الصدى القاهر للصدى المقهور-كريـــــــم شلال
Mon, 19 Mar 2012 الساعة : 13:08

شاعر قضى عمره الممتد عبر النفق السبعيني في خدمة قضايا شعبة المتمثلة بهول الحيف والظلم الذي تعرض له بالاضافة الى ماحمله بين جوانحه من نبوغة تجديد للصورة الشعرية عندما حاول ان بيتعد بها عن الرمزية الايحائية وعن التقريرية في شعره الذي يضفي على اغلبه تلك الاشكال البلاغية العربية التراثية لكنه لبس لباس التجديد شانه بذلك شان الجواهري وبدوي الجمل وعمر ابو ريشة وكان له راي في شعرية القصيدة الحديثة " شعر التفعيلة " او ما يسمى بالشعر الحر بل دافع عن اسباب نشاته وتطوره ، شاعر رفض البكاء بل تمرد عليه وعلى واقعه الاليم كثورة على البكاء والتحسر ، فهو يرفض الدمع والرثاء ويستغيث بالحق كسلاح ، هو الموهبة والالتزام والدين والخلق والمطامح التي يضيق عنها الجسد بل هو الرغبة العارمة للعطاء والتجديد والولوج الى عوالم الابداع وتحقيق المرامي البعيدة انه الانموذج المتقن الذي لاينقطع عن التالق ، ولطالما حاول صب ميدانه الشعري لفحص كينونة مجتمعه محاولا استنطاق همم رجاله من خلال مجساته الشعرية كنافذة يرى من خلالها مخاضات شعب عسيرة واحيانا مهددة لاستمراريته ، لقد خاض الشاعر لجج القهر ووعورة الطريق للوصول الى هدفه المنشود ، لقد اختار نهاية قاسية (وهو شان المبدعين والعظماء ) للوصول الى غاياته ، الا وهي المحافظة على اهدافه وايمانه راضيا بتلك الحياة القانعة ، وان كان رافضا لها في خلوته لكنه مسكونا بالقلق والتوجس بل مرهف الحس حيث يظهر ذلك ( الفاظا اغترابية ) تطفو على بعض قصائده . ينتمي الشاعر الى اسرة علوية تنتهي الى نسب امير المؤمنين علي ابن ابي طالب ( ع) مما زرع في قلبه صولة الحق ورفض الخنوع ، فطن منذ صباه ، فقد استظهر متن الاجرومية مبكرا وطوى تحت عباءته الصغيرة قطر الندى ، هاما الى حفظ رجز الالفية لابن مالك .
ان هذه الهمة والفطرة العلمية المبكرة حدت به الى دراسة المقدمات والسطوح وست سنوات من البحث الخارج ، امضاها عند الامام الخوئي ( رحمهم الله ) ، وعززها باكمال دراساته العليا فحصل على الماجستيروالدكتوراه ، ولاغرو في ذلك فهو ابن النجف الاشرف الذي يقول عنها المستشرق " هارفر " : ( مازال النجف منطلق الاشعاع الفكري العربي وما زالت كنوزه الادبية والثقافية الانوار في الافكار والخير في النفوس وما زالت مكتباته تعج بانفس الاسفار مما جعلها دائما في مقدمة المكتبات العالمية) . ان فكرا متنورا تمثل بعقلية هذا الرجل هز كيان نظام طالما ارتعد من ثبات المفكرين والمبدعين ، فكان لابد لفكره ان يتوهج والا ظل في غياهب الكتمان ، لذا كان الشاعر ، المهاجر سجين المواقف التي ارتضاها ، والتي فرضتها عليه ظروف الحياة ، كان لابد له من التصدي لهم ، فالذي اخرجه من بلاده التي ظل طوال فترة اغترابه يشتاق اليها ويكتوي بنار الغربة والحنين اليها ، انما اصراره الصدع بمواقفه ليدفع ثمنها غاليا اذ شد الرحال وغادر العراق على اثر الحاح المسؤولين بضرورة الاستجابة لرغباتهم ، المتمثلة ( بمدح الطاغية ) الامر الذي رفضه فلا مكانته ولاشرفه يسمح بذلك ، لذا عملوا على مصادرة كل ما يملك من اراضي في قريته ( ام المؤمنين ) بقضاء سوق الشيوخ في الناصرية مسقط راسه ، وحجز راتبه التقاعدي وارهاب ذويه ، بل ومطاردتهم .
ان الشاعر موضع البحث ، والذي ينتمي الى تلك السلالة الطاهرة لم يكن في شعره مغادرة لقيم ومثل القران ليخرج من خانة الشعراء ( الغواة المتقلبين المداحين والتكسبين الذين يقولون ملا يفعلون ) متبينا تلك الصورة المتوخاة للشاعر الذي وصفه القران (الا الذين امنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا ) ، ووفق المنظور والمعيار يقدم القران تصورا شاملا عن اغتراب الشاعر ومعاناته العجيبة التي لاحل لها الا في الايمان والالتزام والنظر بعين الحق ، فلحظة ارتباط الشاعر باسباب الحياة والمعيشة والعلاقات الاجتماعية وحمل اعباء (قضيته) كلها اسباب مادية ، فحري به ان يخضع لقوانين ومتطلبات عيشها وضروراتها الاجتماعية وحيث ينتمي الى الشعر فانه يحلق في فضاتءات واخيلة ورؤى الشعر بعيدا عن القوانين والعلل للحياة ووفق هذا المنطلق سار الشاعر المنتمي الى تلك السلالة ، وما من ضرورة في ان يؤدي ذلك التناقض بين اسباب الحياة ودواعي الشعر وسياحاته الى الازدواجية ما دام الشاعر متمسكا بيقينه الفكري وهداه الروحي ، الا ان المؤكد ان اغتراب الشاعر هو حقيقة كل شيء بالنهاية .
ان مفهوم الاغتراب ما يزال يعاني من الغموض وراح مفكروا العصر الحديث يبحثون عن اسبابه مجتهدين بالوصول الى تعريف واضح ومحدد ، لان ظاهرة الاغتراب باتت ظاهرة اجتماعية نابعة من صلب العلاقات الانسانية الاقتصادية والسياسية ، وللبحث في هذه الظاهرة يتطلب دراسة الظروف التي تسببت في اغتراب الانسان او شعوره بالغربة عن عالمه الذي يعيشه ، لذا اصبح الاغتراب او فقدان الحرية والضغظ النفسي ومصادرة ابسط حقوق الانسان علامة مميزة لهذا العصر بل واصبحت شعارا له ( كما يذهب شاخت ) ، فما دام الانسان لم يشعر انه في بيته وفي عالم وجوده الحقيقي ، واذا ظل الناس في ضرر هذا العالم الغريب ، فانه لا يستطيع الا ان يتصور العالم والناس يعيشون فيه باعتبارها موضوعات تعكس عالم الضرورة الموضوعي ( كما يرى نيقولاي برديائف ) في كتابه العزلة والمجتمع .
ان جل الدراسات المعاصرة لهذا المفهوم ( تجعل من الاغتراب قلقا نفسيا بسبب ما يعيشه من ظروف متطورة يمر بها المجتمع الانساني نتيجة للحروب والصراعات الطويلة وقد لحق ذلك بمفكري وادباء القرن العشرين الذين باتوا يعانون من الياس والقلق اللذين ليسا سوى معنيين اخرين للاغتراب ) كما يذهب خليل احمد خليل في تهافت الاخلاق والسياسة ، ان الاغتراب لغة يعني : ( النزوح عن الوطن او النفي عن البلد ) ، فقد ورد مفهومه لفظة الاغتراب في القران حيث نجد جذورها في قصة خلق ادم ( ع) في سورة البقرة من خلال تذكرها رموزا ودلالات للوجود الانساني الذي تبين في ثلاثة احوال لهذا الوجود كما يراه د. عبد القادر موسى المحمدي في كتابه " الاغتراب في تراث وصوفية الاسلام ، كذلك يرد الاغتراب بالمعنى الاسلامي : فهو اغتراب عن الحياة الاجتماعية الزائفة الجارفة واغتراب عن النظام الاجتماعي غير العادل ، فالغرباء قاوموا الحياة ومغرياتها بطريقة ايجابية وسلبية فقهروا السلطتين معا ، سلطة الحكام وسلطة النفس بترويضها على الطاعات والمجاهدات واعتزالهم الناس( كما يذهب الى هذا التفسير د. فتح الله خليف في / كتابه الفتوحات المكية ) ، اما فلسفيا فتوجد ملاحظات بشانه عند سقراط نفسه او في الفكر اليوناني ، فالفلسفة اليونانية تزخر بمعاني التمرد الفكري والاغتراب السياسي ، فكانت ميدانا رحبا لرصد تطور مفهوم الاغتراب من خلال طروحات الفلاسفة اليونان امثال سقراط وافلاطون وغيرهم ، فالنظرية الافلاطونية زاخرة بالاغتراب ويستطيع المتامل بنظرية المثل الافلاطونية ان يلمح في ثناياها جذور المفهوم الديني للاغتراب بوصفه انفصالا عن الله بفعل السقوط، وهذا ما يؤكده التراث الادبي القديم .
ان المتتبع للشعر العربي يجده زاخرا بالمحطات الاغترابية التي تبرز بين امراء الشعر امثال : امرؤ القيس ، اذ ان غربيته التي عانى منها بوقوفه على الطلل الذي تضمن رمزا للفناء والبقاء ، فيما ظهر طرفة بن العبد ثائرا على كل من حاول طمس معالم ذاته ومسخها فخرج على قبيلته متمردا ، اما اغتراب عنترة العبسي فهو اغتراب ذاتي ، اذ ان اغترابه النفسي ظهر لحظة تنكر الاب والعم له ، فقاس الامرين من لونه وعبوديته وحبه ، فيما يظهر اغتراب المتنبي من خلال رفضه القوي لكل ما ساد عصره من قيم ومعايير تتنافى وطبيعته ، وقد شبه غربته بغربة الانبياء والمرسلين ، وهكذا فان الاغتراب يختلف من عصر لاخر ومن شاعر لاخر ولكن في النهاية نلمح اثر الوضع الحضاري في تطور الاحساس بالغربة ومفاهيمها ، وقد نتلمس خطا واحدا يخترق كل شعر الاغتراب الذي تناولناه الا وهو الاستسلام للقدر دون صراع ويمنكننا القول باننا وجدنا حسا ماساويا ولكننا لم نجد تجسيدا دراميا ، والشاعر العراقي لم يكن بمناى عن هذه الظاهرة(ظاهرة الاغتراب ) فقد برزت في اشعار المتنبي والجواهري والوائلي وغيرهم ، ولايختلف شاعرنا عنهم في ذلك ، فوجد نفسه في وضع قد فرض عليه بسبب ظروف خارجة عن ارادته ويبقى شعور الشاعر بالغربة يختلف عن أي شخص اخر فهو صاحب اخيلة وتاملات وذو عمق متاني من تجربة صراع مرير يعيشه سواء كان هذا الصراع سياسي ام اجتماعي لذا فالشاعر يفرض عليه الاغتراب فرضا وبالتالي ينشا لديه اضطراب وقلق يظهر كنتاج ادبي قد لانجده عند اغلب المغتربين .
وللاقتراب من شاعرنا مصطفى جمال الدين الذي عاش هذه الظاهرةوتجسدت في شعره ، لابد لنا من المرور بمحطات كثيرة عاشها ، فشكلت احداثها واجيالها ابلغ الاثر على حياته ، بل شكلت رافدا مهما ، فقد تفتقت احاسيسه وتوسعت مداركه عندما عاش بين بيئتين : بيئة الريف ( البيئة البريئة ) لتشكل له ركنا مهما بل خزينا من الدعة والاحاسيس البريئة ، وبيئة المدينة الاكثر تعقيدا ، عندما ارتبط بتيارات فكرية ورؤى ثقافية متنوعة . ان لكثرة تنقله بين تلك البيئات المتباينة ، ثم تنقله بين بلدان مختلفة تلاقح فكري ثري ، تكون من انتقالاته بين ( العراق ودول الخليج وبلاد الشام ) ، كما وان للظروف القمعية غير الانسانية التي مارسها النظام ( انذاك ) من الفترة ( 1977 / 1979 ) والتي شهدت احداثا ساخنة تمخضت عنها حملة من الاعتقالات والاعدامات العشوائية ، ثم ازداد الضغط على الادباء والمفكرين لقسرهم على الانسياق والتصفيق ، مما حدى بالشاعر الى مغادرة الوطن ، لتبدا محطات اغترابه .
لقد تبين من خلال دراسة قصيدة الشاعر الذي بدات بوادر نبوغته الشعرية مبكره منذ عام ( 1947 ) حيث نشر اولى قصائده ( ايها التلميذ )، جملة من الالفاظ التي تعد بمثابة معجم شعري يتفرد بالفاظ الاغتراب مثل ( حنينه الى الوطن ، ذكريات صباه ، مدن حلمية تمثلت باستدعاءاته لامجاد بغداد ، الطيور المهاجرة ، البحر ، البريد والرسائل ) والتي برزت باشعاره في الفترة المحصورة مابين ( 1980 / 1996 ) والبالغة ( ثماني عشرة قصيدة ) ؟ ، كما ولحالة الجزع والياس التي عاشها الشاعر جعلته يتخير ابحر شعرية ذات اوزان طويلة كثيرة المقاطع كي يصب فيها من اشجانه وينفس بها عن حزنه ان شاعرا عملاقا مثل مصطفى جمال الدين ، يعد من الذين صدم بكثرة المحاولات التي ارادت النيل من فكره ظهر وقعها وصداها بل حفرت انفاقا عميقة في خوالج نفسه فاظهرت تلك الانكسارات والالام محطات اغترابية بدأت : لحظة مغادرته ارض وطنه مكرها ليتوق اليه والى احبته ومرابع صباه شوقا وحنينا ، وها هو برغم الامه يمزج حنين وطنه ويمزجه بحنين الحبيبة يقول :
ياأنت ياوطنا حملت ربوعه في غربتي وجمعته بشتاتي
عيناك منبع رافديه ، وملتقى فرعيكم خضر مروجه النضرات
ان الارتحال عن الوطن يولد اغترابا "مكانيا " لا تفتح معه الا الوحشة ويصبح العالم الا ثقب ابرة عندها يجد الشاعر نفسه فيه وحيدا ، حيث تظهر لوعة الاغتراب المكاني في صور شتى ، فمن الحنين والوطن الى شدة ماساته عندما يصور لنا ان كل الحب الذي اعطاه الى وطنه لم يجن منه حتى ماوى بسيط ياويه ، لكنه وجد المنافي اكثر وفاءا ، ويبين ذلك عند رثائه الى من فتح باب بيته بوجه المهاجرين وهو السيد عبد الزهراء الحسيني ، يقول :
نسيتك القلوب دارا وحنت لمنافي ( الفرنج ) تلك النياق
دارنا في ( السويد ) والحقل في ( الدانوب ) و ( الشيخ ) عندنا اسحاق
وكذلك يرسم صورة اخرى دالة ومشيرة لعظم اغترابه المكاني عندما يستحضر صورة تلك الاماكن التي احتضنته في ريعان شبابه وكهولته ( النجف الاشرف ) يقول :
اشرقت بي نورا وغرسي ناعم وزهوت بي ثمرا وعودي اغيد
ووقيتني غرر الشباب فما ألتوت قدم ولا امتدت لناقصة يد
وعبرت بي نهر الكهولة لم يضع ذرعا بساريتي الشراع المجهد
حتى اذا ( الستون ) اثقل جذعها ثلج الشتاء وباء ذاك الموقد
الفيتني وملاب رملك في مدى عيني من زهر الكواكب ابعد
ووجدتني انأى واحمل في دمي من ذكرياتك ما به اتجلد
او قد يتجسد في تذكره الى ليله الدافي الذي كان يجمعه باحبته ورفاقه يقول :
ياليل أين أحبتي ورفاقي ؟ خلت الكؤوس فأين ولى الســـاقي
أحبابنا عودوا فثمة سامر نشوان من خمر السنى المِــهراق
وهكذا يستمر اغتراب الشاعر لياخذ منحى اخر متمثلا بغربة اخرى ولكنها " زمانية " : حيث ظهرت بعد ان عاش مرارة الايام وتلظى بشغف العيش وذل الايام في العراق حري به ان يحن لتلك الايام الغوالي التي كانت فيها بغداد قبلة الدنيا فكيف بالشاعر ، فللتاريخ و وللبطولات سحرا خاصا عند الشعراء اذ يتحقق ذلك من خلال التغني بها كثيرا من طموحه الذي يعجز عن بلوغه في مجتمعه ولحظته الحاضرة ( كما يرا د. عبد القادر القط ) لذا يضطر الشاعر الى ان يجنح بجملته الشاعرية بل ينعطف طواعية لتلك الايام في محاولة لايقاظ ضمائر الغافلين ، وتنبيهم ، الى انهم من بغداد ( حاضرة الدنيا ) ، والتي اشرقت شمسها لتنير ظلامات العالم في يوم من الايام ، يقول :
بغداد ما شتبكت عليك الاعصر الا ذوت ووريق عمرك اخضر
مرت بك الدنيا وصبحك مشمس ودجت عليك ووجه ليلك مقمر
ويبدو ان استدعاءات الشاعر لماضيه مقارنة بحاضره تكون دائما لصالحه اذ ان الاسلام في عهد الرسول ( ص) ايام المسلمين الذين رفضوا الذل والخنوع والتقاعس لذا فهو يستحضر صورة ( بغداد ) الامس عندما كانت تستهوي قلوب الوالهين بها وكيف هي اليوم ، يقول :
ايه بغداد وحسبي انها ليلة ينحط عنها الدهر شانا
كلما فيها بقايا سامر ولد النجم عليه وتفاني
. . . نتملاها وفي اطرافها اثر الخيبة والحرمان بانا
وتارة اخرى يستنهض همم رجاله بما خلفه لهم السلف الصالح من موروث ثقافي لايستهان به ولايمكن ان يرقد جلاده برغيد العيش ، بل عليه ان يعي ردة فعلهم ، يقول :
انا لمن امة تاريخ ثورتها يقول حتى الصخور الصم ثوار
خضنا الوغى وامتلكناها فما ارتعدت ارض فتحنا ولا اقوى لنا جار
وحين دارت بنا الايام دورتها واستعمرتنا طواغيت واشرار
ما نام ظالمنا الا على حسك ولاتنبه الا وهو منهار
وتسوقه الايام ومرارتها الى اغتراب اخر اشد وطاة من سابقاته تمثل في اغترابه " الكوني " التي بدأت بوادره خلال احساسه بالموت لانه اكثر وقعا في حياته ، فهو بات علامة بارزة في قصيدته ـ بعد تنبأ به قبل اربعين عاما ـ وكانه يستنبا لحظات خروجه من الحياة كمصير لابد منه ، بل كانه يتحقق في غربته يقول :
ولرب مغتربين ساوى بينهم داء ، والبهم عليه دواء
وتتعمق فكرة الموت لدى الشاعر حيث يتصل بفكرة انطفاء جذوة الحياة خاصة بعد المصير المحزن مصير الموت والفناء الذي لابد ان يصير اليه فيصبح اثرا بعد عين ، وكانه لم يكن شيئا مذكورا ، ( كما يذهب الى ذلك د. شوقي ضيف ) والشاعر تناول في هذا غرضا بارزا في الشعر العربي الا وهو غرض الرثاء ، الذي يصفه ابن رشيق في في عمدته : ( هو الوسيلة ان يكون ظاهر التفجع بين الحسرة مخلوطا بالتلهف والاسف ) فتبين انه شاعر صادق بمشاعره واحاسيسه تجاه الموت كقدر محتوم ، فالشاعر يرثي نفسه عند شعوره بحتمية الموت ، كما يقول رب العزة " جل شانه " : ( كل نفس ذائقة الموت ) ال عمران / 185 فهو النهاية الطبيعية التي لامناص منها ، ويؤكد المعنى ذاته الامام الحسين ( ع) : ( خط الموت على ابن ادم مخط القلادة على جيد الفتاة ) ، ويبدو ان الشاعر كان متيقنا بانه راحل لامحالة تاركا كل شيء ، ليسجل امانيه من بعيد فيطلب ان يوارى جثمانه في ثرى النجف الاشرف الذي احتضنه في ريعان شبابه وفي كهولته يقول :
يارملة النجف الشريف تذكري ظما العيون ففي يديك المورد
حنت فكان لها بذكرك مسرح وشكت ، فكان لها برملك اثمد
وتستمر اغترابات الشاعر ليصيرها اخيرا سؤالا يلج عليه ، هل من نهاية الى تعبه الذي ارهقه ؟ يقول :
طار فلا ريشه ولا الزغب يدرك ايان ينتهي التعب
وتستمر معاناته لتتحول الى ذلك الصدام الحاصل بين الذات المغتربة والواقع ينجم عنه احيانا رد فعل معاكس خارج افق التوقع ، فلم يعد الشاعر المغترب يبحث عن طريقة لاحتواء التوتر الناجم من هذا الصدام بل تمرد على تلك الانفعالات متجها الى قهر اغترابـــه ، الذي اعتصره فاهتصر روحه سنين طوال ، ووفق هذا المسار اتجه الشاعر يشحذ الهمة من ذاته فيلهبها جلدا لقهر اغترابه ، بل والتمرد على لحظات الياس والخضوع الذي انتابه ، متخذا طرقا عدة في ثورته هذه ، وكلها تمثل قهرا لاغترابه ، فكان ان انشا مدنا حلمية " يوتوبيات " تلك التي يصنعها من وحي خياله ، كتعبير عن حالة السمو عن الواقع ، كما يظهر ذلك من خلال استدعادته للزمن المفقود ، كاستدعاءا ته الى ذلك الماضي المشرق ، ماضي الامة العربية ، وماهي الا محاولات لاستنهاض الهمم وايقاظها عن طريق التذكير المتكرر بماضيها ، وما ذلك الا وجها لقهر اغترابه يقول :
عودي لامسك ينطلق منك الغد ما شع في دمك النبي محمد
ياأمة يبس الزمان وعودها ريان من نبع النبوة املد
وازاء كل هذا يتحسس الشاعر اسباب اغترابه ويعيش في دائرتها وما دامت الحال هكذا ، فلا بد ان ينتهج الانفعال نهجا مساويا لها في القوة ومعاكسا لها في الاتجاه . والواقع المتحسس هو المسؤول عن تحديد وجهة البينة الانفعالية وتحويلها الى بينية تعبيرية على وفق رؤية الشاعر وادواته الشعرية ، حيث يمتزج الصفاء والالوهية لاكساب ايقاعه توافقا مع واقع متوافق ، يقول :
يا لهول الذكرى!! انحن الصدى القا هر ، ام الصدى المقهور ؟ !
يا لامجادنا : انحن بقايا ال سيف منها ، ام غمده المكسور
يا لاحلامنا الثكالى : اهكذا الكالح الوجه فجرنا الموعود
او ياخذ هروبهم صورة اخرى متمثلة بالفرار الى الطفولة او تذكر ايام الاعياد وايكال شوقه الى تلك الاوراق الصماء التي يحملها شوقه وحنينه الذي يشير الى عظم غربته ، يقول :
العيد اقبل اذ رسا لتك الحبيبة في يديا
تشكو الي سطورها وحروفها تدمى عليا
و قد يشده الحنين الى الوقوف على الطلل حينال اخر ، وقد يستدعي الشاعر تلك الالام المريرة ليشحذ من استذكارها هموم شعبه حيث يبدأ باستنهاض همومه التي هي هموم شعبه والتي مكنته من صب اشجانه فيها وتنفس فيها عن حزنه وجزعه ، وما قذفته به تلك الظروف القاهرة التي حملها على كاهله وهي ليست همومه وحده بل هموم شعب وامة بكاملها يقول :
وتساوى بسمع صفصافة الوادي غناء الشادي بها والنعيب
وهي صورة رامزة تشير الى لتلك الاوضاع الظالمة التي تقيد ارادة الشعب وكدلالة لايجاب والسلب اللذان تساويا في تلك الظروف ، يقول :
ستقود الظلال حيث يشب ال رعب من حولهم وتصدى الخطوب
حيث يشير الى تساوي الماساة والظروف القاهرة في كل البلاد العربية .
او يتبنى شكلا اخر لقهر اغترابه تمثل في هروبه الى عالم الخيال سارحا بتلك الامنيات التي تمثلت فى معانقتها الى تلك الطبيعة احيانا لطهرها عن خبائث الانسان فيشير الى تلك الطيور المعانقة للسماء دونما قيد وكيف هي ذاهبة الى اعشاشها ، يقول :
عودي كما كنت عش قصائد تأوي اليك مهيضة الكلمات
قد كنت تحتضينها مذعورة وتدللين نفورها بأناة
ويظهر ان الشاعر كان يجد عزائه في الطيور فهي التي تسمع انينه وبلواه فيلجأ اليها كمتنفس لكسر اغترابه يقول :
اسائل عن طائري وكره وابحث عنه هنال او هنا
وهكذا يبقى لهيب وجده واحتراقاته لاتخبو نيرانها ، فيناجي البحر في محاولة لقذف همومه وتصوير صراعه ، يقول :
لست ادري : أ أ صرع الموج أم أطـ ــفو صريعا ممزق القلب مجهد
وبعد كل ذلك يضطر الى ان ينتقل الى عالم الاحلام فلعله اجمل من عالم الواقع لان الشاعر يحقق فيه كل ما يتمناه ، كمحاولة للجوء اليه من واقع تعيس عاشه يقول :
حلم افر الى خلوب ظلاله من لذع هذا الجمر في يقظاتي
وتعلة العشاق ماهو منعش ميت الرجاء . . وليس ما هو ات
وبالرغم من كل ما حصده في حياته من لوعة وغربة والام وقهر ظلت روحه خضرة نضرة تعج بالحياة ، فها هو يعدد ماثر العيد وتذكرهداياه التي تحملها انامل الاطفال يقول :
لعبا . . . واثوابا . . . وانغا ما تضج بها الشفاه
ويبقى مصطفى جمال الدين غائبا عنا جسدا لكنه روحا وفكرا ونضالا معنا فها هي اشعاره القا ومنارا تقتدي به الاجيال وافكاره نوارس بيضاء تحلق في اروقة العلم ومنابر العقلاء ، وسيظل العراق نسغا صاعدا ينبض بالدماء الزكية النتي تبني صرح العراق فطوبى للذين ساروا على ركبك سيدي .