الإسلام والمفاهيم الحديثة-محسن وهيب عبد- الناصرية
Thu, 26 May 2011 الساعة : 12:22

( الحلقة الأولى)
حقيقة الإسلام و معاني التنمية البشرية
1- مقدمة:
بسم الله والحمد لله وصلى الله على اشرف الخلق محمد واله الطيبين الطاهرين.
بدأ مفهوم التنمية البشرية يتضح عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية وخروج البلدان التي شاركت في الحرب مصدومة من الدمار البشري والاقتصادي الهائل وخاصة الدول الخاسرة. فبدأ بعدها تطور مفهوم التنمية الاقتصادية وواكبها ظهور التنمية البشرية لسرعة إنجاز التنمية لتحقيق سرعة الخروج من النفق المظلم الذي دخلت فيه بسبب الحروب. ومن هذا التاريخ بدأت الأمم المتحدة تنتهج سياسة التنمية البشرية مع الدول الفقيرة لمساعدتها في الخروج من حالة الفقر التي تعانى منها مثل ما قامت به مع كل من : بنجلاديش وباكستان وغانا وكولومبيا وكثير من الدول الأخرى. تطور مفهوم التنمية البشرية ليشمل مجالات عديدة منها :
التنمية الإدارية والسياسية والثقافية، ويكون الإنسان هو القاسم المشترك في جميع المجالات السابقة. ولهذا فتطور الأبنية : الإدارية والسياسية والثقافية له مردود على عملية التنمية الفردية من حيث تطوير أنماط المهارات والقيم والمشاركة الفعالة للإنسان في عملية التنمية إلى جانب الانتفاع بها.
وعلى هذا تمثل معنى التنمية البشرية حيث بدأ في الغرب على انه الركائز الأساسية التي يعتمد عليها المخططون وصانعو القرار لتهيئة الظروف الملائمة لإحداث التنمية الاجتماعية والاقتصادية.
وبعد كل هذا يمكن إجمال معنى التنمية البشرية عند الغربيين على أنها: المنهج الذي يهتم بتحسين نوعية الموارد البشرية في المجتمع وتحسين النوعية البشرية نفسها.. وعلى هذا يكون معناها: التنمية البشرية Human Development:
تعرف التنمية البشرية اليوم على أنها؛ تمتع الإنسان فردا كان او مجتمعا بمستوى مرتفع من الدخل وبحياة طويلة وصحية بجانب تنمية القدرات الإنسانية من خلال توفير فرص ملائمة للتعليم.
ولقد وجدنا ان تقارير التنمية البشرية العالمية تؤكد على ان استراتجيات واليات التنمية البشرية لا تؤدى مهامها بدون أن يكون هناك نموا اقتصاديا مصاحبا وان لا فرصة لتحقيق تحسن في الأحوال البشرية عموما الا مع اقتصاد مزدهر.
فمثلا؛ صدر عام 1994 تقرير التنمية من الأمم المتحدة أكد ان التنمية البشرية هي نموذج من نماذج التنمية والتي من خلالها يمكن لجميع الأشخاص من توسيع نطاق قدراتهم البشرية إلى أقصى حد ممكن وتوظيفها أفضل توظيف في جميع الميادين. ويخلص التقرير إلى أن التنمية المستدامة تعالج الإنصاف داخل الجيل الواحد وبين الأجيال المتعاقبة.
وعلى أساس هذا المعنى المادي تعتبر ركائز عوامل التنمية البشرية، هي:
1. الاستغلال الأمثل للموارد البشرية
2. رفع مستويات المعيشة وخفض الكثافة السكانية.
3. تحسن مستويات الرعاية الصحية وخفض الوفيات وارتفاع معدلات الحياة.
4. تطوير تقسيم العمل وارتفاع المهارات الفنية والإدارية.
5. استخدام التقنية وتوسيع استخدامها وتعليم كل أفراد المجتمع على استعمالها.
6. تطور أساليب الإدارة واعتماد أسلوب التخطيط.
7. نمو ثقافة العمل والإنجاز وتغير المفاهيم المقترنة ببعض المهن والحرف.
8. مرونة البناء الاجتماعى والمساواة الاجتماعية.
9. عدم احتكار السلطة وتحقيق الديمقراطية.
10. ضرورة تهيئة المناخ النفسي العام والتشجيع على التنمية.
ومن هنا فلا ذكر او أهمية للأساس المتين للتعامل الإنساني الذي تقرره الأخلاق، لان ذلك كما يعتبره الغربيون من اختصاص الكنيسة التي عانوا من تجربة مرة معها لاستغلالها الدين في استغلال الإنسان لأخيه الإنسان طيلة القرون التي سبقت عهد النهضة الصناعية في أوربا.
2- الجانب الروحي من الانسان:
ان تنمية الجانب الروحي في الكيان الإنساني ضروري جدا لأنه يمثل جانب الشعور والأحاسيس التي هي جوهر السعادة التي لا توفرها المادة والماديات.
ومن منّا لا يريد تحقيق النجاح و السعادة ؟
بالطبع كل منّا له طموحاته و أحلامه الخاصة في مجالات الحياة الروحانية، الأسرية الاجتماعية ، والمهنية وعليه يجب ان يكون معنى التنمية البشرية متضمنا للمنهج الذي يسعى بالإنسان لتحقيق رسالته التي خلق من اجلها على سطح هذا الكوكب وهي ان يكون خليفة... فالتنمية البشرية؛ هي السبيل للتقدم بخطوات واثقة مدروسة نحو تحديد وتحقيق هذا الهدف التي لا تتحقق سعادة الإنسان حقيقة إلا به.
فلكي تحقق السعادة يجب أن تنمي الجوانب السبعة لشخصية الانسان التي يقررها علم النفس الحديث:
• الجانب الإيماني وإخلاص العبادة لله
• الجانب الصحي والبدني
• الجانب الشخصي
• الجانب الأسري
• الجانب الاجتماعي
• الجانب المهني
• الجانب المادي
ثم إن الواقع مما هو معروف من جوانب الكيان التكويني للإنسان يجعلنا لا نعتبر بأي مصطلح للتنمية لا يشمل كل هذه الجوانب ومع هذا فلابد لأي معنى للتنمية البشرية ان يؤكد على أن الإنسان هو أداة وغاية التنمية بكل الجوانب السابقة بالإضافة إلى الجانب الاقتصادي حيث يعتبر الإسلام النمو الاقتصادي وسيلة لضمان الرخاء للمجتمع، كما هي التشريعات الإسلامية في تحصين المجتمع من الخوف والجوع.
وبما ان ميزة الإنسان الوحيدة لتعريف الرقي التكويني عنده عن باقي الكائنات على سطح هذا الكوكب؛ هي قدرته على خيار فعله التي ميزه الله بها.. لذا فلا معنى صحيح للتنمية البشرية إلا اذا كانت تعني أنها عملية تنمية وتوسع للخيارات المتاحة أمام الإنسان باعتباره جوهر عملية التنمية ذاتها أي أنها تنمية الناس بالناس وللناس.
3- ابعاد التنمية البشرية:
وعلى هذا يمكن القول أن للتنمية البشرية بعدين:
1. البعد الأول يهتم بمستوى النمو الإنساني في مختلف مراحل الحياة لتنمية قدرات الإنسان، طاقاته البدنية، العقلية، النفسية، الاجتماعية، المهارية، الروحانية ....
2. أما البعد الثاني فهو أن التنمية البشرية عملية تتصل باستثمار الموارد والمدخولات.
والبعد الاول يتحقق من خلال التعليم الذي يتحقق من خلال المناهج العلمية العقلية والمعلمين الربانيين المستوعبين لمهام الرسالة الإنسانية للإنسان على الأرض.
اما البعد الثاني فيتحقق من خلال المنهج الاقتصادي الذي يمنع استغلال الإنسان لأخيه الإنسان والسعي من خلال الأنشطة الاقتصادية التي تولد الثروة والإنتاج لتنمية القدرات البشرية عن طريق الاهتمام بتطوير الهياكل و البنية المؤسسية التي تتيح المشاركة والانتفاع بمختلف القدرات لدى كل الناس.
4- القواعد البسيطة للإسلام لقيام التنمية البشرية
بقواعد أساسية وبسيطة يعلم الإسلام الإنسان فردا كان او مجتمعا لتطهير النفس وتنمية الذات وإدارتها .. وتحقيق النجاح والتوازن في الحياة ما دام مع التمسك بتعاليم بدين الإسلام. من هذه القواعد التوجيه للبدئ بالنفس من اجل حصول التغيير الاجتماعي.. قال تعالى:
(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).
وحذر في ذات الوقت من الترف والسرف حيث بهما وفي ظلهما يكمن الدمار، فقال جل وعلا:
(واذا اردنا ان نهلك قرية امرنا مترفيها ففسقوا فيها فدمرنها تدميرا).
وقال احد الاطباء الكبار ان الله تعالى قد جمع الطب الوقائي كله في هذه الاية:
(وكلوا واشربوا ولا تسرفوا).
5- اقسام التنمية البشرية:
من اجل اجراء تنمية شاملة ومتوازنة لابد من السعي في التنمية البشرية باتجاهين، انطلاقا من واقع المجتمعات الانسانية خصوصا التي تعاني من التخلف المادي والروحي.
ففي سبيل تبسيط مصطلح التنمية البشرية يمكننا القول أن التنمية البشرية تنقسم إلى جزئين أو قسمين رئيسين:
الأول: معرفة سلبيات الإنسان في جانبه الاقتصادي، وما يعوقه عن الإنتاج ( نقاط الضعف أو الخلل ) ومحاولة إصلاحها ، وكذلك بالتخلص من سلبيات المشاعر من أمثال الخوف والقلق والغضب عدم الثقة بالنفس الأفكار السلبية ، عدم وضوح الرسالة والرؤية الهدف.
الثاني: معرفة إيجابيات الإنسان في جانبه الاقتصادي وما يساعده على زيادة إنتاجه ( نقاط القوة أو المميزات ) ومحاولة تقويتها وتعزيزها ، وكذلك بمعرفة ايجابياته العقلية في التخطيط الجيد وإدارة الوقت والتحكم بالذات و التفكير الإيجابي و زيادة الثقة بالنفس .
فالمعني الحقيقي للتنمية البشرية هو تعديل سلوك وهي سعى الإنسان نحو الكمال ومحاولته تقليص عيوبه وتعديل سلوكه متجها نحو حياة أفضل .
6- تعريف الإسلام للتنمية البشرية:
من كل ما سبق نصل إلى ان التنمية البشرية في المصطلح الإسلامي هو؛
التنمية البشرية علم تطوير الذات وبناء الشخصية هدفه إعداد الإنسان لرسالته والنهوض بالفرد والمجمع من خلال طرح عدة أفكار في مجالات النجاح والعلاقات والعمل والسلوكيات وفي قصة ادم كل هذه المعاني الاصيلة السباقة لمعاني التنمية البشرية.
7- التنمية البشرية وقصة ادم:
في قصة آدم؛ نعلم ان من مطلق عدل الله تعالى وإحسانه، لم يفترض المعصية في آدم قبل وقوعها مع علمه سبحانه وتعالى السابق وإحاطته بكل شيء.. هذا من جهة، ومن جهة أخرى. فإن آدم كأحسن مخلوقات الله تعالى، لا بد أن يأخذ تمام حسن خلقه، فذلك هو الله سبحانه وتعالى الذي أحسن كل شيء خلقه وبدء خلق الإنسان من طين.
وهكذا كان آدم أحسن المخلوقات وفي تمام حسنه لا يسوءه شيء في خلقه وجوداً وحياة وعقلاً، لذا فهي الجنة إذاً، عطاء يرتقي لمعاني الحسن في خلق آدم نظاماً يوازي نظام خلقه الراقي.
قال تعالى:
( إِنَّ لَكَ أَلاّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى) .
فإن الجنة؛ ليست مكاناً ولا بستان بقدر ما هي نظام حياة لا يسوء الإنسان فيها شيء، ولقد بدأ خلق آدم، في أحسن نظم خلقه في وجوده وحياته وعقله في الجنة، إذ أعطى الله تعالى له(عليه السلام) تمام حسن خلقه:
(قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) . وقد هداه ودله ربه (سبحانه وتعالى)؛ إلى ما يفسد نظام حياته في ذلك النظام (الجنة) وحذره من الشجرة التي تفتح له خياراً آخر في حياته تبرز معها سوءته، فيظلم نفسه وهو ما لا يريده له المحسن سبحانه، الا انه خلقه حرا مختارا، فكيف تتم الموازنة بين ارادة الله تعالى وخيار ادم ؟
لابد اذا من ان يطابق الخيار الارادة الحسنة وذلك ما يسمى بالطاعة.
(وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) و(الشجرة )هي عنوان سنة البلاء، التي كان يفترض بابينا آدم أن يكون له صبر وعزيمة في ان يكون خياره مطابقا لما يريده الله تعالى فالحسن في لزوم أمر الله تعالى و عدم التقرب إلى الشجرة، ولكنه نسي أمر الله تعالى، واقترب من الشجرة وذاقها منها.. قال:
(وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) .
تتركز التنمية البشرية والنماء والسعادة في العزم على الطاعة والصبر عن المعصية..
فالشجرة كانت بمعنى البلاء الذي دفع بآدم إلى خيار ادني في العيش، مع نشاط استعدادات أخرى لنظام ذلك العيش، تجلت بأكلها سوءة آدم وزوجته، وكان ذلك خيارهما الذي سعيا إليه بذاتهما.
إذن فالقصة تخبرنا أن الجنة وحسن الطاعة؛ هما وجهان لتمام استجابة أحسن المخلوقات لمضمون مشيئة الله تعالى في قيام وجوده ونماء حياته وتنمية الحسن في خيارات عقله التي فيها كمال تنمية البشر
والواقع هنا، والآن، بل وفي كل آن؛ وسواء على الأرض أو في المريخ، أو في أي كوكب آخر يصلح لحياة الآدمي، لو أن الناس أطاعوا دين الله تعالى وحفظوا شريعته، اي تطابقت خياراتهم مع الارادة الحسنة للمحسن جل وعلا لكانت الجنة لهم، حيث هم، وفي كل زمان ومكان، بل هي من الجنان التي فيها لا عين رأت ولا أذن سمعت وما لم يطرأ على بال بشر.
فالطاعة لله تعالى بتمام معانيها، والجنة وجهان لخلق واحد، هو خيار الله تعالى لآدم والآدميين.. حتى في الحديث القدسي:
)عبدي أطعني تكن مثلي تقل للشيء كن فيكون) .
والآن نعود لنكرر القول: إن الجنة ليست هي مكاناً بقدر ما هي نظام عيش للإنسان، لا يسوء الإنسان، فيها شيء يكرهه أو يستقبحه.
ولا تنافيّ ما إذا كان هذا على الأرض في جزء منها أو صقع من أصقاعها- كما اختار الله تعالى ارض سيناء لموسى وقومه، ليضللهم بالغمام وليرزقهم المن والسلوى، ولتنبجس من الأرض؛ اثنتا عشرة عينا لمشربهم- أو في أي كوكب آخر أو زمكان آخر.. وأن يأخذ الخليفة المجعول تمام حسن خلقه مع تمام حسن طاعته، فيما اختار له سبحانه، فكل شيء في الوجود لا يخرج عن مشيئة الله سبحانه وتعالى، سواء في الأرض أو في غيرها من الكواكب، فكل شيء مربوب لملك واحد لا سواه سبحانه.
ثم إن التشريع أصلاً ؛ جاء للتناغم مع نسق الكون والتكوين الكلي، لدوام حسن خلق الناس، وليس لحاجة من الله تعالى جل وعلا، فهو الغني الحميد، إنما التشريع؛ هو أوامر تدل الإنسان على وجهات لنفاذ السنن الحسنة في خلقه، بما ينطبق مع سنن الكون، وانماطه في نسقه الجميل الساري الى الكمال، ونهي عما يقترب به من تجاوزها، حيث يبرز السوء في تعدي حدودها، ثم إن في التشريع ومنه حدوداً لردع المتجاوز لحدود الله تعالى، ووصايا واقية من حصول المحذور، الذي تنتج عنه المفسدة، أو ترغيب في ما يوفر بلزومه الفعل الحسن.
وكل ذلك جاء لصالح الإنسان، وللبعد به عما يهبط قدره أو يحط كرامته، ويبرز سوءته.. فلقد خلقه الله تعالى حسناً:
(وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ).
وجعل الله تعالى الإنسان كريماً عزيزاً:
)وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (
وقد يدلّ على عظيم قدر الإنسان وعلو منزلته عند الله سبحانه وتعالى، هو أمره سبحانه للملائكة بالسجود لآدم حين خلقه:
)وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ( .
ولو أن الانسان لايختار الا الطاعة لله تعالى فان الله تعالى لا يغير نظام الحياة التي أرادها الله تعالى لآدم في الجنة وبما يناسب معاني الجنة، التي قلنا أنها وجه لمعاني حسن الطاعة لله تعالى.
وهكذا هي سنّة الله في الذين خلو من قبل، وفينا وفي القادمين من بني آدم، فإن تفضيل خياراتنا على ما يختاره الله لنا، هو الذي يردينا دوماً، ويهبط منزلتنا وقدرنا في معاني الوجود والحياة والعقل.
ولأجل هذا يجأر المعصوم في دعائه لربه كي يبقيه لله تعالى في بحبوحة خيارات الله ورضاه.. وفي هذه السنة وفي نفس المعنى؛ يقول تعالى:
)وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (
وفي هذا بيان واضح إلى كون الجنة وجه آخر لمعاني الطاعة لله تعالى.. وقال تعالى في هذا المعنى أيضاً:
)وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(
وقد جاءنا القرآن العظيم بأمثلة وبيان واضح على أن هناك حدود راقية لمعاني حياة الإنسان، يختارها الله سبحانه وتعالى للناس، هي التي يجسدها المعصوم، ولكن خيارات الناس المفضلة على خيارات ربهم؛ تفسد تلك الحدود الراقية للحياة المختارة من قبل الله تعالى. وهو الذي ابتدأ بخيار الله تعالى بالجنة لآدم، وهو الأصل في أمر الله تعالى الذي هو محض حسن؛ يقول الإمام علي(عليه السلام) في دعاء كميل(عليه السلام):
(فباليقين أقطع لولا ما حكمت به من تعذيب جاحديك وقضيت به من إخلاء معانديك لجعلت النار كلها برداً وسلاماً وما كان لأحد فيها مقراً ولا مقاماً) .
وفضلاً عن خيار الجنة لآدم، فإن هناك أمثلة أخرى لخيارات مماثلة بيّنها القرآن، كانت تمثل حدود حياة راقية اختارها الله تعالى لعباده، منها الحياة التي عاشها بني إسرائيل مع موسى(عليه السلام) في أرض سيناء، إذ يقول عز القائل:
)وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمْ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (
وفي ذات الموضوع يقول تعالى:
)وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذْ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنْ اضْرِب بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمْ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (
هذه الآيات بيان واضح لنظام حياة راقية مرتبة لبني إسرائيل مشفوعة بأن خيارهم لغير هذه الحياة هو ظلم لأنفسهم وليس لله تعالى، ومما يؤكد هذا أيضاً قوله تعالى لبني إسرائيل:
)... كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ( .
فقد مال بنو إسرائيل إلى الخيار الادني، من حياة وادعة يظللها الغمام راقية مع الكليم موسى(عليه السلام) إلى حياة أدنى يعانون فيها الكدح والكد.. لذا قال تعالى إزاء خيارهم هذا:
)اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءوا بِغَضَبٍ مِنْ اللهِ... (.
والأمر (اهبطوا) هنا يذكرنا بقوله تعالى بعد خيار آدم في الأكل من الشجرة عدولاً عن خيار الله تعالى له في الجنة إذ قال تعالى:
(اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (.
وقصة بني إسرائيل قصة مطابقة لقصة آدم من ناحية خيار الله تعالى لحياة الآدمي، ورفض الآدمي لخيار الله تعالى.. بل هي قصة كل آدمي في واقع الدنيا، حيث يقول عز القائل:
(.. يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) .
وفي مثال آخر مشابه لقصة آدم وقصة بني إسرائيل، هو قصة قوم سبأ.. فلقد حدثنا القرآن في مثل هذا النمط عن سبأ إذ قال سبحانه:
)لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ ءَايَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ( .
والهبوط هنا لم يكن كبيراً نسبياً، فتبديل جنتين بجنتين أقل حسناً، وحتى بعد هذا النمط فإذا استمر أعراض الناس عن خيار الله تعالى لهم، فإن هناك نمط ثالث ورابع... في نظام الحياة يتناسب مع مقدار الطاعة أو حجم المعصية.
قال تعالى في تعقيب على الوضع بعد السيل العرم:
(وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ * فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ).
فالإنسان إذ عاش في الجنة وبنظامها في خيار الله تعالى وطاعة ذلك الخيار، فإنما هو يعيش كما يعيش الجنين في رحم أمه من حيث أسلوب وطريقة التغذي والتنفس والإفراغ والإفراز والإبراز، فهو في نظام الحياة الجنينية يتغذى وحجمه يكبر ووزنه يزداد إلى آلاف الأضعاف دون الحاجة إلى أن يتعب في حصول غذائه أو أن يستعمل سوءاته لإخراج الفضلات وهذا الاستعداد الأول الذي منحه الله تعالى للإنسان، وهو يشبه إلى حد كبير حياة الجنة مع فارق في الإزاحة الكبيرة في الجنة، وإلا فإن قول الله تعالى:
(إِنَّ لَكَ أَلاّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى) .
ينطبق على النظامين لحياة الإنسان في الجنة وفي الرحم، أو يعطي فكرة لاستعدادات الإنسان الفطرية ليعيش في كلا النظامين.
وهكذا تتكرر قصة آدم على بنيه كل لحظة وكل يوم.
( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ ما كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) .
ومن كلام للإمام الصادق(عليه السلام) في الله سبحانه وتعالى:
(... وإن أحداثه وإفناءه غيره سواء، ما ازداد هو بأحداثه علماً ولا ينقص بفناء ملكه، عز سلطانه وجل سبحانه)( ).
إنه سبحانه وتعالى هو المحسن له الأسماء الحسنى، إرادته ومشيئته فعله الحسن والإحسان.. خلق الخلق بتلك المشيئة وضبطه وحكمه في سنن حسنه ثابتة أمضاها لتلك المشيئة فلا تحويل لسننه سبحانه ولا تبديل.