الموت الرافديني بنسخة 2012 -عامر عبد الرزاق الزبيدي
Thu, 16 Feb 2012 الساعة : 11:29

كان الشعب الرافديني يبحث عن الحياة في خضم أمواج الموت التي كانت ترافقه في كل مكان , فصارع الطبيعة وروضها وواجه الوحوش وصادقها وخلق من الماء والطين قصائد الحب , وأسس للحياة فكرا يبقى خالدا وأسماء لا تعرف الموت , ومدن لا زالت موجودة إلى ألان بمعابدها وقصورها وزقوراتها وأحيائها , وذهب بعينة إلى الأفق البعيد ففكر بالفضاء ورصد الكواكب والأجرام , وجد للأمراض علاجات استخرجها من النبات والحيوان , وأخترع الموسيقى وعزف بها بمدن سومر وأكد وبابل.
في العراق القديم كان يقام لكل شيء طقس ولكل فعالية مراسيم تتخللها الصلاة والأدعية ، وسكب الماء المقدس ، وإشعال الأبخرة الطيبة التي تملأ المكان ، وعزف الموسيقى التي تملأ الحانها جميع أرجاء المكان ، كان شعباً مرهف الإحساس ، صادق التعبير .
فكان للزواج طقس ومراسيم ، وللتتويج طقس ومراسيم ، وللحرب طقس ومراسيم ، وكان للموت أيضاً طقسا خاصا ومراسيم بهيجة .
تبدأ قصة طقوس الموت في أرض وادي الرافدين قبل أكثر من ستة ألاف عام قبل الميلاد (6000 ق.م) حيث كان الموت الذي يلم بالعائلة وغياب الأم أو الأب أو الأخ يأخذ حيزاً كبيراً من الحزن لهذا المشهد الغريب والمخيف بالوقت نفسه ، فبدأ الفكر العراقي القديم بهذا الحدث يسأل لماذا ؟ والى أين ؟ ومتى ؟ وما السبب ؟ وكيف ؟ وأين المصير ؟ أسئلة كثيرة دارت في عقول سكان وادي الرافدين حتى جعلوا الموت شيئا مقدساً وأله لا يمكن قهره أو تأخيره ؟ وحتى يقللوا الصدمة عليهم ؟ ويخففوا الحزن بدأوا يقولوا إن الإلهة أحبت أن يلتحق هذا الشخص بالسماء فيكون بجوار الإلهة ، وهو إنذار من الإلهة لكل البشر بعدم الإساءة إليها واحترام الإلهة وعدم التجاوز عليها وتطبيق رغبتها في الأرض فبدأت الطقوس تقام في جميع أرجاء البلاد تتخللها مراسيم قدسية إنها إرسال شخص إلى السماء ، لكن حتى يصل طاهرا وإبعاد الأرواح الشريرة من جسده ، يجب أن تشعل الأبخرة بالقرب من الجنازة ، ويجب أن يسكب الماء عليها لغسلها من الذنوب ولهذا يكون الماء مقدساً ، ويجب أن تعزف الموسيقى حتى تطمئن الروح إلى العالم الجديد ويجب أن ترفع الأصوات بالدعاء والصلوات لإرضاء الرب عن هذا الإنسان ، وكذلك يوضع أسفل الأرض حتى يعرج بروحه إلى السماء ، وحتى طريقة دفنه لا تخلو من الطقوس والمراسيم حيث يجلسونه تحت التراب بطريقة ووضعية القرفصاء كما شاهدناه بعمليات التنقيب في مقابر أور ولكش وأوما وأم العقارب ونفر وغيرها من مدن العراق القديم وهذا الوضع يشبه وضع الجنين في بطن أمه وكأن رحم الأم وبطن الأرض يؤديان الغرض نفسه وهو إرسال ذلك المخلوق إلى الحياة في الأولى حياة الدنيا وفي الثانية حياة الخالدين (الأخرى) .
وعند وضعه تحت الأرض توضع بقربه الصحون والجرار وبعض الحاجيات التي يحتاجها في ذلك العالم الذي لا يعرف عنه الكثير سوى أنه طريق طويل يحتاج فيه إلى الماء والأكل ودعاء الأحياء من أهل بيته وأصحابه ، وإذا أردتم أن تشاهدوا هذا المشهد الغريب بأعينكم فما عليكم ألا أن تأتوا إلى متحف الناصرية وتشاهدون أقدم مومياء في ذلك المتحف وهي تعود إلى عام أربعة ألاف عام قبل الميلاد (4000 ق.م) وهي موجودة في أحدى خزانات ذلك المتحف الحزين !!؟ وبجوار ذلك الهيكل توجد الجرار والأواني الفخارية وكذلك كلب الصيد الذي أمر أن يدفن معه حتى يقوم بمساعدته في تلك الرحلة الأبدية ، ورغم أني اعمل في ذلك المتحف منذ سنين طويلة إلا أنني كلما رأيت تلك المومياء كأني أراها لأول مره وتزداد دهشتي لطقوس سكان حضارة وادي الرافدين .
وهنا يجب أن أعرج إلى إن في حضارة وادي الرافدين ظهر بطل أراد أن لا يموت وان يبحث عن عشبة الحياة حتى يبقى في الأرض من الخالدين أنه الملك كلكامش بعد أن صدم بموت أعز الناس أليه أنكيدو صديقه القريب فلطالما بكى ولطالما حزن وتذمر من الموت الذي يفرق بين الأحبة بلحظة واحدة لا ترحم أبدا ، وبعد رحلة طويلة ومشاق كبيرة بحثاً عن عشبة الحياة ، وفي نهاية المطاف وصل كلكامش إلى بطل الطوفان السومري (أوتونابشتم) ليخبره إن سر الخلود ليس في عشبة الحياة بل هو العمل الحسن والذكرى الطيبة هي التي تبقي الإنسان حياً باسمه وعمله فعرف كلكامش ذلك المشهد وفهم القصد ورجع إلى الوركاء ، وهاهو كلكامش بقي خالداً وغيره قد مات ، وكل من أراد أن يبقى حيا ً وخالدا في الدنيا عليه أن يعمل بجد ومثابرة ويترك بصماته في هذه الدنيا لكي يكون معرفة يشار إليها رغم مر العصور .
وعلينا ألا نخاف من الموت لأنه أمر السماء بعدم البقاء في هذه الأرض طويلا ، لكن الموت الجماعي أمر لم تحدده السماء ولم ترتضه الإلهة .
ولم تشهد حضارة وادي الرافدين طقوساً للدفن الجماعي إلا مرة واحده فقط ، وكانت هذه المرة الوحيدة في مدينة أور وبأمر الملوكية البشرية حيث دفن مع الملك جميع حاشيته وخدمته وهم أحياء ، مرة واحدة فقط ولم تتكرر هذه الحالة الفاجعية مرة أخرى في هذه البلاد .
لكن أعداء الحضارة ، وأعداء العراق ، وأعداء سومر وأكد وبابل وآشور أرادوا الموت أن يكون هذه الأيام بطقوس الموت الجماعي ذلك الموت الذي لم ترتضيه آله العراق القديم ، وارتضته زمرة من وحوش العالم السفلي لأناس أبرياء عبدوا الله وقدسوا أوليائه وذهبوا بمراسيم قدسية لها طقوس ربانية ليزوروا أولياء الله بأصوات يملؤها الحنين وصدقات في سبيل الله ، ودعوات وصلوات بلا ملل ولا هوان وأميال تقطع سيراً على الأقدام وهم لم يعرفوا إن هناك موعداً مع حزام ناسف وانتحاري لا يعرف فلسفة الحياة في سبيل الله انه موت جماعي بطقس استشهادي لكن هذه المرة أختلط الأمر وتشابهت الأجساد وتشابكت الأيدي وتعانقت القلوب وامتزجت الدماء في دفن جماعي لكنه كان بأمر آلهٍ لم تعرفها وادي الرافدين ولم تسمع بها ، أنها آله الشر التي غزت الأرض لقتل الإنسانية بقتل جماعي باسم رب لا نعرفه !!؟.
فقررت الموت لشعب وادي الرافدين بنسخة 2012 .
ذلك العام الذي رأته حضارات العالم القديم بأنه نهاية العالم وانهيار الأرض حسب مدوناتهم وما وصلت إليه حساباتهم الفلكية التي كانت غاية في الدقة , حيث تراعي سير الكواكب وكذلك مواقع النجوم وحركتها , وأكدت أن هناك كوكب سيصطدم بالأرض ويدمرها نهاية 2012.
لكن أنا أؤكد بأن اله الحب والسلام والحنان والرحمة والإنسانية (الله) جل وعلى سيحمي تلك الأرض بلطفه وحكمته باللحظات الحاسمة سيحميها من هذا الكوكب المدمر ومن كواكب الأحزمة الناسفة والسيارات الملغومة التي تريد قتل الإنسانية .
(( يمحي الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب)).
عامر عبد الرزاق الزبيدي
مدير آثار ذي قار