة30عاماً) . وسلالة لگش الثانية ( 2200 ـ 2100 ق . م ) التي توالى على حكمها عدد من الأمراء الذين تمكنوا من توسيع حدود سلطانهم خارج حـدود مدنهم . ويعـد الأمير گوديا (Gudea ) من أشهر أمراء هذه السلالة الذي عُرف بنشاطاته الواسعة ، إذ ذكر في أحد النصوص العائدة له أنه مد نفوذه إلى خارج حدود مدينة لگش ، وادعى أيضاً أنه بسط نفوذه على مدينتي نيبور والوركاء . كما أنه استطاع أن يقوم بالعديد من الأعمال العمرانية والتجارية وحتى العسكرية ، فقد أشير في نص نقش على أحد تماثيله ، أنه شنَّ حرباًعلى مدينة أنشان في عيلام .
استطاع المحتلون الگوتيون السيطرة على زمـام الحكم في العراق مدة طويلة نسبياً دامت نحو قرن من الزمن (2200 ـ2120 ق . م ) . ويظهر من دراسة النصوص ذات العلاقة بأن الگوتيين كانوا أقل تحضراً من مستوى سكان البلاد ، لذا أصبحوا تحت تأثير مقوماتهم الحضارية حتى أطلق بعض ملوكهم المتأخرين على أنفسهم أسماءاً أكدية . كما أنهم تأثروا بالمعتقدات الدينية التي كانت سائدة بين السومريين والأكديين، إذ لم يذكر للكوتيين دين معين أو طقوس أو تعاليم يستطيعوا فرضها على سكان العراق آنذاك وبذلـك تعد فترة حكـم الگوتيين من أولى العهـود المظلمة في تاريخ العراق القديم.
أن أوتوحيگال اتخذ من عاصمته الوركاء وضاحيتها كولاب (Kullab ) مركزاً لتجمع قواتـه والاستعـداد لشن الهجـوم على الگوتيين بقيادته .وجرياً على عادة السكان في العراق القديم والتي تربط وقائع الأمور والأحداث بمعتقداتهم الدينية ، لذا نسبت نصوص وثيقة حرب التحرير الى رغبة الآلهة وتنفيذ أوامرها . وفي ذلك ذكر أوتوحيگال أن الإله انليل ، وهو إله السلطة الملوكية إذ عَهِدَ اليه مهمة تحطيم الگوتيين . وقد انعكست هذه الكراهية بشكل واضح في نص أوتوحيگال ، وهو يصف المحتل الگوتي بأنه : " أفعى وعقرب الجبال ، الذي رفع يده على الآلهة ، ونقل ملوكية سومر الى بلاد أجنبية ، وملأ سومر بالعداوة والبغضاء ، لقد أبعد الزوجة عمّن كان له زوجة ، وأبعد الطفل عمّن كان له طفل ، وأقام العداوة والعصيان في البلاد …… ".
وصلت جنود أوتوحيگال بعد أربعة أيام من مسيرتها من الوركاء الى موضع يعرف باسم نكسو ( Nagsu ) ، الذي يقع على نهر يسمى أتورنكال ( Iturngal ) .
ويتضح من خلال دراسة وثيقة التحرير أن سكان مدينة دبروم كانوا يتمتعون بروح وطنية عالية بحيث أنهم لم يقدموا أي عون أو مساعدة للملك الگوتي ، بل سرعان ما ألقوا القبض على تريكان مع أفراد عائلته وسلّموه إلى رسل القائد السومري أوتوحيگال. وتختتم الوثيقة بالنص الآتي :
" لما جئ بتريكان أمام اتوحيگال القى بنفسه عنـد قدميه فوضع أوتوحيگال قدمه على رقبته " تعبيراً عن اندحاره وهزيمته .
المصادر
1) هاني عبد الغني عبد الله بكر، حركات التحرير في العراق القديم من عصر السلالات السومرية حتى نهاية الإحتلال الفارسي الأخميني ، رسالةماجستير غير منشورة ،الموصل ، 2005،ص40 وما بعدها .
2) علي ، فاضل عبد الواحد ، " أقدم حرب للتحرير عرفها التاريخ " ، في : سومر ، ج 1 ـ 2 ، المجلد
30 ، بغداد ، 1974 ، ص 49 .
3) الطعان ، عبد الرضا ، الفكر السياسي في العراق القديم ، القسم الأول ، بغداد ، ( د . ت ) ، ص 97 .
4) باقر ، طه ، المقدمة ، ج 1 ، ص 373 .
5) سليمان ، عامر ، العراق في التاريخ القديم ، ج 1 ، ص 162 .
6) الصفدي ، هشام ، تاريخ الشرق القديم ( الوجيز في تاريخ حضارات آسيا الغربية ) ، ج 1 ، دمشق ،
1982 ، ص 192 .
7) محمود ، نوالة أحمد ، دراسات في نصوص مسمارية غير منشورة من سلالة أور الثالثة ( تل مَزيَد )
حفريات الموسم الثاني ـ 1980 ، رسالة ماجستير غير منشورة ، بغداد ، 1986 ، ص 3 .
8) الشيخلي ، عبد القادر عبد الجبار ، المدخل إلى تاريخ الحضارات القديمة . القسم الأول ( الوجيز في
تاريخ العراق القديم ) الموصل ، 1990 ، ص 95 .
9) Gadd , The Dynasty of Agade. P 458 .
10) Jacobsen . Th . , The Sumerian King list , P 302 .
أباذر راهي سعدون الزيدي
باحث في الدراسات السومرية
[email protected]