العراق والعدالة الانتقالية-علي البصري
Wed, 29 Feb 2012 الساعة : 12:21

كان من المُتفرض ان اُعنّون مقالتي هذه بالعنوان التالي: ( العراق بحاجة الى ثورة كالثورة الفرنسية) الا انني لم اُحبذ ذلك كي لااُتهم بالثورية وربما بالارهاب - رغم ان كل ذلك لايخيفني – او حتى من اجل ان اُبعد عني بعض اللوم من بعض الزملاء.
العدالة الانتقالية لها ابعاد كثيرة فمنها مايتعلق بالجانب السياسي واخرى بالجانب الاقتصادي وثالثة متعلقة بالجانب الاجتماعي ورابعة لها علاقة بالجانب الانساني وخامسة بالجانب الروحي والنفسي وووو... والعدالة الانتقالية في اي بلد بحاجة الى ارادة صادقة والى مؤسسات ومحاكم وقوانين تُشرّع من اجل تحقيقها في اي مجتمع او بلد ما، ولعل التجارب الدولية في هذا المجال كثيرة ومتعددة ومتباينة، بدءا من محاكم "نورمبورغ" ومرورا بجنوب افريقيا واوربا الشرقية والعراق وانتهاء بمصر. لسنا هنا بصدد تقييم هذه التجارب المختلفة في العالم، بقدر مانريد ان نسلط الاضواء على التجربة العراقية باعتبارها تجربة حديثة ونحن من ضحايا هذه التجربة ولدينا معلومات لابأس بها، ولعل هذه المعلومات تساعدنا في سبر اغوار هذه التجربة.
لااحد يُنكر ان العراق والمجتمع العراقي تعرّض الى اقسى حالات التجاوز، ولعل تجربته اغرب واقسى تجربة عُرفت خلال العصر الحديث، حتى ان الاوراق والكتب بل والخيال يعجز عن ان يصوّر او ان يسجّل الانتهاكات التي تعرّض لها العراقيون.
اقول اذا كانت الانتهاكات بهذا الحجم وبهذا القدر فينبغي ان تاتي اجراءات العدالة الانتقالية في العراق بقدر هذه الانتهاكات او على الاقل قريبة من هذه التجاوزات باعتبار ان اي عدالة – عدا عدالة الله – غير قادرة من الناحية الواقعية او المادية ان تعوّض الانسان عما لحق به وتعرّض له، لكنّ عدم القدرة في هذا المجال لاتمنع من تقديم اي مساعدة في رفع الحيف عن هؤلاء الناس، وهذا العجز لايُعطّ اي مبرر او مسوغ للتهاون في عدم اعطاء ذوي الضحايا حقوقهم وتعويضهم عما لحق بهم، والا تصبح عملية التحول والتغيير الحاصل غير ذات جدوى، وبالتالي فانّ الافراد والمجتمع الذين تعرّضوا للاضطهاد والاعتداء والتجاوز عليهم سينكفؤون على انفسهم وستترتب على ذلك امور كثيرة منها على سبيل المثال لاالحصر الاتي:
1-الافراد والمجتمع الذي تعرّض للاذى سيفقد الثقة بالسلطة الجديدة، وهذا الامر سيقود بالنتيجة الى عزوف الناس وعدم التعاون مع السلطة الجديدة وعملية التغيير، وربما يجعل البعض ان يضطر لكي ياخذ حقه بيده دون الرجوع الى المحاكم والمؤسسات المختصة في هذا المجال، وهذا بدوره سيجرنا الى الفوضى والتجاوز مرة ثانية وسندخل في دوامة جديدة لايمكن لها ان تنتهي الا باقامة العدالة.
2-الافراد والاشخاص والاحزاب والجهات التي اعتدت على الناس والبلد ستبقى تحاول اعادة الكرة ثانية، بل وربما ستساهم هذه الجهات في عدم استقرار البلد من خلال وسائل متعددة وهذا مايحصل فعلا في العراق، فتنضيمات البعث ومن لف لفهم يساهمون اليوم في عدم استقرار العراق سواء من خلال العمليات الارهابية وتمويلها، او من خلال بث الشائعات والتعاون والتحالف مع قوى الارهاب، او من خلال التخريب والفساد بجميع اشكاله والذي يجري على قدم وساق في كل مؤسسات ووزارات البلد، باعتبار ان الكثير من هؤلاء يعشعشون في كل مكان وزاوية من البلد، وهذا الامر هو الاخر سيجعل من عملية التغيير عملية غير مضمونة، ان لم تفشل فعليا في المستقبل القريب.
3-هذا الامر من عدم الاهتمام وعدم تحقيق عدالة ولو نسبية في المجتمع سيؤدي الى اختزان هذه التجربة السلبية في ذاكرة الامة، وهذا الامر سيؤسس بل وسيقود في المستقبل الى ابتعاد الناس عن الاهتمام بأمر الامة والوطن، من قبل امور كالتضحية والايثار من اجل البلد والوطن، ولااكتمكم سرا اذا قلت انني من الناس الذين يُحسون بهذا الامر، ومن الذين يعتقدون ان على المرء ان لايستعجل في هذا المجال ويسبب الاذى والحرمان لعائلته واهله، بل على الانسان ان يتروى في هذا المجال، باعتبار ان كل شيء هو امر نسبي.
4-اذا لم يتحقق شيء مقبول من العدالة الانتقالية فان المجتمع والدولة الجديدة او بالاحرى التجربة الجديدة ستصاب بالتعثر وسوف لن تستقر الاوضاع، وهذا سيقود بالظرورة في المستقبل القريب الى تغيير جديد، وسنبقى في هذه الدوامة الى ان يتحقق تغيير حقيقي يُرجع للناس حقوقها.
في حالة العراق يمكن القول ان ماتحقق من عدالة انتقالية لايمكن تحسسه او حتى لايمكن اطلاق كلمة عدالة عليه، فعلى المستوى الواقعي يشتكي الكثير من افراد عوائل الشهداء من انهم يخافون ان يقولوا انهم من عوائل الشهداء، بل وصل الامر الى ان بعض هؤلاء العوائل لم يستطيعوا ان يُرجعوا وثائقهم الرسمية التي صادرها النظام السابق كما هو حاصل مع الاكراد الفيلية وبعض المهجرين. البعض الاخر من عوائل الشهداء والمضطهدين والسجناء السياسيين لم يستطيعوا ان يُرجعوا بيوتهم وممتلكاتهم حتى اللحضة.
الكثير من السجناء السياسيين وعوائل الشهداء لم تُستكمل معاملاتهم بحيث ان بعض السجناء والمعتقلين لازالت معاملاتهم لم تُحسم منذ خمس وست سنوات، والكثير من هؤلاء المتضررين انتقل الى العالم الاخر ولم يسترجع حقوقه، فأيُّ عدالة انتقالية هذه التي يبشرنا بها البعض؟؟؟!!!
هناك الكثير من عوائل الشهداء اللذين لم يحصلوا على عمل لان قطار العمر قد فاتهم، وهناك ايضا الكثير ممن يتفاجأ بان من اضطهدهم بالامس يجدونه اليوم مسؤولا عنهم ويهددونهم بالاضطهاد ثانية؟؟!!! ويبقى هؤلاء المضطهدون لايستطيعون ان يُقدموا هؤلاء المجرمين الى المحاكم، وأنى لهم ذلك ومسؤولوا الدولة الجدد هم اللذين يستخدمون هؤلاء المجرمين في المؤسسة الامنية وجعلوا منهم قادة، بحيث اصبح من العسير استقرار الوضع الامني في البلد ومثل هؤلاء يُديرون العمل الامني، فهل هناك مهزلة اكبر من هذه المهزلة؟؟!!!.
لو قيّمنا العدالة الانتقالية من الناحية المادية فستصبح العملية عملية هزلية بعوائل الشهداء والضحايا، والا فان بدل البيت بالنسبة للشهيد (82) مليون دينار عراقي، فايُ بيت في العراق يمكن ان يُشترى بهذا المبلغ في هذه الايام؟؟!! علما ان اغلب هذه العوائل لاتمتلك بيوتا او ان بيوتهم قد صُودرت او دُمرت، في حين ان سلفة مدير عام او عضو مجلس النواب يبدأ من (300) مليون دينار وسيارة مصفحة !!! عندما يرى الانسان العراقي هذا التكريم الرائع ماذا عساه ان يقول؟؟!! وبماذا سيفكر ؟؟!! لاشك انه سيحترم عائلة الشهيد غاية الاحترام.
الامر يطول في هذا المجال، هذا مجرد امثلة بسيطة جدا، والا فان التجاوزات والاستهانة بالضحايا بحاجة الى كتب ومجلدات لكي تُحصي كل تجاوزات هذا الزمن الرديء.
مانريد ان نؤكّد عليه هو ان الضامن الحقيقي للناس المضحية بل وللمجتمع بصورة عامة هو اقامة دولة المؤسسات، وبناء دولة المؤسسات لايتحقق الا بالايثار والعمل الصادق وتحقيق العدالة الانتقالية، وهذا كله يتم عن طريق بناء دولة المواطن بعيدا عن لونه ودينه ومذهبه وجنسه ومعتقداته و ....
بناء على مامرّ بنا من توصيف للعدالة الانتقالية فان اي عملية تغيير لاتُرجع للناس حقوقها وتضع الامور في نصابها المعقول، فان عملية التغيير ستبقى عملية ناقصة وستبقى الناس والمجتمع يبحثون عن عملية تغيير جديدة تقودهم الى تحقيق امانيهم واحلامهم في احقاق الحق وارجاع الامور الى نصابها، ولعل تطلع الناس الى العدالة والعدل هو الذي يجعل من المجتمع دائم السعي والحركة نحو هذا الهدف السامي.
علي البصري
م.م قسم الادارة
كلية الادارة والاقتصاد
الاكاديمية العربية في الدنمارك