مصطلح الأيديولوجيه والسلطه السياسيه/عبد الستار السعيدي

Tue, 21 Feb 2012 الساعة : 4:51

الأيديولوجية تشير إلى منظومة فكرية و رمزية مبنية على جملة من الأسس و المسلمات التي تتخذها الجماعة البشرية، التي قد تكون جماعة دينية أو عرقية أو طبقية أو جهوية أو فئوية، منطلقا و منهجا لها في العمل السياسي و الاجتماعي و الثقافي في مرحلة تاريخية معينة. و تسعى هذه الجماعة إلى دعم هذه المنظومة الفكرية و الرمزية و نصرتها إزاء المنظومات الفكرية و الرمزية المنافسة لها داخل المجتمع . و هذا يوضح جانب الصراع المتلازم مع الجانب السياسي للأيديولوجية. و تؤدي الأيديولوجية وظائف مختلفة. فعلى المستوى النفسي، تكون وظيفة الأيديولوجية توفير الشعور بالانتماء الحميم و الوحدة لأفراد الجماعة التي تعتنق الأيديولوجية نفسها فيحل مفهوم " النحن" بدلا من مفهوم " الأنا" ، مع ما يوحي به هذا الانتماء من قوة و ما يعد به من امتيازات. و قد تكون الأيديولوجية نوعا من العقل الجمعي. و على المستوى الاجتماعي تقوم الأيديولوجية بوظيفة تجسيد الوعي الطبقي أو الديني أو المهني لمكونات المجتمع المختلفة و تمثيل إراداتها بشكل برامج و تنظيمات سياسية و حزبية تميزها عما سواها كما تقوم الأيديولوجية بمهمة اللحمة الرابطة للمجتمع. و على المستوى السياسي تختلف وظيفة الأيديولوجية بين مرحلة ما قبل تسلم السلطة و مرحلة ما بعد تسلم السلطة. ففي المرحلة الأولى تعمل الأيديولوجية، بوساطة معتنقيها، على نقد السلطة القائمة للأيديولوجية المنافسة لغرض إظهار تناقضاتها و عيوبها و تعبئة الرأي العام لإزاحتها و الحلول محلها أما بوساطة الانتخابات أو بالقوة عبر الانقلابات العسكرية. و ما أن يتحقق لها ذلك حتى تبدأ وظيفة المرحلة الثانية المختلفة تمام عن وظيفة المرحلة الأولى. و سيكون أهم مظاهر وظيفة الأيديولوجية في هذه المرحلة الدفاع عن السلطة الجديدة و إجراءاتها و تسويغ أخطائها و دعوة الناس إلى دعمها من جهة، و التحلي بالصبر و تفهم الظروف قبل المطالبة بتحقيق الوعود التي بذلت قبل تسلم السلطة وعدم الانجرار مع خصومها الأيديولوجيين أو الاستماع إلى أقاويلهم. و لعل هذا الفهم يكشف الطابع النفعي للأيديولوجية و افتقارها إلى البعد الأخلاقي بحكم ارتباطها بالسياسة. و هذا الكلام وصف للأيديولوجية و ليس نقدا أو تقويما لها.
و سواء أكانت الأيديولوجية وعيا محدودا و زائفا كما يذهب إلى ذلك ماركس، أو إطارا موحدا و مشابها للوعي الجمعي للجماعة البشرية كما يقول الأنثروبولوجيون ، فإننا بالرغم من كل ذلك نلاحظ أن أهم ميزة للأيديولوجية هي أنها ليست من النوافل أو مما يمكن الاستغناء عنه. فهي ضرورة مطلقة للإنسان بوصفه كائنا اجتماعيا حتى ليمكن أن نصل إلى توكيد أهميتها بأن نقلب الأمر و نعرف الإنسان بأنه كائن أيديولوجي. إنها حاجة أساسية للفرد لأنها تأتي بالمرتبة الرابعة بعد الحاجة إلى الطعام و إلى الجنس و إلى الأمان. و هي حاجة أساسية للمجتمع لأنه لا يمكن تصور مجتمع حديث أو قديم دون وجود سياسة محددة توجهه داخليا و خارجيا. و تعتمد هذه السياسة على أيديولوجيا معينة قد تكون دينية موروثة أو مأخوذة من إحدى الفلسفات أو تمثل مزيجا من أفكار عامة لها تطبيقات سياسية ملموسة مثل أفكار الحرية و حقوق الإنسان. فالسياسة إذن هي الوجه الآخر لمصطلح الأيديولوجية. و يمكن استخدام أحدهما بدل الآخر. و إذا كانت الأيديولوجية ضرورة كما قلنا، فإن لها ضررا بليغا لا يمكن نكرانه إن تركت دونما مراقبة من المواطنين الذين هم الجهة الوحيدة التي بإمكانها، و عبر الممارسة الواعية لحق الانتخاب، أن تقلل من أضرار الممارسة الأيديولوجية السيئة، تمنع من تحولها إلى الدكتاتورية.
و ترتبط الأيديولوجية بالسلطة و ممارسة السلطة ارتباطا وثيقا. فالسلطة هي الهدف و الدافع و المحرك الأساس للفعل الأيديولوجي. و نحن هنا لا نقصر مصطلح السلطة على الممارسة السياسية فحسب. فهناك صور و مستويات مختلفة لممارسة السلطة غير الممارسة السياسية التشريعية و التنفيذية التي ترد إلى الذهن عند ذكر السلطة. فهناك أنماط من السلطات المختلفة. إذ فضلا عن السلطة السياسية التي تنقسم بدورها إلى سلطة تشريعية وأخرى تنفيذية يمكن أن نذكر ما يأتي: السلطة الصحية و السلطة القضائية العقابية المرتبطة بالقانون و السلطة التعليمية و سلطة القيادات النقابية و السلطة داخل الأحزاب السياسية و السلطة الأبوية داخل الأسرة. و لكن تظل ممارسة السلطة السياسية هي الهدف الأسمى للممارسة الأيديولوجية لكونها هي الأصل الذي تستمد منه بقية صور و مستويات ممارسة السلطة شرعيتها. فهي التي تملك من الوسائل و الإمكانات ما يجعلها تؤثر في شتى صور ممارسة السلطة و ترسم لها حدودها و تقرر لها صلاحياتها. و قد يقول قائل أن الصور الأخرى لممارسة السلطة تؤثر بدورها في السلطة السياسية و بالأيديولوجية خاصتها, فنقول إن ذلك التأثير محدود. و هو تأثير يصب، في الغالب، في صالح الأيديولوجية القابضة على السلطة و يخدم أغراضها و ليس العكس. و لكن ذلك لا يعني عدم قدرة الأيديولوجيات المنافسة على التأثير على ممارسة السلطة داخل النقابات و الاتحادات و بقية منظمات المجتمع المدني. فهي تستطيع أن تؤثر، خصوصا مع توفر ظرف سياسي منفتح نسبيا، لذلك نرى أن جل ما تطمح إليه الأيديولوجية هو الوصول إلى قمة هرم السلطة. ثم تبدأ بإعادة ترتيب البنية السلطوية، و عبر التشريعات و الإجراءات التنفيذية، بما يؤمن لها أكبر قدر من الاستمرار في الجلوس على قمة السلطة. و هذا الميل نحو الاستئثار بالسلطة متأصل بالأيديولوجية، وهو إحدى سماتها الأساسية سواء أكانت شمولية أم ليبرالية. كما أنه مكمن الخطر و مصدر النزعة الاستبدادية التي تبدأ عادة داخل الجماعة الأيديولوجية نفسها، ثم تمتد لتشمل المجتمع برمته حين يتاح للجماعة الأيديولوجية المعنية أن تتبوأ السلطة؛ و خصوصا إذا كانت هذه الجماعة محكومة داخليا على نحو استبدادي و تفتقر إلى الديمقراطية و حرية الاختلاف بين المنخرطين فيها. إن قوة أيديولوجيا ما و ضعفها لا يرتبطان بمدى رصانة و تماسك أطروحاتها الفكرية بالمقارنة مع أطروحات الأيديولوجيات الأخرى. إذ مع الإقرار بوجود معايير واضحة لمثل هذه المقارنة فإن الأطروحات الأيديولوجية نفسها تظل عصية على التوصيف الموضوعي لكونها تمثل قناعات عقدية قبلية ليست موضع بحث أو مقارنة بالنسبة لمن يؤمنون بها. لذلك يصح القول إن أحد أهم شروط عقد مثل هذه المقارنة هو الحياد التام للباحث إزاء الأيديولوجيات المختلفة التي يقارنها فضلا عن رسم منهج واضح يجعله على مسافة متساوية من جميع العقائد و الأفكار التي تعتنقها الأيديولوجيات المختلفة. و هو أمر صعب التحقق. و عموما فإن مثل هذه المقارنة ستكون ذات طابع نظري بحت. و هي قد تكون ذات قيمة كبيرة من ناحية منهج نقد الأفكار الذي يمثل حقلا معرفيا صعبا. أما المعايير الأساسية الذي يمكن أن تعتمد في مجال تقويم الأداء السياسي الفعلي للأيديولوجيات المختلفة و معرفة مقدار قوتها و حظها من النجاح فهي تتمثل عمليا، في تقديري، في جملة أمور منها:1. سعة القاعدة الاجتماعية التي تحظى بها الأيديولوجية و ثباتها النسبي. و تعتمد سعة القاعدة الاجتماعية على جملة مؤشرات أهمها: تاريخ الأيديولوجية المعنية و مقدار التوافق بين البنية الفكرية للأيديولوجية بالمعنى السياسي الضيق و الأيديولوجية بالمعنى الثقافي العام المتمثل بالموروث الديني و العادات و التقاليد الراسخة،و عمق و رصانة الأفكار و التحليلات التي تطرحها، و جاذبية الشخصيات القيادية التي تروج لها.
2. صلة أطروحات الأيديولوجية و برامجها بالقضايا و المشكلات السياسية و الاجتماعية الكبرى التي تشغل القوى الاجتماعية المختلفة في الظرف التاريخي الذي يعيشه المجتمع و قدرة الأيديولوجية على عكس تطلعات القوى الاجتماعية الفاعلة في صلب الحلول المقترحة لحل تلك المشكلات و حشد التأييد لها.
3. و بعد أن تكون الأيديولوجية في السلطة، فإن طبيعة الوعود التي قدمتها الأيديولوجية للمجتمع و مقدار المتحقق منها على أرض الواقع و السياسات التي اتبعتها في تحقيق تلك الوعود ستكون حاسمة في اتجاهين؛ فهي أما ستسهم في زيادة الأيديولوجية قوة بزيادة عدد المنضوين في صفوفها أو القابلين عن قناعة بأدائها السياسي. و ذلك حين تنجح الأيديولوجية في تقليص الفجوة بين وعودها و ما حققته فعليا. أو هي ستؤدي إلى إضعاف قوة الأيديولوجية و النيل من هيبتها تدريجيا في حال اتسعت تلك الفجوة .
4. قدرة الأيديولوجية على فهم المتغيرات الدولية و الانفتاح عليها و التعامل معها بشكل يؤمن المصالح الوطنية و يحفظ المجتمع من الأخطار الخارجية و بناء تحالفات إقليمية و دولية لمصلحة الوطن. و ذلك للترابط الوثيق بين تلك المتغيرات الخارجية و التنمية الاقتصادية و السلام الاجتماعي الداخلي للبلاد خصوصا بعد ثورة المعلومات التي جعلت العالم ليس قرية صغيرة فحسب ، بل بيت يعلم كل فرد يعيش فيه كل شيء عن الأفراد الآخرين و يتأثر بهم و يؤثر فيهم.5. وجود جهاز دعاية و إعلام ( صحف، فضائيات، محطات إذاعة) ذي خبرة و كفاءة يدعم الأيديولوجية عن بصيرة لا عن عمى. و يبشر بها بصورة غير مباشرة. و ينوه بإنجازاته الفعلية و ذلك بصيغة تعتمد المزج بين الترفيه و الفائدة العلمية و الخبرية. و حاجة الأيديولوجية إلى جهاز الدعاية تفرضها حقيقة أن حقل الدعاية متاح للأيديولوجيات المنافسة. لذلك لا بد من إدامة عوامل قوة الأيديولوجية عبر مثل هذا الجهاز.وهكذا نرى أن الأيديولوجية ظاهرة شاملة و موجودة في كل المجتمعات و في كل الأزمان. و لا نحسب أنها ستنتهي كما يزعم بعض مفكري الغرب مثل ريمون آرون و فوكوياما. و ذلك أنها من لوازم الاجتماع الإنساني التي ترتبط بالسلطة السياسية على نحو يجعل من ذكر أحدهما يستدعي الآخر تلقائيا. وهي ليست مما يستحق التنديد أو المديح بحد ذاته. فأنت حين تشتم الأيديولوجية إنما تتبنى موقفا أيديولوجيا.
و إنما المهم هو كيف يمكن أن تكون ممارسة الأيديولوجية نزيهة و تخدم تطور المجتمع لا أن تكون وسيلة للتدليس و الكذب تحقيقا لمنافع ذاتية. و لكن الفيصل في ذلك هو وجود نمط من الرقابة المجتمعية التي تمنع تحول ممارسة السلطة السياسية ممارسة للغلبة و القهر السياسي. و لن يكون ذلك ممكنا بدون الديمقراطية و الانتخابات.و أخيرا ، كيف يمكن للمرء قراءة الوضع العراقي الراهن و ما يكتنفه من فوضى أيديولوجية ضاربة؟ لن أكون قيما على أحد في فهمه لما يدور في الساحة السياسية العراقية الآن.
ــــــــ

Share |