فوبيا النص في رواية العطر لزوسكيند-إبراهيم سبتي
Sat, 3 Mar 2012 الساعة : 15:53

في رواية العطر " قصة قاتل " للألماني باتريك زوسكيند يحيلنا تناثر العطور على صفحاتها الى التوجس خيفة من اي عطر ساحر نشمه . فقد يكون مصنوعا بطريقة غرائبية ربما تكون مرعبة وتعطي نتائج مخيفة توصل الى القتل . هذا ما جعلنا زوسكيند نعتقده بعد كل قراءة لروايته التي نكتشف بعدها أشياء جديدة ، أشياء فيها دهشة وعجائبية وتساؤل كبير مفاده كيف صنعت الرواية ؟ فكلما اقرأ ملحمة زوسكيند ، أجدني متفرسا للوجوه واشم عطرها وهي تسير وديعة في الشوارع . انها نظرية التأثر والتأثير حتما فاعيد النظر بكثير من الاعمال الخالدة التي سجلها تاريخ الرواية واحسد زوسكيند على فلتته هذه وهي الرواية الثانية في مسيرته الروائية المتميزة . كانت عوالم زوسكيند في العطر ، عوالم غريبة ، مذهلة ، تحتاج منك الى التأمل كثيرا و طويلا حول الأفكار التي لم يتناولها كاتب ولم يصل حدودها عقل روائي . أحداث تتصاعد لتكتب قصة شخص يحمل عُقدا من الناس ، يكرههم ، يحاول ان لا يختلط بهم لأنهم يحملون روائح منذ صغرهم ، روائح الطفولة او غيرها ! وهو بلا رائحة !! انه الطفل الذي رفضته النساء لإرضاعه بعد الحكم على أمه بالموت لأنها خرقت القانون وتركت ابنها الوليد حديثا مرميا تحت طاولة تنظيف السمك يختلط بالقاذورات ليقذف في البحر مع تلك الفضلات ، ولانها كررت الحالة اربع مرات من قبل ! ( الألم قد امات عندها اية حساسية تجاه الانطباعات الخارجية للوجود ، كل ما كانت تبغيه هو ان يتوقف الالم وان تخلص من عملية الولادة بأسرع ما يمكن . كانت هذه ولادتها الخامسة . وكل ولاداتها السابقة كانت قد انجزتها هنا امام عربة السمك . وفي الحالات جميعا كان المواليد اما امواتا او نصف اموات . فاللحم المدمى الذي كان يخرج من رحمها لم يكن ليختلف كثيرا عن احشاء السمك المكومة أمامها ) الرواية ص 9 . ماتت الام اعداما تحت المقصلة على افعالها وظل الطفل يتنقل بين احضان ثلاث مرضاعات رفضن ارضاعه رغم مغريات تيرير راعي الدير بحجة جشعه في الرضاعة . الا ان رابعة قبلت بالمهمة لقاء مبلغا يتكفله الدير ( مدام غايار ) الا انها استغربت امرا اثارها .. انه طفل خال من اية رائحة .. يا للغرابة !! الطفل الخالي من الرائحة لا يشبه الاطفال وبالتالي لا يشبه كل الناس الآخرين مع انها خلت تماما من اية علامات للرحمة او لقوانين الحياة التي تتطلب شيئا من الرحمة والانسانية .. انها محنة الحياة التي المت به وهو صغير . يكبر الطفل " جان باتيست غروني " فتتحول العقدة الى موهبة ، موهبة شم الروائح وتمييزها ليعمل في دكاكين العطارين بعد رحلة طويلة ومتعبة بدأها من الملجأ ودكاكين سلخ الجلود حتى العمل في العطارة متخصصا في صنع العطور النادرة فازدادوا تعلقا به وارادوا احتكاره لانهم اثروا على حساب موهبته في كشف وخلط العطور ، الشاب المنطوي على نفسه والمنعزل عن الناس الواثق من نفسه حد الاعجاب، يلج الى عالم العطور بموهبته الفذة وحاسة شم نادرة . تدور إحداث الرواية في مارسيليا الفرنسية في القرن الثامن عشر ، انها مكان فوضي عارمة ، روائح كريهة تنبعث من دهاليزها وبيوتها ودكاكينها ورصيف السمك المختلط بالقاذورات المنتشرة . انه موت مؤكد من روائح علقت في كل مكان فكانت كريهة لحد القرف . في هذه الأجواء خرج الطفل من تحت دكة السمك مولودا جديدا ، يسبح بأوساخه بعد ان رمته أمه دون رحمة وهي طريقة تعودت عليها للتخلص من أطفالها الأربعة مع فضلات السمك تحت الطاولة . ولكن الامر هذه المرة اختلف تماما حين شوهدت بالجرم المشهود ونالت عقابها إعداما تحت المقصلة بعد محاكمتها .
اتخذت الرواية من عنصر التشويق أساسا لقراءتها ومن الاتجاه البوليسي خطا ملازما لإحداثها ..الشاب النحيل ، يرتكب جرائم القتل ليكمل موهبته في صناعة العطور .. يختار ضحاياه بعناية بالغة ويجري عليهن اسلوبه الغريب في مسح رائحة اجسادهن او شعورهن بعد قتلهن ليصنع عطرا ساحرا اثيرا ( انه قاتل الفتيات الاربع والعشرين ) ص 257.. غرنوي صانع العطور القاتل المتدرج مهنيا من صانع عطارة عند ( بالديني ) المستفيد الاول من مهارة الفتى ليجمع ثروة وهبتها له حاسة الشم القوية للفتى صانع العطور من الخلطات المنوعة التي لا تطرأ على بال احد .. انه معجزة بشرية بأنف كلب متدرب ، بل انه يفوق حاسة شم الكلب كليا . من هنا يكون زوسكيند قد حقق تميزا مشهودا في الموضوعة التي شكلت غرابة في التناول وجرأة في الأسلوب .. انه رمز الاثارة التي يبحث عنها القاريء كلما سمع بصدور كتاب جديد . لكن الكتب ليست متشابهة في المتعة والفائدة ، فثمة كتب عبارة عن مجموعة ورق متراصة لا فائدة منها او انها لا تعطي فائدة ما . انه كتاب الشد والإثارة وفق مبدأ القراءة المعاصرة وخاصة ان عرفت نواياها الصادقة ، فالقراءة صعبة ان لم يتحكم المتلقي بخطوطها وتسلسل مشاهد الرواية المتلاحقة . عمل صعب وفكرة اختلطت بين الواقع المتمثل بحقيقة القرن الثامن عشر في فرنسا وبين الخيال الروائي الفذ الموصل الى تصور الفوبيا الملازمة للنص منذ السطور الاولى ، فوبيا ما سيحدث لاحقا . يُدان القاتل بالجرائم ويقاد الى ساحة الاعدام لكن المفاجاة هي تعاطف الناس المحتفلين بالقصاص من قاتل نساء غراس الشهير ، مع غرنوي الواقف كالتمثال وسط الساحة (وحالة العشرة الاف رجل وامراة وطفل وشيخ المجتمعين هناك ، لم تكن مختلفة : كان مثلهم كمثل صبية صغيرة خاضعة لسحر حبيبها . وغمرهم شعور طاغ بالود والحنان ) ص 268 ليخلوا سبيله . وفي الخامس والعشرين من حزيران / يونيو عام 1797 دخل باريس من شارع سان جاك في السادسة صباحا ص 385 لينتهي غرنوي نهاية فاجعة حين يختفي عن وجه الارض تمزيقا من قبل جماعة مدججين بالخناجر والفؤوس والسواطير ليلتهموا ثلاثين قطعة من جسده بجشع ممتع المليء بالعطر الغريب الساحر . فينتهي غرنوي اسطورة العطر الساحر ونبقى مشدودين للاثارة المدهشة التي صنعها الروائي الالماني باتريك زوسكيند بروايته التي كتبها في العام 1985 وبيعت منها الى الان أكثر من خمسة عشر مليون نسخة . انها رواية الحلم ربما ، وتمنيات بعض الروائيين الذين يجدون فيها املا مؤجلا لابداعهم ، فربما سيتفجر يوما بروايته تشبه عطر زوسكيند !
• العطر ( قصة قاتل ) للروائي الالماني باتريك زوسكيند
• ترجمة د . نبيل الحفار
• الطبعة الرابعة 2007
• دار المدى للثقافة والنشر