مقطاطة ومساحة وقلم رصاص-احمد ثامر جهاد
Thu, 1 Mar 2012 الساعة : 12:34

سلسلة نصائح ابوية مُطمئنة كان لها الفضل الاكبر في دحر الخوف الغريزي لطفل بلغ ربيعه السادس قبل اكثر من ثلاثة عقود وكان يتهيأ حينها لدخول صفه الدراسي الاول. نصائح الاهل حينذاك كانت تاتي ثمارها رغم بساطتها المشجعة،مع انها نادرا ما تمتزج بالاغراء والمساومة..
صباح كل يوم سيكون للولد المطيع مصروف جيب له رنين اخاذ،ذكراه خالدة. خشخشة مكتومة لدراهم او عشرات او خمسات فلسية تستقر في جيب البنطلون الديولين النيلي ستجعلك سعيدا طوال النهار،ناهيك عن كونها كفيلة بمحو الكآبات المحتملة التي تخلفها اية صفعة قد تتلقاها من صبي او معلم او مدير.
اذا كنت من فريق المحظوظين ستحظى بصديق حباب من ابناء الجيران يرافقك يوميا في مسيرة الذهاب الى المدرسة التي ستبدو بنظرك بعيدة وان كانت لا تبعد فعليا سوى بضعة امتار عن منزلك. مدرسة الهدف الابتدائية في دور نواب الضباط بمنطقة الحرية في بغداد ما زالت الى اليوم اقصى مسافة يمكن لصبي ان يقطعها في ظهيرة تشرينية.
• صداقة
اذا ما كان الصديق الذي يرافقك للمدرسة اضخم منك ويوحي مظهره بالقوة فانك تكون بمأمن من اشد مخاوف الذهاب الى المدرسة، تحرشات الاشرار الصغار.اما في حال كان الصديق نظيرا لنعومتك وهدوئك فانك ستسير الى حتفك لا محالة،الى محنة كبيرة ستختبر بها قوة صوتك وانت تصرخ مستنجدا..ربما يفزع صوتك ثلة الاعداء فينفضون عنك،وقد يثير ضحك الفضولين.
بكل الاحوال لا مفر من لحظة الاختيار الصعب. تحديد صديق الرفقة من بين شخصين او اكثر من ابناء المنطقة،لكل منهما صفة مرغوبة لديك.ثمة القوي الذي سيحميك من شرور الاخرين،والاخر النظيف الجميل حسن الطباع. ليست مفارقة انك ستغامر بسلامتك الشخصية حينما تقرر اخيتار الصديق الاجمل..القرين اللصيق الذي ستقع في غرامه تدريجيا بما سيبدو لك لاحقا انه نسيم الغرام الاول في حياتك.
• فرحة
اكثر ما يثير ذاكرتنا وهي تسعيد شريط السنوات المنصرمة تلك هو ذلك الحس التفاؤلي بالمدرسة (يا لها من كلمة).. المدرسة التي لا تحضر بقيمها الحقيقية الا بمعية جمهرة من معلميها الاجلاء،يوم كانت واحة الحرف الاول قادرة فعلا على وضعك (شئت ام ابيت)على المسار الصائب لرسم الحياة بانامل طيعة طموحة.
اليوم لم تعد ثمة مدرسة قابلة للاستعادة كصورة مجيدة،ليست ثمة جدران ملونة ولا انامل طموحة.
اشد ما يؤلم ان معالم الفرحة غابت عن وجوه التلاميذ الصغار وهو يتوجهون في الصباح الباكر صوب مدارسهم الخالية من الزهور والحمامات. اطفال بسحنات كالحة وعيون لم تنل قسطها الكافي من النوم، خطاهم ثقيلة متململة،وجوههم محنية صوب الارصفة واقدامهم لا توحي حركتها البطيئة برغبة الوصول المبكر.
• قرطاسية
في الاسبوع الاول او الثاني لبدء الدوام تتحول المدرسة الى ما يشبه الكرنفال.انه يوم توزيع القرطاسية.مقاطيط ومساسيح واقلام رصاص ملونة. لا شئ بامكانه افساد فرحة استلام الحصة المقررة من القرطاسية سوى الحظ العاثر الذي يجعل يد المعلم المسؤول عن التوزيع تعلن عن نفاد وجبة الاقلام نوع(ابو المساحة) وعليه سيتسلم بقية الطلبة اقلام رصاص من النوع العادي.
اية سخرية يمكن لصبي ان يتحملها اذا ما كانت يده فارغة من قلم الرصاص الصيني العملاق،ذلك القلم المزخرف بصور شتى لدمى وازهار ودببة سيتحول في سنوات لاحقة الى تعويذة لا شعورية تضمن للتلميذ النجاح في الامتحانات الشهرية اذا ما استخدم القلم الصيني المتوافق بمهارة عجيبة مع فتحة المقاطة وهي ترتاح لعملية دخوله السلس.
لا القرطاسية ولا الاصدقاء ولا المصروف اليومي بوسعها جعل اطفالنا فرحين بالذهاب الى مدارسهم.بعضهم يتمارض اليوم والاخر يهرب من السياج او يدعي ان يوم غد عطلة رسمية لمجرد الفرار من المدرسة. هل تحولت الواحة الى سجن؟
• رائحة
في ظل هذ التجهم الغريب اصبح سلوك طلبتنا غير قابل للفهم مثل حياتنا الراهنة،رغم ان جيوبهم مليئة بالدنانير وحقائبهم عامرة بالدفاتر والقرطاسية وملابسهم انيقة وثمة بينهم من يصل الى المدرسة بسيارة،لكنهم الى الان مكتئبين مثل آبائهم.
المدرسة التي عرفناها حاضرة دوما مثل طيف ابدي للذائذ الصداقات والتعلم وتشرب مياه الحياة.
مدرسة رحيمة بانبائها تستعاد صورتها الجميلة بمجرد ان نشم رائحة (المساحة)..هل تذكرون رائحتها.انها رائحة علكة حلوة زهرية اللون.