يجعلها خاتمة الاحزان-شهادة-محمد الكاظم

Sat, 4 Feb 2012 الساعة : 11:35

في اللحظة الأولى التي رأيت فيها الأخاديد الصغيرة التي تتركها سرفة الدبابة الأمريكية على أسفلت شارع السعدون وهي تسير متجهه الى ساحة الفردوس ظهيرة التاسع من نيسان 2003 داهمتني فكرة إنني أعيش التاريخ الذي سيقرؤه الأطفال في مدارسهم فيما بعد، ويبحث فيه الباحثون والفضوليون ليتصوروا شكل تلك اللحظة المفصلية في تاريخ العراق. وكنت قد قدمت قبلها بأيام من بيروت كمراسل صحفي لتغطية الحرب.
وكعراقي حلم خلال سنوات منفاه بلحظة الخلاص تلك، وشاءت الصدف ان يعيشها بكل تفاصيلها ، كنت غارقا في تخيل سلسلة من السيناريوهات المستقبلية التي إستعدتها في ذهني من حوارات سابقة لي مع سياسيين منفيين ومعارضين وهاربين من بطش النظام طوال اكثر من عقد من السنين في مختلف العواصم العربية التي انتشر فيها معارضو نظام صدام الذين إلتقيتهم .
لكن ماحصل في ساحة الفردوس كان اكثر دراماتيكية مما كان أحد يتصوره، وفي تلك اللحظة التي هيمنت عليّ فيها رهبة التاريخ، سقط أمام ناظري تمثال صدام الذي كان يتوسط الساحة ، وبدأت مرحلة جديدة.
بالنسبة لي تلبسني سؤال رأيت انه مزعج وقتها، ماذا الآن ؟
سؤال تصورت إنه ليس في محله لأنه يسرق فرحة الخلاص من الديكتاتورية من تلك اللحظة التي لاتتكرر، ويخطف فرحة الإنتشاء بفكرة الإنطلاق منذ الغد لبناء دولة للإنسان ترتسم صورتها في إذهان كل العراقيين الذين راودهم في منافيهم سؤال حسود مشحون بالأسى وهم يرون الفرح والاطمئنان والرضا يطل من عيون خلق الله الأخرين. لماذا لانكون مثلهم؟
كما ترتسم صورة تلك الدولة في خيال راود كل الذين كانوا يتسمرون امام القناة الحكومية الوحيدة في العراق ليشاهدوا فيلما اجنبيا يهربون به من سحنة القائد التي تترصدهم في كل مكان ، لا ليستمتعوا بالفيلم، بل ليهربوا معه من يومهم العصيب عبر رؤية بلد آخر وفضاء آخر, ليناموا بعدها وعلى اجفانهم سؤال جارح لكل نواميس الكون، لماذا الشقاء مقدر على العراقيين فقط؟
العراقي محمل بحزنه وخيباته وثيابه السوداء واحلامه المؤجلة في الغالب، والمعبأ بتأريخ من الغضب والنار والكبريت واللهب وقوائم الموتى، وهواجس السجن والتعذيب، والذكريات المرة عن اعتقالات الفجر، وقوائم المطلوبين لخدمة الاحتياط في باب التجنيد، وحفنات العدس التي توزعها مراكز التموين،  والمشحون بذاكرة المخيم والكامب ومراكز اعادة التوطين او غرف التحقيق او المسكون بالبحث في وجوه الموظفين الدبلوماسيين في سفارات الارض عن تأشيرة الى اي مكان حتى لو كان جهنم. هذا العراقي لم يكن لديه سوى أمنية واحدة هي ان يعيش مثل البشر الذين خلقهم الله على صورته فأرادهم صدام على صورته هو، امنية العراقي تتلخص في ان يدرس ويعمل ويبني بيتا ويتزوج ويأتي في آخر النهار لعائلته حاملا بطيخة وبعض الحلوى للصغار ثم يموت بهدوء.وليس أكثر.
حين تهاوى الصنم امام ناظري وكاميرتي ، كان سؤال اللحظة ،"ماذا الآن؟"
الخراب الذي اعرفه عن العراق, والأيام القليلة التي قضيتها في بغداد قبل سقوط النظام جعلتني أتعرف واقعيا الى مقدار الصعوبة التي سيواجهها اي نظام سيأتي، لأن اي نظام جديد سيعني البدء من نقطة الصفر، والبدء ببناء الانسان والدولة والقيم والنظام والمفاهيم والعلاقات والافكار، وبالفعل اصبح المسار طويلا وعصيبا أكل من اعمارنا ومن فرصنا بالحياة الكريمة الآمنة تسع سنوات اخرى تضاف الى عقود من الانقلابات والحروب والحصارات والمنافي.
الأجابة على سؤال "ماذا الآن" كانت طويلة وعصيبة ومحملة بلحظات مصيرية ، مجلس الحكم ، الحكومة الانتقالية، الحكومة المؤقتة ، الاستفتاء على الدستور، ، الانتخابات ، الانسحاب الامريكي من المدن. ثم الانسحاب الكامل، مرورا بكل لحظات نفاد الصبر امام بعض المواقف السياسية الاشكالية اللعينة التي تشكل عقبات امام توقنا لغد مختلف، ومرورا بكل لحظات الألم التي رافقت رؤية الدم العراقي وهو يسيل على الأرصفة، ورافقت رؤية الأمهات الناحبات وهن ينبشن التراب بحثا عن عظام ابن غيبته مقبرة جماعية ، او يبحثن في بقايا الانفجار عن عضو ناقص من جثة "المدلل" الذي تزوج حديثا.
عندما تم التصويت على الدستور غالبت دموعي، لاإعجابا ببنود الدستور، ولاتأييدا لهذا السياسي او ذاك، ولالهذا الحزب او ذاك، ولا لتلك الطائفة او تلك، ولكن لأننا عشنا كعراقيين مخاضات طويلة مرة امتدت لعشرات السنين ، تخيلنا خلالها الآف الحلول التي أوصلتنا الى ضفاف الهلوسه، وتبادلنا ملايين الافكار التي قادتنا الى اليأس. تخيلنا حلول السماء فلم تأت، وتخيلنا حلول الأرض فشحت الأرض بأنصاف الحلول، جربنا الوطن فكان الوطن جحيما، وجربنا الغربة فكانت الغربة اقسى. جربنا الكلام فكان اللون الزيتوني البشع يحاصرك قبل ان تقول بسم الله . وجربنا الإستعانة بصمتنا فكان الصمت جبا ليس له قرار، وحين إستعنّا بالاخوة كانوا اخوة يوسف، وصرنا فريسة الف ذئب وذئب.
لبسنا الثياب العتيقة وتداوينا بعقاقير الجدات وأكلنا شعير الفاقة، ودخنّا السجائر المعطوبة ، وقرأنا الكتب المستنسخة، واستمعنا الى الاذاعات الموجهه المشوشة، وتناقلنا بالسر اخبارا عن منقذ لم يأت، حتى تخلينا عن احلامنا وبعنا كتبنا ومقتنياتنا وكبريائنا على الارصفة في مزاد الجوع والحاجة، وتحول طموحنا من تغيير العالم،  الى مجرد جواز سفر ووطن ، أي وطن ، وتحولت وظيفتنا في الحياة من عمارة الارض الى تحاشي الجلوس على الخازوق أو قنينة الحليب، وتحولنا من خلفاء لله في ارضه الى فئران تطاردها عناصر الحرس القومي والحرس الجمهوري والجيش الشعبي وجيش النخوة وجيش الراشدين وبقية جيوش الردة .
قرأنا صحف الاخرين واستمعنا الى اذاعاتهم، وحفظنا عن غيب قرارات مجلس الامن واسماء موظفي البيت الابيض وجنرالات الجيش، واسماء المحلليين السياسيين، ومذيعي الاخبار، لعل احدهم يحمل لنا خبر الخلاص ، كما حفظنا خرائط العالم ومنافذ الحدود واسماء المهربين وتجار البشر ومزوري الجوازات،
لكل ذلك دمعت عيناي فرحا عندما تم التوقيع على الدستور فقد شعرت وقتها اننا وصلنا الى شاطيء جديد، وبنينا حائطا نستطيع ان نتكيء عليه كأناس فقراء مساكين لاظهر لنا سوى قوانين تحفظ كرامتنا في وطن نريد أن يتركنا لنعيش ونعمل ونأكل ونكتب ونتكاثر بطريقتنا، ويزيح فوهات بنادقة المصوبة الى جبهاتنا منذ تأسيس الدولة العراقية وحتى الآن، ويخلع عنا رداء الخاكي الذي نرتديه منذ الولادة ليتركنا نموت بهدوء دون ان تكون "الكاع" كافورا لنا،.
وأن نذهب الى المقبرة دون ان تتبل اجسادنا برائحة البارود والسي فور ، نريد ان نذهب بأجساد صحيحة دون ان ينهشها العتاد الروسي او اطلاقات الأم 16 الامريكية اوديناميت القاعدة.
"ماذا الآن" اجابته كانت مؤلمة وطويلة استغرقت تسع سنوات من الاحتلال، وتسع سنوات من الشجار، وتسع سنوات من العراك العشائري على الدولة، وتسع سنوات من الانفجارات والشد والجذب والاحتقان الذي لاينتهي .وتسع سنوات ونحن نعيد انتاج داحس والغبراء في كل جلسة برلمان، ونعيد نقائض جرير والفرزدق في كل مؤتمر صحفي .
المرحلة الجديدة مرحلة نحتاج فيها الى بعض التفاؤل بمستقبل العراق وبعض الشعور بالمسؤولية التاريخية تجاه الناس ، وبعض التسامي على الجراح والطموحات السياسية المبالغ فيها فهناك الكثير مما لم يتم انجازه بعد
نعم ان هناك عشرات الفضائيات تملأ الاثير بالثرثرة. وعشرات الصحف تغطي الارصفة، وصحيح ان الجامعات اصبحت في كل محافظة، واصبح العراق اكثر بلدان المنطقة استهلاكا لبطاقات شحن الهواتف النقالة، وشوارعنا هي الاكثر ازدحاما بالسيارات. ونحن الأكثر مشاهدة للمسلسلات التركية، وقد نكون البلد الوحيد في المنطقة الذي تبدلت فيه الحكومة سلميا اربع مرات خلال اقل من عقد من السنين.
الا ان الفساد لايزال يشوه وجه الدولة والشعور بعدم الانصاف ينتاب الجميع وشيوع المنطق الطائفي والمناطقي يؤثر في النسيج العام للدولة، والبطالة لاتزال تضرب اطنابها وعدم تكافؤ الفرص لايزال حاضرا، والتخلف عن الركب العالمي اقتصاديا وعلميا واداريا لايزال يسجل مستويات عالية. والخلاص من كل هذا يحتاج الى تصورات واضحة لطبيعة المرحلة المقبلة .ويحتاج لترتيب لاولوياتنا.   
لازلت أعمل في مجال الصحافة وقمت بتغطية انسحاب القوات الامريكية من العراق بعد ثماني سنوات وتسعة اشهر من اليوم الذي غطيت فيه دخول القوات الامريكية الى بغداد. وانا اجد نفسي أكثر حماسا لطرح ذات السؤال العتيق " ماذا الأن؟"
لكن هناك سلسلة اخرى مضافة من الاسئلة التي ولّدتها تقلبات السياسة في بلادنا تحتاج اجابتها الى جرأة وأصرار وتجرد.
فبعد الإنسحاب الامريكي من العراق هل سنخطو خطوة اخرى باتجاه بناء الدولة ؟، هل سنتمتع بالكياسة اللازمة لنعطي هذه اللحظات حقها ، ام ان صراع العشائر السياسية سيستمر في خطف لحظات فرحنا بخروج الاحتلال، كما سرقت الفوضى واجندات الغرباء فرحتنا باسقاط الصنم .
 هل نحن جادون في بناء دولة، ام إن اهداف مرحلة ماقبل سقوط الصنم توقفت عند وصول نخبة سياسية الى مربع السلطة فصار اداؤها السياسي مقتصرا على معادلة مَن يزيح مَن .
بعد انتهاء التواجد العسكري الامريكي هل نحن جاهزون لتغيير تصوراتنا لطبيعة عملنا السياسي. وهل هناك جاهزية سياسية وفكرية تعمل على تأطير المرحلة المقبلة بمفاهيم تنقل التصورات العامة من مرحلة الصراع السياسي المتحرك في اطار " العملية السياسية " الى ذهنية المشاركة في بناء الدولة والتخطيط للمستقبل وتحويله الى راهن عملي يقوم على ركائز جديدة لاتقوم على مفهوم العملية السياسية الذي يستبطن استمرار الصراع ، بل يقوم على مفهوم المشاركة في "عملية البناء". فوقت الرهان على الحراك السياسي المفظي الى التواجد على خرائط السلطة قد انتهى، بعد ان صارت الانتخابات هي الفيصل في تحديد ملامح تلك الخرائط .وصارت صناديق مفوضية الانتخابات هي التي تحدد الزعامات لا البندقية أو التناغم مع رغبة الآخرين، وصار اداء السياسي هو الذي يجعل الناخب يتحمس للتصويت لا التاريخ اوالجغرافيا.
ربما علينا ان نخرج تعبير العملية السياسية من دائرة التداول بعد ان اصبح غير صالح للاستهلاك السياسي لنحل محلة تعبير الخيار الديمقراطي أو اي تعبير آخر يوحي بالثبات والديمومة اكثر من "العملية السياسية" التي توحي بالصراع ومناخ الصفقة.
هل يمكن ان نتصور سياسة قائمة على صراع المشاريع التنموية بدلا من صراع الاجندات السياسية، هل يمكن ان نتخيل حوارات وشراكات اقتصادية مع العالم بدل الحوارات والشراكات مع دوائر المخابرات الاقليمية
هل اننا مستعدون لتغيير منهجيتنا في التعاطي مع مفردة المستقبل والتأسيس لها بوعي وحكمة، هل ان  كهول السياسة وتابواتها الشرق اوسطية ستسمح بنمو افكار جديدة لبناء الدولة قد تختلف عن كلاسيكيات العمل السياسي التي جرى الاعتياد عليها منذ نصف قرن.
هل نخبنا مستعدة لتحمل مسؤولية احترام القوانين التي وضعتها ،أم ان القانون سيتحول الى مجرد" شخطة قلم" تطيح بطموحنا نحن البسطاء في ان نتكيء على جدار يحمينا ويكون ظهرا لنا .
 قد نخسر اشخاصا هنا وهناك ، وقد نخسر مكتسبات او مواقف في بعض المفاصل لكننا لانريد ان نخسر التجربة برمتها ، صحيح ان هناك  تحديات لاأحد ينكر وجودها لكن ما الخيارالمطروح امامنا .لايوجد خيار غير الاستمرار، فساعدونا على ان نفعل شيئا نفخر به امام الاجيال المقبلة بدل ان نشعر بالاحراج امامها لاننا لم نكن على قدر مسؤولية المرحلة، ولم نكن قادرين على مواجهة رهانات اللحظة التاريخية.
خرجت القوات الاجنبية ايها السادة والسيدات ، فماذا الآن؟.
سؤال مطروح امام الجميع، والاجابة عنه ليست اختيارية، لعل الله يجعلها خاتمة احزاننا
عن الصباح

Share |