كيف نكرّم المعلّم الأمين- ياسين الياسين
Wed, 8 Feb 2012 الساعة : 12:52

ضياء حسن طاهر الساعدي معلّماً مذ عرفته أيّام كنت تويجراً وكان حينها يتردد على صاحب مكتب زوزك لتسجيلات الفيديوكاسيت الذي كان مجاوراً لمكتبي خلال سنين عملي تلك ، وعرفته حين ألتقيه وقت ذاك معلّماً حريصاً أميناً شفافاً لايخلو من حس فني رائع ، ونفس إبن المدينة الوفي لطباع أهله فيها ، وهويعمّد ذلك في نفسه إبناً باراً لمدينته ، وله من الأهتمامات الفنية والأدبية مايجعله بمصافي الفنانين والمبدعين الكبار، وكنت حينها عضواً في الهيئة الأدارية للمنتدى الأدبي ، فعرفته وقتها كبيراً بروحه الخلاقة ونفسه التواقة إلى كل عمل يفيد الآخرين ، ويرفع من معاني الوفاء ويذكّي كل معاني الأخلاص بوعي منه وإدراك أنّه إبن هذه التربة الطيبة وهذه المدينة التي تغفو على جبين تاريخ مضمّخ بدم أبنائها الذين سطّروا في صفحاته ملاحم لتكون مدينتهم بمصافي المدن المجاهدة ، وإستحق فيها كثير من رجالها في أن يكون لهم تماثيل في متحف من شمع تحكي بطولاتهم ومواقفهم التي سطروها بفخرعلى تخوم الغراف الذي شهد كل تلك الجولات من المنازلات ، وعرفت الأستاذ ضياء الساعدي معلّماً كان حينها في مدرسة الأهداف الأبتدائية في عهد أراد به الطاغية الأنتقام شرالأنتقام من العراقي الموظف ، وخاصّة منهم المعلّمون ، وربّما كان في قلب الطاغية حسرة في أن يكون معلّماً ولم يكن ، ولم يتشرّف بهذه المهنة الرسالية النبيلة ولايوماً واحداً في حياته ، وشاءت الأقدار أن تعطيه درساً في الممكن وغيرالممكن ، فقد صار وأصبح وكان ، ولم يكن معلّماً ، ولقّبوه بتسع وتسعون لقباً ولم يكن بينها المعلّم ، وهكذا هو المعلّم أراد له الله جل وعلا قدراً أعلى ومعنى أرفع ، وهي أنبل مهنة وأشرف صنعة وكيف ومعلّمنا الأوّل هو رسول الأمة وهاديها الأكبرمحمد (ص) ، فكان من الطاغية ماكان في الأمعان بإمتهان المعلّم وجعله يعيش الكفاف ، ويعاني ولشدّ ما عانى من شظف العيش ، ولازمة العوز والحاجة ، وكان المعلّم مجاهداً ونبيلاً وشريفاً وفارساً ، فلم يجنح ولم يقنط ، ولم ينكسر له مراد في مهنته ، فقد كان لها وفيّاً باراً أبيّاً ، وقد جمع بين جهادين عظيمين أوّلهما درسه وصفّه وطلاّبه ، ولم يتركه أو يدير له ظهرالمجن ، ولم يغفل عنه طرفة عين ، والثاني مصابرته ومكابرته في الصمود بوجه العوز والألم والفاقة ، ولكي يقوى على الزمن واقفاً لاينكسر رغم مراد المريدون من أزلام الطاغية ، وإذلالهم له بكل ما أوتي جبروتهم من قوة ، ولكن المعلّم بقي معلّماً وسيّداً ولم ينالوا منه ، ولم تثنه كل ممارساتهم معه بل وقف أمامهم شامخاً بعزم وإصرار شديدين ، وضياء الساعدي لم يكن معلّماً وحسب بل كان لنا مفردة بشرية إنسانية بنكهة أخرى شخصناتية تختزن معها ذاكرة حية تنطوي في أتونها على معاني قيم كاملة وتستبطن مفاهيم ماعادت تجد لها مكاناً اليوم وسط ضياع الكثير من معاني المنظومات الأخلاقية في زمن الهون والتردي ، وكان ضياء الساعدي بكل سيماته الشخصية رائعاً شفافاً بأحساس مرهف يتأبط ذائقة متطورة من نوع خاص ومتفرّد ، ويذكّرك حين تلتقيه بأغاني ريفنا الجميل ، وبموروثنا الحضاري والقيمي الكبير، وللكلام معه نكهة مميزة ممغنطة بروح التراث تستشف منه الصفاء والنقاء ، ورجل بهذه المقاييس وبهذه الأعتبارات لابد يحتل موقعه الحقيقي بين قلوب الناس وأبناء مدينته ، وهو فعلاً عاش ومازال يعيش في قلوبهم ، ولكن عيشه الحقيقي إستقراراً وسكناً في بيت للأيجار ، وليس مقراً دائماً له لتسكن فيه روحه وروعه وليهدأ له بال في موضوعة أو فصل دراسي يستحضره ليوم الغد لتلاميذه الذين ينتظرونه على أحرٍّ من الجمر ، وضياء المعلم الذي تقادمت به السنون صامد بوجه هدير تغيّراتها وخزعبلات أيّامها مابين الثورة والأنقلاب والجديد والتجديد ، فأراد أن يعرف مكانه الحقيقي في صفحات التجديد ، وكان جديراً به حقاً ومناسباً في مكان مناسب لشخص بمثل هكذا قيم ومقاييس وسمو شخصي وعلية في قدر ، وواصل عمله بدأب كأحد البناة في عهد الأشراقة العراقي الجديد مديراً لمدرسة الفلاح الأبتدائية ، وهو يرجو بطموح مشروع إلى عراق بالمعنى الحقيقي لكلمة جديد ، وتمر به أيّام وسنين وهو يرجو من الخيرأن يصيبه وسائرالمواطنين ، وأن يلتحف سقفاً يقيه مطرالشتاء وبرده وقيظ الصيف وحرّه ، وبات الحلم حلماً وذهبت أمانيه هباءاً وضاعت أدراج الرياح ، وذات يوم في آخرمن شهر وهو يستلم مرتبات معلّميه ، وعند إعادة عدّها مرّات تفاجأ حين وجد زيادة كبيرة في تلك المرتبات ، فمابال هذه الزيادة التي بلغت مبلغاً قدره (32.445.000) مليون دينارعراقي ، فكان الأمتحان الحقيقي لرجل مثل ضياء الساعدي حين يصبح على محك كهذا ، فهل سيتناسى القيم والمفاهيم ويركل المعايير كما ركلها برجله ساسة مؤتمنون ، ووزراء ومسؤولون حين سال لعابهم ما إن أصبحوا على تماس مع الدينار والدولار ففقدوا كل قيمهم وتوازناتهم ، وتناسوا الألم والجوع الذي عاناه أبناء شعبهم ، وراحوا يتنكرون لها بأصرار ، وإبتنوا القصور والقلاع ، وصارالحفاة من أبنائهم بالأمس يدوسون على الملايين بكعوب أحذيتهم وهم يقذفون بها على غرمائهم في صالات البلياردو والقمار والروليت ، وأصبح لايعجبهم أكل الكباب في المطاعم العراقية وببساطة شديدة لأنّه من غنم عراقي خالص ، وهم يريدونه من لحم غزال خالص ممزوج بنكهة من شحمة خنزير في مطعم بلندن أوباريس أوكوبنهاكن ، ولأنّه وبصراحة غال جداً ، ودالّة على رقي يدل على عنوان أبيه في المافيا الجديدة ، وأصبحت طرقات الرشيد والكفاح والجمهوري عتيقة ومناظرها قديمة تعافها النفوس وتستهويهم مناظر طرقات وول ستريت والشانزليزيه ومودرينات موناكو ، وصارالدجاج المشوي العراقي غيرصالح للأكل لأنه تربى تربية شرقية ، ويتنفس الهواء في بيئة عراقية وذاك أمرمقزز لهم جداً بينما عصافيرالبحر (الضفادع البحرية) المشوية بالمقبلات الصينية تلك صرخة الأكل في القرن الحادي والعشرين ، وكل هذا وضياء الساعدي لم يبدل أكلته ، فقد بقي عراقياً نقياً خالصاً يأكل مأكلنا ويشرب مشربنا ، وأصرّ بعناد محارب إلاّ أن يعيد المبلغ إلى المصرف الذي إستلم منه المرتبات ، وأعاد ضياء الساعدي بكل أباء المبلغ كاملاً ، وأعاد للموظف المسؤول بسمة كان سيفتقدها العمر كله وتحول حياته مع عائلته وأولاده إلى جحيم ، وهل يسمن كتاب شكر أويغني من جوع ، وهل يقيه برد في شتاء أوحرّ في صيف ، ولم يكن ذلك رجائنا في تشجيع حكومة محلية لأنسان وموظف في الدولة أمين على المال العام بكتاب شكر وكفى ، فما هكذا تورد الأبل وما هكذا كان عشمنا بحكوماتنا المحلية ، وأمانة المعلّم لم تقف عند حد المبلغ المسترد وحسب وإنما لأبعاد هي أكبر من تلك الأعتبارات بكثير .
أن المعلّم الفاضل ضياء الساعدي لم يكن يعلم ، ولم يدر بخلده يوماً أنّه سيجد زيادة بهذا الكم في الراتب ، وقام بردّه عفويّاً وبمباشرة منه وبدون تردد لأنّها هي وحدها المحرّك الحقيقي لأعتبارات العمق المعرفياتي المكتنز عنده في دائرة المنظومة الأخلاقية والسلوكية التي نشأ عليها وترعرع ، ولم يفكر في مكافأة على ذلك العمل أوتكريم بقدر حرصه على الأمانة ولاغير ، ولكن الوقفة الحقيقية هي في أنّه يرد أمانة في وقت شحّ فيه الأمانة والأمان ، ولها من الأعتبارات الشيء الكثير كونها مولود جديد يبشّر بخير آت في زمن إستشرى فيه اللصوص والفساد المالي في كل مفصل من مفاصل الحياة ، وباتت مرضاً عضال إستعصى ومازال على الدولة بكل قوتها وجبروتها ولم تستطيع منه خلاصاً ، ولازال ينهك جسد الأمة ويستنزف طاقاتها ، وفي هكذا ظرف إستثنائي يأتي رد الأستاذ الفاضل ضربة تصيب في مقتل وهي ترنّ في الأذن ، وتزنّ في الأسماع وتزعج مسؤولين عن دوائر ووزراء نهبوا وهربوا تناسوا المباديء وتناسوا القيم وتناسوا العراق وتناسوا كل معاناة أبناء جلدتهم في جوع وفاقة ، وضعفوا وجبنوا وردّوا أمام المباديء خاسئين ، فهم ليس لها وليس بمستطاعهم أن يكونوا شرفاء بالصنعة والتكلّف ، ولكن الشرف سطع كالشمس وبان على حقيقته ناصعاً عند المعلّم الوفي الذي لم يبع مبادئه وقيمه مهما كلّفه الثمن ومهما كانت المغريات .
غير أن المعلّم الأمين كان له أملاً في قطعة أرض سكنية يبتني عليها مايقيه من برد شتاء قارس ، ومايحميه من حرصيف قائظ ، وأنّه سيعود لبيته ذات مرة في حلم قديم عند الغروب ، ولم يجد المؤجر وهو ينتظره غاضباً عند الباب ليستلم بدل الأيجار ، وهو ينتظره على أحرٍّ من الجمر ، فيضطر المعلم الأمين أن يعطيه لأن المؤجر يعلم جيداً أنه موعد الراتب ولامناص منه ولاتأجيل ، ومبلغ البدل فاحشاً ولم يتبقى منه مايزيد عن المصروف ليبتاع لولده أوبنته شيئاً جديداً ، ولكن هذه الأمنيات ذهبت أدراجها أمنيات ولاغير ،
لقد أشبع الناس في عهد الطاغية ظلماً مرتين وثلاثاً وأربع ، وأشرق علينا عهداً يفترض به عهد الخير وعهد العطاء وعهد الشعب وعهد الحرية ، ولابد أن ينصف فيه المظلوم ثانية وثالثة ورابعة ، ولابد أن ينزاح الكرب عن صدرالمعلّم الأمين في أن يجد لنفسه إنصافاً بقطعة أرض يسكن فيها روعه ويخلوفيها لنفسه ، والمعلّم الأمين مشروع رابح للدولة وللأمة مفيد ، ونرتجي الخير من حكومتنا المحلية ، وعلى قاعدة الأقربون أولى بالمعروف ، وحكوماتنا المحلية هم أهلنا وأخوتنا وأبنائنا نتعشّم فيهم الخير ونأمل منهم المزيد ، ونرجو منهم مايثلج صدرالمعلّم الأمين وهم لابد للخير راعون ، فقد قال رسول الأمة (ص) : كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيّته . وصدق رسول الله (ص) .