الجواهري والمطرب مسعودة العامارتلي -نعيم عبد مهلهل

Mon, 30 May 2011 الساعة : 23:13

في مزج إحساس المدينة بشخصية المطرب وصوته نحصل على طبيعة متجانسة وتوفيقية بين الإنسان وبيئته ، وربما ما فعله مسعود من تغيير جنسه هو تعامل ودي مع الطبيعة لهذا لم يعانِ من المتغير في مجتمع من الصعب كبح جماحه وتعديل نظرته وربما الفضل في ذلك يعود إلى جمالية صوت المطرب وسحره وتأثيره على سامعيه لينسى الناس تبعية ما فعله ولينطلق في جسد المدينة ومسمعها صوتا يمتلك الحظوة والقيمة الطربية وليصبح يومه موعدا لمجالس لأكثر من وجيه وشيخ عشيرة وأريكة مقهى.
هذا المؤثر المهيمن على سطوة التقاليد لم يقف عند حدود ومساحة المدينة ، فما يزرعه الجنوب تحصده العواصم دائما ، فكان أن ذهب مسعود إلى بغداد وليمثل هناك ظاهرة حسية ووجدانية في نقل إحساس مدينة حمل اسمها كلقب فكان النشوة في الصوت يمازج النشوة في سماع الأشم ( العمارتلي ) ، لتكون المدينة أول من تنتمي إلى اللقب الفني المسموع ومعه المطرب عبد الأمير الطوريجاوي الذي ينتمي إلى بلدة طويريج قبل أن يشاع أسماء المدن الملتصقة في مطربيها كما ( الدراجي ، والبغدادي والبصري والناصري والحلي )ً.
لقد كان يقولون مهما فعلت العواصم بغربائها فإن أعناقهم مشرئبات إلى بيت الولادة ،ولهذا لم تؤثر العاصمة في مسعود ولم تعطه الشهرة غرور التبجح والبحث عن سكن حضاري في واحد من أحيائها ،وربما ظل الشعور بازدواجية الجنس ملازما له وظلت الكثير من الإشاعات والتغميزات تلاحق نظرات سامعيه حتى وهم يصفقون في نشوة صوته الذي يصنع الموال المحمداوي بحرفة ماهرة وأخاذة ،واعتقد إن مسعود كان يعي هذا جيدا فأراد إثبات شيئا من فتنة الصوت والرجولة فعمد راجعا إلى مدينته الكحلاء وهناك تزوج من واحدة ربما كانت مسحورة في صوته لتحدث تداعيات كثيرة ظلت مستورة ولم يكشف عنها ،ولكن التاريخ دائما يلصق في الكبار النهاية المأساوية ، فينتهي هذا الصوت الخالد بصورتين من النهاية واحدة تقول إن مسعود مات مسموما على يد زوجته بعد أن كشف أمره وشاع ارتداؤه تلك الازدواجية في الجنس وكأن الزوجة حملت وزر هذا الأمر الذي قد يعتبر عارا في بعض وجهات النظر الاجتماعية فدست له السم ،ويقال انه مات متأثرا في مرض التدرن الرئوي وذلك عام 1944.
ومهما يكن ففي مجتمع عشائري مثل الكحلاء لم يكن توقع هكذا ردود فعل مفاجئة حتى مع مبدعٍ اشتهر على صعيد العراق كله ،لان الوضع الجسماني للمطرب ، وضع حساس وحرج وليمكن أن يتناسى حتى لو كان صاحبه ملكاً.غير أن مسعود العمارتلي أو ( مسعودة ) شكلت ظاهرة فنية متميزة في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي ،وربما يكون هو واحدا من الريادات الغناء العراقي يوم تأسيس الإذاعة العراقية ( محمد القبنجي ،داخل حسن ، حضيري أبو عزيز ،مسعود العمارتلي).
سجلت تلك الدراما الحياتية والوجدانية تأثرا في الضمير الحي لدى الكثير من أبناء المدينة وإن أحداً لم يفكر وقتها ليفسر ويغور في السيرة الذاتية والفنية لهذا المطرب ، لكن مقالة للروائي العراقي فيصل عبد الحسن وهو يتابع مختارات شعرية للشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري والتي صدرت ضمن مشروع اليونسكو ( كتاب في جريدة ) قد تنبهت إلى هذا الصدى الذي تركه المطرب في الوجدان الجمعي لدى الطبقة المثقفة والمتحضرة في ذلك الوقت عندما أشار الكاتب فيصل عبد الحسن الى ظنـّه أن الجواهري كان يقصد تغزلا المطربة مسعود العمارتلي في واحدة من قصائده قول الروائي فيصل عبد الحسن (( ومن قصائد المختارات - عبدة - التي وضع فيها أجمل عبارات الغزل بشخص مطربة سوداء ، نضيدة الأسنان - معسولة الشنب- وربما هي مطربة الجنوب العراقي المعروفة بأسم رجل هو - مسعود العمارتلي - ))
ومن بعض أبيات القصيدة قول الجواهري :
أعبدة يا أبنة الطرب ويا معسولة الشنب
ويا معزولة النصفي ن مبتعد ، ومقترب
كرجع الحائك النول بنسج المطرف القشب
ويا مهزوزة الخطوا ت لم تخطئ ولم تصب....
لم يكن( مسعوده) هو النتاج الخالد لهذه المدينة والذين جعلوا من العمارة اسما ملتصقا مع الفنان أينما حل وارتحل بل أن العمارة ظلت ملاصقة للكثير من الحناجر التي شاع الولع بأدائها في زمن انتشار الكاسيت وظاهرة التسجيلات التي عاشت عصرها الذهبي في زمن ظهور سلمان المنكوب وعبادي العماري وجلوب ونسيم عودة وغيرهم ، وحتما هؤلاء هم أحفاد بررة لذلك الصوت الخالد الذي أشاع مسحة الحزن والعشق والحنين واللوعة والتي مثلها جيدا صوت المطرب سلمان المنكوب ، وكانت إذاعة القوات المسلحة في بداية سبعينات القرن الماضي تذيع أغنيات هذا المطرب لأكثر من مرة في اليوم فلقد كان له التأثير الساحر والإيقاع الذي يبعد( هوم سك) العزلة والخوف من شظايا الحرب عن الكثير من أبناء الجنوب الذين جندتهم الدولة في حرب الشمال المسماة ( حرب برزان )والتي التصقت فيها تلك الهوسة الشهيرة لواحدة من الأمهات العماريات اللائي ثكلن بأبنائهن في تلك الحرب بقولها يوم جلب النعش إليها قادما من ربايا الثلج الباردة الى دفء القصب والماء في العمارة قولها ( طركاعه اللفت برزان ..بيـّس بأهل العمارة ) والطركاعة تعني في لهجة الجنوب المصيبة والصاعقة ..وكلمت بيـّس تعني أوغل ، والمعنى العام هو ( مصيبة وصاعقة ضربت الملا مصطفى البرزاني لأنه أوغل قتلاً بأهل العمارة من الجنود ).
يمثل الغناء بعض هوى الروح ( العمارتلية ) وكان الجنود يأتون بأطياف مدينتهم وظلال النخل وآماسي كورنيش دجلة من خلال طور المحمداوي الذي يجلب لهم كل صدى يتمنونه بدءا من الأمهات وانتهاء بحبيبات عيونهن أوسع من عيون جياد براري الشيب والطيب وجلات وكميت وعلي الشرقي والغربي ، وأرق من ريش البط الملون بتفاصيل مشاتي الأهوار الدافئة ،البط الصيني والاسكندينافي والكوري،وذكر بعض الجنود إن بطا كنديا كان يزور شتاء العمارة.
بين البط وأسطورة مسعود والجواهري وهو يتغزل بالصوت في عذوبته بالرغم من إشكالية الانتماء الجسدي والعضوي لصاحبه .أصنع وجودا مفترضا لمدينة تصنع أثرها من دلال الأزمنة وتواريخ الجوع والعشق والصلوات المندائية لأولئك الروحانيين الذين كانوا يجوبون القرى والمدن ليكشفوا طالع الحلم وغسل الاجفان الحيرى بضوء النجوم........!

صحيفة الناس العراقية العدد 28 الأحد في 29 مايس 2

Share |