حريق ( الحمّاديّة )-عدنان النجم

Thu, 26 May 2011 الساعة : 12:16

  السنة اللهب يبعثر وهجها عتمة الغروب في أقصى القرية .. حيث ارتقاء الدخان جناح الريح الهادئة ، وهو يعلو قامات النخيل الشاهقة ... الجميع يهرولون ، نساء .. رجال .. صغار .. بينما اعتزل الكهول ضفاف شاطئ النهر يبوحون بمزيد من الدعاء .. الصراخ يقترب .. كلما زحفت النار تقتات القصب اليابس ... لا احد يدنو من اللهب ، وان تجرأ بعض الرجال .. فهم لا يقومون بأكثر من رش الماء على بقايا الجمر ..
   الأصوات تختلط ، ( هلاهل ) النساء بصراخ الفتيان والفتيات ، ولا احد يميز هلهولة ( تسواهن ) سوى ( خضير ) الذي اتجه على غير هدى نحو آخر بيوتات القرية ، ومن هناك شوهد وهو يطأ الجمر بقدميه حتى أدركها سالمة .. لكنها مازالت تستغيث مادام خروفها المنذور ( للعباس ) في خطر .. هيأ ( خضير ) لها ممرا بين كتل الدخان ، لتفر بحالها .. وسرعان ما عاد يحمل الخروف سالما على كتفيه وبيده الأخرى ديكا لم تمسه النار .. انطلقت من فم ( تسواهن ) هلهولة صاخبة .. تحيي بها شجاعة هذا الغضنفر الذي اقتحم اللهب ...
       وتحت شمس الحمادية قرب حافة الهور .. كان يطوقها ضاغطا خاصرتها الاسفنجية ، الرطبة ، السماء بيضاء والريح حرير تمسح وجهيهما ، هي امرأة عملاقة وجسد بصلابة جذوع النخيل وليونة البردي ، وقرية هادئة بيضاء وخضراء تدلي ذوائبها في الهور .. ما أبهج الحياة .. والمكوث في ظلال امرأة عاشقة !! النشوة الهابطة نحو تخوم الروح ، تظهر .. كما موجة حركها إعصار .. عنيفة وهي تصطدم بضفاف الإنسانين الرابضين بين لجة الماء وغطاء السماء .. فجأة تنطق ( تسواهن )  : ( خضير .. كيف تصنع لو أن تلك الافعى لدغتني ) .. هي تدرك وتعلم انه سيقطع الأفعى بأسنان أسد هائج ، وتعلم انه سيشق الجرح بمخالبه فيمتص السم بفمه ، وتعلم انه سيحملها على ظهره مسافات الدنيا كي يبرئها اللدغة .. غير ان في بطن حواء استفهامات عجيبة ، وتهيؤات فريدة .
         وبين جسد ( تسواهن ) وقلبها مساحات شاسعة زرعها ( خضير ) بعذابات أنامله .. يرسم بعشوائية القروي ما يشاء من أحلام .. يغرس فيها الدهشة واللذة ، وهي لا ترى إلا نَهم روحها لهذا الرجل العاشق ، فيسيل لعاب اشواقها لمجرد طيفه ، لمجرد نبرة صوته ، لمجرد ذكر اسمه .. تبادر نحو ميادينهما فتتامل الاماكن والترع والسواقي فتزرع نفسها عشبا وزينة ترعى اخضرار ذلك العشق ..
    لا احد يعي ، لا احد يدرك ، لا احد يتوقع ، إن خضير وتسواهن سيعيشان منفردين يوما ما ، الحياة كذبة حين يمرق فيها اللذيذ مروق الشهاب ، ولا أحد يقدر جمع العسل المنشطر من جرة مكسورة في الوحل  .. ففي ذات يوم ، وذات لحظة ، وذات شتاء ، وذات برد ، وذات قرية اسمها الحمادية ، تجمع الغمام في كبد السماء ليخفي طلعة القمر عمدا ، ورغم ذلك فكل شيء يُرى ، في ذلك الليل ..  قامات القصب ، ووهج الفوانيس .. تسواهن لا تريد أن تنام ، تعشق المكوث في رمادية الشتاء تلتذ بدفء أحلامها .. وان كانت تحتج بانتظار شقيقها ليعود من ( التسيورة ) لكنها تجد في ذلك فرصة للمكوث منفردة تتأمل لحظات يومها مع خضير . . . الليل ينتصف ، وشقيقها مازال غائبا ، أوجست في نفسها خيفة ، تململت على سريرها البارد ، سمعت نداء من أمها النائمة بجوارها ( شنهي يا يمة .. اخوج بعده ما رجع؟؟ ) ، قبل ان تجيب تسواهن ، يقطع وتر حنجرتها صوت بندقية صيد ، تجفل المرأتان ، تحملقان ببعضهما ، كانتا تتسائلان ؟؟ وقبل ان ينطقا بشئ .. ينطلق صوت البندقية مرة اخرى ، تعقبه صرخة امرأة .... تفزعان .. تركضان .. نحو خارج الدار .. أزاحت الريح الغيوم عن وجه القمر ، فبدا كل شيء جليا ، تجمع اهل القرية في بستان ( خضير) حيث يجثو على ركبتيه ، عن يمينه بندقيته التي مازال دخان البارود يتسرب عبر فوهتها ، وعن شماله ( شقيقته ) التي التفت بعبائتها جثة هامدة تسبح بفيض دمها ، بينما هناك على بعد امتار .. كان شقيق تسواهن مرميا يسبح بدمه وهو يعانق الوحل في احدى الترع  ...

Share |