البرلمان السياسي بدء من سومر -أباذر راهي سعدون الزيدي- كربلاء

Mon, 19 Mar 2012 الساعة : 12:09

أن نمو الأنسان الأجتماعي والروحي لهو في الغالب بطيئ منحرب ويصعب تتبعه وتقصيه وقد تكون الشجرة المتكاملة النمو منفصلة بعيده عن بذرتها الأصلية بألوف الأميال والسنين خذ مثلاً أسلوب الحياة المعروف بأسم ( الديمقراطية ) ومؤسستها أو نظامها الأساسي وهو المجلس الأساسي ففي ظاهر الحال يبدو هذا النظام وكأنه قاصر على حضارتنا أو أحتكار لها وأنه ثمرة من ثمرات القرون الحديثة أذ منذ الذي يتصور أن برلمانات سياسي كان في الوجود قبل ألوف كثيرة من السنين وفي جهات من العالم ليست لها صله بالمؤسسات الديمقراطية إلا فيما ندر ؟ ولكن الأثري الصبور ينقب ويتعمق في الحفر ويوسع فيه ولا يعلم مطلقاً ماذا سيجده ويعثر عليه وبفضل جهود فرقة ( الرفش والمعول ) أصبح في وسعنا الأن أن نقرأ سجل مجلس سياسي أنعقد قبل نحو خمسة ألاف عام في الشرق الأدنى قبل أي مكان أخر .
أجل أن أول ( برلمان ) سياسي معروف في تاريخ الأنسان المدون قد ألتأم في جلسة خطيرة في حدود 3000 ق.م ولقد كان مثل (( برلمان )) مؤلفاً من مجلسين : من مجلس الأعيان أي مجلس الشيوخ ومن مجلس العموم ( النواب ) المؤلف في المواطنين الذكور القادرين على حمل السلاح وكان ( برلمان حرب ) ، دعى للأنعقاد ليتخذ قراراً في أمر خطير يخص الحرب والسلم . لقد كان عليه أن يختار بين (( السلم بأي ثمن كان ، وبين الحرب مع الأستقلال )) فأما مجلس الأعيان الذي كان مؤلفاً من الشيوخ المحافظين أعلن قراره أنه بجانب السلم مهما كان الثمن . ولكن الملك أعترض على هذا القرار ، ثم عرض الأمر بعد ذلك على مجلس العموم فأعلن هذا المجلس الحرب من أجل الحرية وصادق الملك على قرارهم .
ففي أي جزء من العالم أنعقد أول (( برلمان )) معروف لدى الأنسان ؟ لم يكن موضع أنعقاده في الغرب ، في قارة أوربا كما قد تظن ( فأن المجالس السياسية في بلاد الأغريق الديمقراطية وفي رومة الجمهورية جاءت بعد ذلك بزمن طويل )) بل أن مما يثير الغرابة والدهشة أن يكون ذلك البرلمان العتيق قد عقد جلساته في ذلك الجزء من أسيا الذي أصطلح الناس على تسميته بأسم الشرق الأدنى وهو جزء من العالم كان يضن عنه أن المجالس السياسية لم تكن معروفه فيه .
أجل أنه في تلك البلاد المعروفة قديماً بأسم (( سومر )) الواقعة شمال خليج فارس بين نهري دجلة والفرات تم أنعقاد أقدم مجلس سياسي معروف فمتى أجتمع هذا البرلمان ؟ أنه أجتمع في الألف الثالث ق.م فلقد كان يقطن (( بلاد سومر )) وهي تطابق القسم الجنوبي من العراق الحديث شعب أنشأ ونمى ما يرجح أن تكون أرقى حضارة في العالم العروف آنذاك .
كانت بلاد سومر قبل نحو أربعة الى خمسة ألاف عام تفخر وتتباهى بمدن كبيرة عديدة تتركز حول مبان عامة كبيرة وذات شهرة ذائعة . وكان تجارها العاملون النشطون يزاولون التجارة الواسعة في البر والبحر مع الأقطار المتجاورة . وأستطاع مفكروها والمشتغلون بالعلوم العقلية أن يخلقوا وينمو مجموعة من الأفكار والآراء الدينية تقبلها البشر ككتاب مقدس ليس في بلاد ( سومر ) فحسب وأنما في معظم أجزاء الشرق الأدنى وتغنى شعرائها الموهوبون بهيام وحرارة بأمجاد آلهتها وأبطالها وملوكها أما خير ما فعله السومريون فهو أنهم أنشئوا وطوروا بالتدريج طريقة للكتابة بقلم القصب وعلى الطين مكنت الأنسان لاْول مرة في التاريخ من أن يدون ويخلد أعماله وأفكاره وأماله ورغباته وأحكامه ومعتقداته . وعلى هذا فليس من المستغرب أذا كان السومريون قد أحرزوا في حقل السياسية أيضاً تقدماً مهماً وأنهم بوجه خاص ساروا في الخطوات الأولى نحو الحكومة الديمقراطية ، بالهيمنة على سلطات الملوك والأعتراف بحقوق المجالس السياسية .
أما الأوضاع السياسية التي أستوجبت أنعقاد أقدم ( برلمان ) في التاريخ مدونة أخباره فيمكن وصفها على الوجه الآتي : كانت بلاد سومر في غضون الألف الثالث ق.م مثل بلاد الأغريق في زمن متأخرجداًمؤلفاًمن عدد من دول المدن المتنافسة المتنازعة فيما بينها على كسب السلطة والسيطرة على جميع البلاد وكانت دولة ( كيش ) من أهم هذه الدويلات وهي المدينة التي تسلمت الملوكية كما جاء في الأساطير السومرية من السماء بعد الطوفان فوراً ولكن كان هناك من هذه الدويلات ( دولة مدينة ) أخرى هي دولة آرك الواقعة بمسافة بعيدة الى الجنوب من كيش وكانت تتعاظم في السلطان والنفوذ السياسي حتى بلغ بها الحال أن أخذت تهدد سلطان دولة ( كيش ) في بلاد سومر فأدرك ملك كيش عندئذ مبلغ الخطر وهدد أهل ( آرك ) بشن الحرب عليهم أذا أبوا الأعتراف به سيداً عليهم وفي هذه الأزمة الصعبة ألتأم مجلسا ( آرك ) أي مجلس الشيوخ ومجلس الذكور القادرين على حمل السلاح ليبتا في أي السبيلين يختاران : الخضوع والأذعان الى سلطان كيش والتمتع بالسلم أو أشهار السلاح والحرب من أجل المحافظة على الأستقلال .
هذان المجلسان دفعا بالباحث ثوركيلد جاكوبسون إلى فرض نظرية الشهيرة المسماة بـ (الديمقراطية البدائية Primitive democracy) وتوصل جاكوبسون إلى استنتاجات مفادها أن القرارات في دولة المدينة كانت تنفذ بعد أن يجتمع المجلسان ، وغالباً ما كان المجلس العام يدعو إلى الانعقاد في حالة حدوث أزمة أو ظهور ما يهدد المجتمع . فكان المجلس يخدم المجتمع من خلال الاستفادة من التجارب والابداعات المفيدة التي مرت بها المدينة من اجل تطويرها والعمل على ازدهارها فضلاً عن انها وسيلة قيادية لتدير مختلف الاعمال التي تخص المدينة وسكانها .
كان عمل مجالس المدن بمثابة هيئة تشريعية تصدر القوانين وتفرض عقوبة الموت أو النفي بحق المجرمين وتعمل على كبح جماح الخارجين عن القانون والعمل على رفع مستوى المدينة وتغيير أوضاعها الداخلية للأفضل . وكان من بين المهام أيضاً اختيار المجلس رئيساً له (إداري) يقوم بخدمة المدينة وسكانها ويكون جزء من نظام الحكم المتمثل بالمجلس العام . ولكن حتى هذا الوقت (فكرة حكم المجلس) كان اختيار الشخص الإداري يتم في أطار الممارسات الفعلية للديمقراطية البدائية ، فضلاً عن أن هذا الشخص المكلف يبقى ضمن صلاحيات محدوده تنفذ مع نفاذ مدة حكمه وإدارته للمدينة وحسب ما يراه المجلس لاسيما مجلس الشيوخ .
رويت قصة النزاع بين آرك وبين كيش بقصيدة سومرية من نوع شعر الملاحم وكانت شخصيتها أو أبطالها البارزون ( أگا ) آخر حاكم في سلالة ( كيش الأولى ) و( گلگامش ) ملك آرك وسيد كلاب وتبدأ تلك القصيدة بذكر وصول الرسل الذين أرسلهم ( أگا ) الى مدينة ( آرك ) وهم يحملون أنذاراً نهائياً الى ملكها (گلگامش ) ولكن قبل أن يجيب گلگامش ذلك الوفد نراه يقصد مجلس ( شيوخ مدينته المنعقد ) ويحث أعضاءه على ألا يخضعوا لمطالب كيش وأن يشهروا السلاح ويحاربوا من أجل النصر بيد أن هؤلاء ( الأعيان ) كانوا على رأي يختلف عما أرتآه گلگامش أذ أختاروا الأذعان والخضوع لمدينة ( كيش ) مفضلين التمتع بالسلم على الحرب . لقد أغاض قرارهم ذاك گلگامش وأغضبه فقصد ( مجلس الرجال المحاربين ) من أهل مدينته وكرر عليهم طلبه فقرر أعضاء هذا المجلس الحرب دون الخضوع لمدينة كيش فسر لذلك گلگامش أذ كان واثقاً مطمئناً من نتيجة الصراع المرتقب ثم حدث كما جاء في قول ناظم القصيدة بعد زمن وجيز لم يطل أكثر من خمسة أيام ولم يطل عشرة أيام أن جاء ( أگا ) وحاصر مدينة ( آرك ) فأسقط في أيدي أهل آرك وهل بهم الهلع أن معنى باقي القصيدة غير واضح تمام الوضوح ولكن الذي يبدو أن گلگامش نجح في مصالحة ( أگا ) وأحراز الصداقة معه ورفع الحصار عن مدينته بدون قتال وها هو ذا نص كلام الشاعر السومري القديم مما يتعلق ببرلمان مدينة آرك أن الترجمة ترجمة حرفية مطابق للأصل ألا أنه حذف منها عدد من السطور الغامضة في معناه .
أن شاعرنا هذا قد أوجز في الخبر فهو يقتصر في روايته على ذكر برلمان مينة آرك ومجلسيه وأغفل أن يخبرنا عن تفصيلات أخرى فكم يسرنا لو عرفنا مثلاً كم كان عدد أعضاء كل من المجلسين وكيف كان ينتخب أعضاء مجلس العموم ( النواب ) وأعضاء مجلس الأعيان ( الشيوخ ) وهل كان في وسع أي عضو أن يدلي برأيه فيستمع أليه ؟ ثم كيف كان يتم الحصول على نتيجة رأي المجلس النهائي ؟ وهل كانوا يتبعون أسلوباً في التصويت يضاهي الأسلوب المتبع في عصرنا الراهن ومن المرجح جداً أنه كان هناك ( رئيس ) للمجلس يشرف على النقاش ويخاطب الملك بالنيابة عن المجلس ثم أننا مع لغة الشاعر العالية المنمقة نستطيع أن أن نستشف من وراء السطور وجود قدر كبير من الألاعيب السياسية والتكتلات السياسية بين أعضاء المجلسين ويبدو أن دولة مدينة آرك قد أنقسمت على نفسها الى حزبين متعارضين حزب الحرب وحزب السلم كما يحتمل أن أكثر من شخص واحد كانوا يحرضون أعضاء المجلس من وراء الستار قبل أن يدلي زعماء كل من المجلسين بقراراتهم النهائية والتي أصدروها بالأجماع على ما يظهر ولكننا لم نستطيع على الأرجح أن نقف على أي خبر أو أثر لمثل تلك الخصومات المماحكات والتسويات السياسية فليس هناك ألا أضعف الأحتمالات في أننا سنشعر يوماً ما على أي سجلات مدونة من زمن ( أگا ) و ( گلگامش ) ذلك لاْن الكتابة في زمنها أما أنها لم تكن معروفة مطلقاً أو أنها كانت في أولى أطوار أختراعها أي أنها كانت في مرحلتها الصورية أما عن هذه القصيدة ان شعر الملاحم فيجدر بنا أن نبين أنها نقشت في ألواح الطين بعد قرون عديدة مضت على زمن وقوع الحوادث التي ترويها ولعل ذلك كان بعد ألف عام من تاريخ أنعقاد ( برلمان ) آرك وفضه .
يوجد الأن أحد عشر لوحاً وكسرة من لوح دونت فيها هذه القصيدة التي روت لنا خبر ذلك ( المجلس السياسي ) وأن أربع قطع من هذه الألواح الأحد عشر قد أستنسخت ونشرت قبل نحو أربعين عاماً .

المصادر :
1- Jacobsen ; Th :”Primitive Democracy in Ancient Mesopotamia” TNES.21943 , P.P 159-172 .
2- Jacobsen ; Th :"Early political Development in Mesopotamia” in Toward the Image of Tammuz . Cambridge . 1970 . P.138 .
3)محمد صالح الزيباري : النظام الملكي ،بغداد ، 2008 . ص 16 .
4) عبد الرضا الطعان : الفكر السياسي ، بغداد ، 2005 ، ص228 .
5) صموئيل نوح كريمر ، ترجمة طه باقر ، من ألواح سومر ، بغداد ، 1956 ، ص81 .

أباذر راهي سعدون الزيدي
باحث في الدراسات السومرية
دائرة آثار كربلاء المقدسة
[email protected]
 

 

 

Share |