بطلة كربلاء زينب رضوان الله عليها/السيد صباح بهبهاني البهبهاني

Wed, 1 Feb 2012 الساعة : 9:17

نشأة فريدة

لابد وأن العائلة قد استبشرت وابتهجت بولادة السيدة زينب ( عليها السلام ) ، لأنها أول طفلة يحتفي بها بيت علي وفاطمة ( عليهم السلام ) فقد سبق وان ازدان البيت الطاهر بوليدين صبيين هما الحسن عليه السلام الذي ولد منتصف شهر رمضان في السنة الثالثة للهجرة ، والحسين عليه السلام الذي ولد في الثالث من شعبان للسنة الرابعة من الهجرة ، وتأتي الآن زينب عليه السلام في السنة الخامسة كما يرجح ذلك المحققون ، وبعد عام أو أكثر أنجبت السيدة الزهراء عليه السلام بنتاً أخرى هي أم كلثوم لتكون شقيقة لأختها زينب عليه السلام .

وخلافاً لما كان منتشراً عند بعض العرب في الجاهلية من التشاؤم والاستياء عند ولادة البنت واعتبارها مولوداً ناقص القيمة والشأن ، بل قد تسبب لهم العار والفضيحة ، كما أنها لا تنفعهم في المعارك والحروب ، ولذلك كان بعضهم يئدها عند ولادتها بقتلها أو بدفنها حية كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم بقوله : ـ وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم * يتوارى من القوم من سوء ما بشر به اُيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون. خلافاً لذلك فقد أرسى الإسلام ثقافة سلوكية جديدة في المجتمع الإسلامي تدين تلك نظرة الاحتقار للبنت وتجعلها مساوية في الشأن والقيمة للولد ، وأكثر من ذلك فان الرسول صلى الله عليه وآله كان يتحدث عن البنات بإيجابية أكبر ، ويربي المسلمين على أن يكونوا أكثر احتفاءً وسرواً بقدوم البنت .

وننقل هنا بعض الأحاديث والنصوص الواردة عن النبي : صلى الله عليه وآله ، وعن الأئمة الطاهرين عليهم السلام

بشر رسول الله صلى الله عليه وآله بابنة فنظر إلى وجوه أصحابه فرأى الكراهة فيهم ، فقال : ما لكم ؟ ! ريحانة أشمها ورزقها على الله عز وجل . .وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم ) أبا بنات

عن حذيفة بن اليمان قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم ) : ـ خير أولادكم البنات ـ .
عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : ـ نعم الولد البنات المخدرات من كانت عنده واحدة جعلها الله ستراً من النار ، ومن كانت عنده اثنتان أدخله الله بهما الجنة ، ومن يكن له ثلاث أو مثلهن من الأخوات وضع عنه الجهاد والصدقة ـ .
عن النبي ( صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم ) قال : ـ من عال ابنتين أو ثلاثاً كان معي في الجنة ـ .
وعنه صلى الله عليه وآله : ـ من كانت له ابنة واحدة كانت خيراً له من ألف جنة وألف غزوة وألف بدنة وألف ضيافة .
عن الإمام موسى بن جعفر عن آبائه ( عليهم السلام ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : ـ ومن يمن المرأة أن يكون بكرها جارية ـ يعني أول ولدها .
عن ابن عباس قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم ) : ـ من دخل السوق فاشترى تحفة فحملها إلى عياله كان كحامل صدقة إلى قوم محاويج وليبدأ بالإناث قبل الذكور ، فانه من فرّح أنثى فكأنما أعتق رقبة من ولد إسماعيل .

وسبب آخر يؤكد على حتمية السرور والابتهاج الذي غمر البيت النبوي عند ولادة زينب هو المعرفة المسبقة التي أوحى الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وآله بالمكانة العظيمة الدور الريادي الذي ستقوم به هذه الوليدة في الأمة الإسلامية لذلك تشير إحدى الروايات إلى أن تسمية السيدة زينب ( عليها السلام ) قد تمت حكمت ونطق لهذا الاسم ..يقول شيخ جعفر النقدي : ـ لما ولدت زينب ( عليه السلام ) جاءت بها أمها الزهراء ( عليها السلام ) إلى أبيها أمير المؤمنين . ( عليه السلام ) ، وقالت : سمّ هذه المولودة

ولم يذكر الشيخ النقدي مصدر هذه الرواية ، لكن العلامة الشيخ محمد جواد مغنية نقل الرواية في كتابه : ( الحسين وبطلة كربلاء ) عن جريدة ( الجهورية ) المصرية ( 31 ـ 10 ـ 1972 م ) للكاتب المصري يوسف محمود . ويقول العلامة السيد محمد كاظم القزويني : سماها جدها الرسول زينباً ، والكلمة مركبة من زين الأب .

وتتحدث الكاتبة الأديبة عائشة بنت الشاطئ عن الأجواء التي سادت البيت النبوي عند ولادة السيدة زينب ، فتقول :

وبدا كأن كل شيء يعد الوليد بحياة سعيدة ، وأقبل المهنئون من بني هاشم والصحابة ، يباركون هذه الزهرة المتفتحة في بيت الرسول ، تنشر في المهد عبير المنبت الطيب ، وتلوح في طلعتها المشرقة ووجهها الصبيح ، ملامح آباء وأجداد لها كرام . لكنهم فوجئوا ـ لو صدقت الأخبار ـ بظلال حزينة تلف المهد الجميل ! ظلال ربما لا يكون لأكثرها مكان في كتاب تاريخ يكتب للتحقيق العلمي لكن لها مكانها في النفس البشرية ووقعها على الوجدان .حدثوا أن نبوءة ذاعت عند مولد الطفلة ، تشير إلى دورها الفاجع في مأساة ـ كربلاء ـ وتحدث بظهر الغيب عما ينتظرها في غدها من محن وآلام .

كانت المأساة معروفة فيما يقولون ، قبل موعدها بأكثر من نصف قرن من الزمان ففي ( سنن ابن حنبل ج 1 ص 85 ) أن جبرئيل أخبر محمداً بمصرع الحسين وآل بيته في كربلاء . وينقل ابن الأثير في ( الكامل ) أن الرسول صلى الله عليه وآله أعطى زوجه أم سلمة تراباً حمله له أمين الوحي من التربة التي سيراق فوقها دم الحسين وقال لها : إذا صار هذا التراب دماً فقد قتل الحسين .وإن أم سلمة حفظت ذلك التراب في قارورة عندها فلما قتل الحسين صار التراب دماً ، فعلمت أن الحسين قتل وإذاعة في الناس النبأ .

وسوف نسمع المؤرخين بعد ذلك في حوادث عامي : ( 60 ـ 61 ) يذكرون أن ( زهير بن القين البجلي ) وهو عثماني الهوى خرج من مكة بعد أن حج عام ( 60 ) فصادف خروجه مسير الحسين إلى العراق فكان زهير يساير الحسين إلا أنه لا ينزل معه ، فاستدعاه الحسين يوماً فشق عليه ذلك ، ثم أجابه فلما خرج من عنده أقبل على أصحابه ، فقال : من أحب منكم أن يتبعني وألا فإنه آخر العهد ـ ثم راح يروي لهم قصة قديمة من عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم ) : قال انه خرج مع جماعة من المسلمين في غزوة لهم فظفروا وأصابوا غنائم فرحوا بها ، وكان معهم ـ سلمان الفارسي ـ فأشار إلى أن الحسين سيقتل : ثم قال سلمان لأصحابه : ـ إذا أدركتم سيد شباب أهل محمد فكونوا أشد فرحاً بقتالكم معه ، منكم بما أصبتم اليوم من الغنائم ـ .

قال ابن الأثير : وتوجه زهير ـ بعد أن حدث أصحابه بحديث سلمان الفارسي ـ فودع أهله وطلق زوجته مخافة أن يلحقها أذى ، ولزم الحسين عليه السلام حتى قتل معه .

وكان الحسين عليه السلام فيما يروي المؤرخون يعلم منذ طفولته بما قدّر له ، كما كان دور أخته زينب حديث القوم منذ ولدت . فهم يذكرون أن سلمان الفارسي أقبل على علي بن أبي طالب عليه السلام يهنئه بوليدته ، فألفاه واجماً حزيناً ، يتحدث عما سوف تلقى ابنته في كربلاء . وبكى علي الفارس الشجاع ذو اللواء المنصور ، والملقب بأسد الإسلام !.

أكانت هذه الروايات جميعاً من مخترعات الرواة ومبتدعات السمّار ؟ أكانت من إضافات المنقّبين وتصورات المتحدثين عن الكرامات ؟ أكانت من شطحات الواهمين ورؤى المغرقين في الخيال ؟ .

ذلك ما اطمأن إليه المستشرقون وقرّره ـ رونالدسون ـ في كتابه ( عقيدة المسلمين الشيعة ) ، و ـ لامنس ـ في ( فاطمة وبنات محمد ).أما المؤرخون المسلمون فما يشك أكثرهم في أن هذه الروايات كلها صادقة لا ريب فيها ، وقلّ منهم من وقف عند خبر منها مرتاباً أو متسائلاً . وليس الأقدمون وحدهم هم الذين نزهوا مثل هذه الروايات عن الشك ، بل أن من كتاب العصر من لا يقل عنهم إيماناً بتلك الظلال التي أحاطت بمولد زينب . فهذا الكاتب الهندي المسلم ـ محمد الحاج سالمين ـ يصف في الفصل الأول من كتابه سيدة زينب كيف استقبلت الوليدة بالدموع والهموم ، ثم يمضي ـ بعد أن ينقل بعض المرويات عن النّبوءة المشئومة ـ فيمثل النبي العظيم صلى الله عليه وآله وقد انحنى على حفيدته يقبّلها بقلب حزين وعينين دامعتين ، عالماً بتلك الأيام السّود التي تنتظرها وراء الحجب .

ويمضي ـ سالمين ـ فيتساءل : ـ ترى إلى أي مدى كان حزنه حين رأى بظهر الغيب تلك المذبحة الشنعاء التي تنتظر الغالي ـ ! وكم اهتّز قلبه الرقيق الحاني وهو يطالع في وجه الوليدة الحلوة ، صورة المصير الفاجع المنتظر ؟

الفاجعة الكبرى لفقدها أمها الزهراء

بعد خمس سنوات عاشتها زينب في كنف عائلتها الحنون ، وفي ظل أجواء المحبّة والعطف ، حيث كان رسول الله صلى الله عليه وآله يظلل بيت زينب برعايته ، ويغمر أفراد ذلك البيت بعنايته وإجلاله . فلا يكاد يمر يوم لا يلتقي فيه محمد بأهل بيته ، وإذا ما سافر كان بيتهم آخر محطة ينطلق منها لسفره ، وإذا ما عاد كان بيتهم أول منزل يدخله .

روى الحاكم في ( المستدرك ) بسنده عن أبي ثعلبة الخشني : كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إذا رجع من غزوة أو سفر أتى المسجد فصلى فيه ركعتين ثم ثنى بفاطمة ثم يأتي أزواجه .
وبسنده عن ابن عمران : أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان إذا سافر كان آخر الناس عهداً به فاطمة ، وإذا قدم من سفر كان أول الناس به عهداً فاطمة . (أعيان الشيعة السيد محسن الأمين ج 1 ، ص 307

ويقول الشيخ مغنية : وكان النبي لا يصبر عن بيته هذا ، ولا يشغله عنه شاغل ، بخاصة بعد أن نبتت فيه رياحينه ، فإذا دخله قبل هذا ، وشمّ ذاك وابتسم لتلك . . . ودخله ذات يوم فأخذ الحسن وحمله ، فأخذ علي الحسين وحمله ، فأخذت فاطمة زينب وحملتها (بحار الأنوار المجلسي ج 10 ، ص )58 .فاهتزت أركان البيت طرباً لجوّ الصفوة المختارة ، وابتهاج الرسول بآله وابتهاجهم به ، وتدلنا هذه الظاهرة وكثير غيرها أن محمداً كان أكثر الأنبياء غبطة وسعادة بأهل بيته (مع بطلة كربلاء ) محمد جواد مغنية ص 22 .

وشاء الله سبحانه وتعالى أن يكون حظ السيدة زينب من تلك الحياة الهانئة السعيدة محدوداً بالسنوات الخمس الأولى من حياتها ، فما أن دخلت السنة الحادية عشر للهجرة ، وتصرّمت أيام شهرها الثاني شهر صفر ، إلا وشمس السعادة في بيت زينب قد آذنت بالغروب ، فرسول الله صلى الله عليه وآله يلبّي نداء ربه ويفارق الحياة ويلتحق بالرفيق الأعلى في الثامن والعشرين من شهر صفر سنة ( 11 هـ ).وإذا كان فقد رسول الله صلى الله عليه وآله يشكل صدمة كبرى وفاجعة مهولة عظمى على المسلمين جميعاً فانه ولا شك أشد وقعاً وأعظم أثراً على أهل بيته الملتصقين به والمتنعمين برعايته وعطفه .

وزينب الصغيرة في السن المرهفة الإحساس الرقيقة المشاعر وجدت نفسها في مواجهة هذه الرزية الكبرى ، ورأت كيف انقلبت الأجواء في بيتها رأساً على عقب من بهجة وغبطة وسرور إلى كآبة وحزن واضطراب .لقد صحبت زينب أمها الزهراء وهي تنكّب على أبيها رسول الله عند مصارعته لسكرات الموت نادبة .ـ وأويلتاه لموت خاتم الأنبياء ، وامصيبتاه لممات خير الأتقياء ، ولانقطاع سيد الأصفياء ، واحسرتاه لانقطاع الوحي من السماء ، فقد حرمت اليوم كلامك (حياة الإمام الحسن ) باقر شريف القرشي ج 1 ، ص 133 ورأت زينب أخويها الحسنين حينما القيا بنفسيهما على جدهما الرسول يودعانه وهما يذرفان الدموع ، فجعل يقبلهما وهما يقبلانه وأراد عليّ أن ينحيهما عنه ، فقال : صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم ـ . دعهما يتمتعان مني وأتمتع منهما فستصيبهما بعدي أثرة ـ . المصدر السابق

وتوالت مشاهد الألم الحسرة أمام ناظري زينب فهذه أمها الزهراء تنكب على جثمان أبيها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بعد وفاته تبكي أمر البكاء قائلة : ـ وأبتاه ، إلى جبرئيل أنعاه ! واأبتاه جنة الفردوس مأواه ! واأبتاه أجاب رباً دعاه ! ! ـ المصدرالسابق نفسه وتقول أيضاً : ـ واأبتاه وارسول الله ، وانبي الرحمتاه ، الآن لا يأتي الوحي ، الآن ينقع عنا جبرئيل ، اللهم إلحق روحي بروحه ، واشفعني بالنظر الى وجهه ، ولا تحرمني أجره وشفاعته يوم القيامة ـ (حياة الإمام الحسين ) باقر شريف القرشي ج 1 ، ص 221 ).وهذا أبوها علي بن أبي طالب عليه السلام وهو الجبل الأشم في صموده وبطولته لكنه تذوب نفسه أمام هذه المصيبة ، فيقول : ـ إن الصبر لجميل ألا عنك ، وإن الجزع لقبيح إلاّ عليك ، وان المصاب بك لجليل ، وإنه قبلك وبعدك لجلل ـ (نهج البلاغة ) الإمام علي ، قصار الحكم ، رقم : 292).

وافتقدت أمها الزهراء

بعد حوالي ( 75 يوماً ) عاشتها فاطمة الزهراء في وضع مأساوي يصعب تصويره ، وكانت زينب هي الأقرب لأمها ، والمشاركة لها في آلامها وأحزانها ، خاصة وأنها تلحظ تدهور صحة أمها الزهراء وازدياد توجعها...الحوراء في بيت والدها إمام المتقين ...طبيعي أن تنشد البنت لأبيها وتتعلق به ، وخاصة إذا ما فقدت البنت أمها فسيصبح أبوها حينئذٍ هو المنبع الوحيد للعاطفة والحنان والرعاية تجاهها . وفي علاقة السيدة زينب بأبيها علي بن أبي طالب هناك عامل إضافي يتمثل في الصفات والسمات النفسية والأخلاقية التي يتمتع بها الإمام علي والتي تفرض حبّه وعشقه وإكباره على كل من التقى به أو عاشره أو سمع عنه . بل إن أي واحدة من سوابقه ومناقبه لحرية بإخضاع النفوس والقلوب لمكانته وجلالته كما يقول أبو الطفيل :

قال بعض أصحاب النبي : لقد كان لعلي من السوابق ما لو أن سابقه منها بين الخلائق لو سعتهم خيراً

ومن عرف علياً أو تعرف عليه فلم يهيمن حب علي على قلبه فذلك دلالة على انحراف في طبعه وخلل في ذاته . وهل يكره الخير عاقل ؟ ! أو هل يبغض النور سويّ ؟ لذلك قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) للإمام علي: ـ لا يحبّك إلا مؤمن ولا يبغضك ألا منافق .

وقال أبو سعيد الخدري : كنا نعرف المنافقين ـ نحن معاشر الأنصار ـ ببغضهم علي بن أبي طالب وحتى ألدّ خصومه وأعدائه معاوية بن أبي سفيان لم يستطع كتمان إعجابه بشخصيته ( عليه السلام ) حيث قال لما بلغه قتله: ذهب الفقه والعلم بموت ابن أبي طالب فقال له أخوه عتبة : لا يسمع هذا منك أهل الشام ؟

فقال له : دعني عنك وحينما وصف ضرار بن ضمرة شخصية الإمام علي بمحضر معاوية بعد وفاة الإمام بكى معاوية و وكفت دموعه على لحيته ما يملكها ، وجعل ينشفها بكمّه ، وقد اختنق القوم بالبكاء ، وقال معاوية :

رحم الله أبا الحسن والله كذلك ، فكيف حزنك عليه يا ضرار ؟ قال : حزن من ذبح ولدها بحجرها فهي لا ترقأ عبرتها ولا يسكن حزنها وإذا كانت شخصية علي تأسر حتى قلوب أعدائه فضلاً عن أصحابه وأتباعه فما هو مدى تأثير شخصيته على ابنته القريبة منه والمتعلقة به ؟ .

نحاول في السطور التالية أن نقتطف من ذاكرة التاريخ ما سجلته من صور ولقطات عن تلك العلاقة الإيمانية الإنسانية الحميمة بين السيدة زينب وأبيها الإمام عليهما السلام ، لنرى كيف عاشت السيدة زينب في ظل أبيها.
في بيت الزوجية

وتجاوزت زينب مرحلة الصبا ، واكتمل نضجها الجسدي والنفسي ، ومع شديد رغبتها في البقاء قرب أبيها ، وفي توفير الرعاية والعناية لأخويها الحسنين ، إلا أنه كان لابد لها من الزواج ، لما يعنيه الزواج من تكامل في الشخصية ، واستجابة للسنة الإلهية التي جعلها الله تعالى في بني البشر بل في كافة المخلوقات كما يقول تعالى : ومن كل شيء خلقنا زوجين الذاريات/49 ، ولأن تعاليم الإسلام تحث على الزواج وتحبذه ، وتذم العزوبة وتنفر منها .

فعن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ـ النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني .
وعنه صلى الله عليه وآله أنه قال لرجل يقال له عكاف : ألك زوجة ؟ .
قال : لا
فقال ( صلى الله عليه وآله ) : آلك جارية ؟
قال : لا يا رسول الله
قال ( صلى الله عليه وآله آ فأنت موسر ؟
قال : نعم
قال صلى الله عليه وآله : تزوج وألا فأنت من المذنبين

وفي رواية : تزوج وألا فأنت من إخوان الشياطين (فقه النكاح للشيرازي).

وعن النبي صلى الله عليه وآله : شراركم عزّابكم وأراذل موتاكم عزابكم .

ومهما كانت كفاءة البنت وفضلها فإن ذلك لا يغنيها عن نعمة الحياة الزوجية ، ومخطئة جداً من تظن أن الشهادة الدراسية أو المنصب الوظيفي أو أي كفاءة علمية أو اجتماعية يمكن أن تصبح بديلاً عن الزواج أو أن تملأ الفراغ في حياة المرأة بدلاً عن الزواج . . إنه لو كان كذلك لاستغنت سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عن الزواج وهي لا تداني في فضلها ومؤهلاتها ، ولاستغنت ابنتها العقيلة زينب عن تحمل أعباء الحياة الزوجية لما لها من الفضل والكفاءة!.

لقد دخلت امرأة ذات يوم على الإمام الصادق عليه السلام وقالت : أصلحك الله إني متبتلة .. فسألها الإمام : وما التبتل عندك ؟
قالت : لا أريد التزويج أبداً
قال : ولم ؟
قالت : ألتمس في ذلك الفضل
فقال : انصرفي فلو كان في ذلك فضل لكانت فاطمة عليها السلام أحق به منك ، انه ليس أحد يسبقها إلى الفضل (ميزان الحكمة ) الري شهري ج 4 ، ص 275 ).

وجاء الخاطبون يتوافدون على بيت علي بن أبي طالب عليه السلام كل منهم يتمنى أن يحظى بشرف الاقتران بالعقيلة زينب ، رغبة في الاتصال بالنسب النبوي الشريف ، ولما يعرفونه من كمال زينب وفضلها وأدبها ، لكن أباهاً علياً كان يرد كل خاطب لأنه عليه السلام قد اختار لابنته الزوج المناسب والكفوء .

يقول السيد الهاشمي : إن العقيلة زينب بنت علي خطبها الأشراف من قريش والرؤساء من القبائل . . ويروى انه خطبها الأشعث بن قيس وكان من ملوك كندة (عقيلة بني هاشم ) السيد علي الهاشمي ص 31 ).

والعناية الإلهية التي أحاطت بالسيدة زينب ( عليها السلام ) ووجهت مسارات حياتها كان لابد وأن تتدخل في شأن هذا الأمر الخطير من حياة السيدة زينب ، وهو اختيار القرين والزوج المناسب الكفوء لهذه المرأة العظيمة . . وهذا ما حصل بالفعل فقد شاء الله تعالى أن تقترن العقيلة زينب بواحد من أعظم وأنبل شباب الهاشميين وهو ابن عمها عبد الله بن جعفر بن أبي طالب. واختيار الإمام علي لعبد الله بن جعفر ليكون زوجاً لابنته زينب اختيار أكثر من موفق ، فعلي يعرف مكانة أخيه جعفر ، وعبد الله ربيب للإمام علي حيث أصبح في رعايته بعد شهادة أبيه جعفر ، وأمه أسماء بنت عميس وثيقة الصلة والعلاقة بالسيدة الزهراء أم العقيلة زينب ، ثم هي قد أصبحت زوجاً للإمام علي ، إضافة لكل ذلك المؤهلات الشخصية التي كان يجدها الإمام في ابن أخيه عبد الله .

السيدة زينب في عهد والدها أمير المؤمنين

بعد أن وصل الإمام أمير المؤمنين عليه السلام من البصرة إلى الكوفة ، واستقر به المكان ، التحقت به العوائل من المدينة إلى الكوفة. ومن جملة السيدات اللواتي هاجرن من المدينة إلى الكوفة هي السيدة زينب عليها السلام وقد سبقها زوجها عبد الله بن جعفر ، حيث كان في جيش الإمام لدى وصوله إلى البصرة. والمستفاد من مطاوي التواريخ والأحاديث أن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ـ بعد انقضاء مدة من وصوله إلى الكوفة ـ نزل في دار الأمارة ، وهو المكان المعد لحاكم البلدة ، ومع تواجد الإمام في الكوفة لم يكن هناك حاكم أو أمير غيره ، فلماذا لا ينزل في دار الإمارة ؟

ويتبادر إلى الذهن أن دار الأمارة كانت مشتملة على حجرات وغرف عديدة واسعة ، وكان كل من البنات والأولاد (المتزوجين) يسكنون في حجرة من تلك الحجرات ، والسيدة زينب كانت تسكن مع زوجها في حجرة أو غرفة من غرف دار الإمارة . (كتاب (الخصائص الزينبية) للسيد الجزائري المتوفى عام 1384 هـ ، ص 68 ، وكتاب (رياحين الشريعة) للمحلاتي ج 3 ص 57 ). ومكثت السيدة زينب (عليها السلام) في الكوفة سنوات وعاصرت الأحداث والإضرابات الداخلية التي حدثت : من واقعة صفين إلى النهروان ، إلى الغارات التي شنها عملاء معاوية على بلاد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام . انقضت تلك السنوات المريرة ، المليئة بالآلام والمآسي ، وانتهت تلك الصفحات المؤلمة بالفاجعة التي اهتزت منها السماوات والأرضون ، وهي حادثة استشهاد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام .

لقد كانت العلاقات الودية بين الإمام أمير المؤمنين وبين أولاده وبناته على أطيب ما يمكن ، وفي جو من الصفاء والوفاء ، والعاطفة والمحبة . والإمام أمير المؤمنين هو السلطان الحاكم على نصف الكرة الأرضية ، ومعه عائلته المصونة وأبناؤه المكرمون ، ولكنه ـ في شهر رمضان من تلك السنة ، وهي السنة الأخيرة والشهر الأخير من حياته ـ كان يفطر ليلة عند ولده الإمام الحسن ، وليلة عند ولده الإمام الحسين (عليهما السلام) وليلة عند السيدة زينب التي كانت تعيش مع زوجها عبد الله بن جعفر ، (الإرشاد للشيخ المفيد ، ص 169 ، وذكر أيضاً في بحار الأنوار للشيخ المجلسي ، ج 41 ص 300 ، باب إخباره بالغائبات وعلمه باللغات . نقلاً عن كتاب الخرائج ) كل ذلك تقويةً لأواصر المحبة والتواصل بينه وبين أشباله وبناته .

وفي الليلة التاسعة عشر من شهر رمضان ، كانت النوبة للسيدة زينب ، وأفطر الإمام في حجرتها وقدمت له طبقاً فيه رغيفان من خبز الشعير ، وشيء من الملح ، وإناء من لبن .كان هذا هو فطور الإمام أمير المؤمنين الذي كان يحكم على نصف العالم ، وأنهار الذهب والفضة تجري بين يديه . . واكتفى الإمام ـ تلك الليلة ـ برغيف من الخبز مع الملح فقط . ثم حمد الله وأثنى عليه ، وقام إلى صلاة ، ولم يزل راكعاً وساجداً ومبتهلاً ومتضرعاً إلى الله تعالى

ولا أعلم لماذا بات الإمام في حجرة ابنته السيدة زينب ـ تلك الليلة ـ ؟

ولعله اختار المبيت في بيتها حتى تشاهد وترى ، وتروي مشاهداتها ومسموعاتها عن أبيها أمير المؤمنين في تلك الليلة ، إذ كانت تلك الليلة تمتاز عن بقية الليالي ، فإنها تحدثنا فتقول :

إنه (عليه السلام) قال لأولاده : ـ إني رأيت ـ في هذه الليلة ـ رؤيا هالتني ، وأريد أن أقصها عليكم ـ
قالوا : وما هي ؟
قال : ـ إني رأيت ـ الساعة ـ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في منامي وهو يقول لي : يا أبا الحسن إنك قادم إلينا عن قريب ، يجيء إليك أشقاها فيخضب شبيتك من دم رأسك ، وأنا ـ والله ـ مشتاق إليك ، وإنك عندنا في العشر الآخر من شهر رمضان ، فهلم إلينا فما عندنا خير لك وأبقى ـ. فلما سمعوا كلامه ضجوا بالبكاء والنحيب ، وأبدوا العويل ، فاقسم عليهم بالسكوت ، فسكتوا (كتاب «بحار الأنوار) للشيخ المجلسي ج 42 ص 277 ، باب 127 ).

وتقول السيدة زينب عليها السلام :

لم يزل أبي ـ تلك الليلة ـ قائماً وقاعداً وراكعاً وساجداً ، ثم يخرج ساعةً بعد ساعة ، يقلب طرفه في السماء وينظر في الكواكب وهو يقول : والله ما كذبت ولا كذبت ، وإنها الليلة التي وعدت بها . ثم يعود إلى مصلاّه ويقول : اللهم بارك لي في الموت . ويكثر من قول : ـ إنا لله وإنا إليه راجعون ـ ، ـ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ـ ، ويصلي على النبي وآله ـ صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم ـ ويستغفر الله كثيراً .
تقول : فلما رأيته ـ في تلك الليلة ـ قلقاً متململاً كثير الذكر والاستغفار ، أرقت معه ليلتي وقلت : يا أبتاه ما لي أراك في هذه الليلة لا تذوق طعم الرقاد ؟
قال ـ عليه السلام ـ : يا بنية إن أباك قتل الأبطال وخاض الأهوال وما دخل الخوف له جوفاً ، وما دخل في قلبي رعب أكثر مما دخل في هذه الليلة .
ثم قال : إنا لله وإنا إليه راجعون
فقلت : يا أبتاه ، ما لك تنعى نفسك في هذه الليلة ؟
قال : يا بنية قد قرب الأجل وانقطع الأمل .
قالت : فبكيت ، فقال لي : يا بنية لا تبكي فإني لم أقل ذلك إلا بما عهد إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم تقول (عليها السلام) : ثم إنه نعس وطوى ساعة ، ثم استيقظ من نومه وقال : يا بنية إذا قرب وقت الأذان فأعلميني .

ثم رجع إلى ما كان عليه أول الليل من الصلاة والدعاء والتضرع إلى الله سبحانه وتعالى . فجعلت أرقب وقت الأذان ، فلما لاح الوقت أتيته ومعي إناء فيه ماء ، ثم أيقظته فأسبغ الوضوء ، وقام ولبس ثيابه وفتح باب الحجرة ، ثم نزل إلى ساحة الدار . وكانت في الدار إوز قد أهديت إلى أخي الحسين ، فلما نزل خرجن وراءه ورفرفن وصحن في وجهه ـ ولم يصحن قبل تلك الليلة ـ فقال (عليه السلام) : ـ لا إله إلا الله ، صوارخ تتبعها نوائح ، وفي غداة غد يظهر القضاء ـ . ! فقلت : يا أبتاه هكذا تتطير ؟
فقال : ـ يا بنية ! ما منا ـ أهل البيت ـ من يتطير ، ولا يتطير به ، ولكن قول جرى على لساني ـ .
ثم قال ـ عليه السلام ـ : ـ يا بنية ! بحقي عليك إلا ما أطلقتيه ، فقد حبست ما ليس له لسان ، ولا يقدر على الكلام إذا جاع أو عطش ، فأطعميه واسقيه وإلا خلي سبيله يأكل من حشائش الأرض ـ .

فلما وصل إلى الباب عالجه ليفتحه ، فتعلق الباب بمئزره ، فانحل مئزرة حتى سقط ، فأخذه وشده وهو يقول :

أشـدد حيازيمك للموت* فإن المـوت لا قيكـا
ولا تجـزع من الموت * إذا حــل بنـاديكـا
كما أضحكـك الـدهر * كذاك الدهـر يبكيكـا .

بعد شهادة أبيها عليه السلام عاشت مع أخيها الإمام الحسن عليه السلام

إن الاحترام اللائق ، والتقدير الرفيع كان متبادلاً بين السيدة زينب الكبرى وبين أخيها الأكبر ، وهو السبط الأول لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الإمام الزكي ، الحسن المجتبى عليه السلام
إن السيدة زينب كانت تنظر إلى أخيها الإمام الحسن من مناظرين :

1 ـ منظار الأخوة
2 ـ منظار الإمامة

فمن ناحية : يعتبر الإمام الحسن الأخ الأكبر للسيدة زينب (عليها السلام) ومن المعلوم أن الأخ الأكبر له مكانة خاصة عند الأخوة والأخوات ، وقد ورد في الحديث الشريف : ـ الأخ الأكبر بمنزلة الأب ـ .

ومن ناحية أخرى : يعتبر الإمام الحسن عليه السلام إمام زمان السيدة زينب بعد شهادة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ولهذا فإن احترامها لأخيها كان ينبعث من هذين المنطلقين . وتجدر الإشارة إلى أن كل ما سنذكره ـ من الروابط القلبية بين السيدة زينب والإمام الحسين ـ فهي ثابتةً بينها وبين أخيها الإمام الحسن أيضاً .. وإذا كان التاريخ قد سكت عن التفاصيل فإن أصل الموضوع ثابت
ونكتفي ـ هنا ـ بما ذكر في بعض الكتب من موقف السيدة زينب حينما حضرت عند أخيها الإمام الحسن ساعة الوفاة :
. . . وصاحت زينب : واه أخاه ! واه حسناه ! واه قلة ناصراه ! يا أخي من الوذ به بعدك ؟!
وحزني عليك لا ينقطع طول عمري ! ثم إنها بكت على أخيها وهي تلثم خديه وتتمرغ عليه ، وتبكي طويلاً .

(السيدة زينب وأخيها الإمام الحسين)

إن روابط المحبة ، والعلاقات الودية بين الأخوة والأخوات كانت من قديم الزمان ، حتى صارت يضرب بها المثل في المحبة والمودة بين اثنين ، فيقال : كأنهما أخوان ، أو كأنهما أخ وأخت . ولكن العلاقات الودية وروابط المحبة بين الإمام الحسين وبين أخته السيدة زينب (عليهما السلام) كانت في القمة وكانت تمتاز بمزايا ، ولا أبالغ إذا قلت : لا يوجد ولم يوجد في العالم أخ وأخت تربطهما روابط المحبة والوداد مثل الإمام الحسين وأخته السيدة زينب . فإن كلاً منهما كان قد ضرب الرقم القياسي في مجال المحبة الخالصة ، والعلاقات القلبية .

وكيف لا يكونان كذلك وقد تربيا في حجر واحد وتفرعا من شجرة واحدة ؟ !

ولم تكن تلك العلاقات منبعثة عن عاطفة القرابة فحسب ، بل عرف كل واحد منهما ما للآخر من الكرامة ، وجلالة القدر وعظم الشأن .

فالسيدة زينب تعرف أخاها بأنه :

سيد شباب أهل الجنة وريحانة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وتعلم بأن الله تعالى قد أثنى على أخيها في آيات كثيرة من القرآن الكريم ، كآية المباهلة ، وآية المودة ، وآية التطهير ، وسورة ـ هل أتى ـ ، وغيرها من الآيات والسور بالإضافة إلى أنها عاشت سنوات مع أخيها في بيت واحد ، وشاهدت ما كان يتمتع به أخوها من مكارم الأخلاق والعبادة والروحانية ، وعرفت ما لأخيها من علو المنزلة وسمو الدرجة عند الله عز وجل .وتعلم انه إمام منصوب من عند الله تعالى ، منصوص عليه بالإمامة العظمى والولاية الكبرى من الرسول الأقدس صلى الله عليه وآله وسلم. مع توفر شروط الإمامة ولوازمها فيه ، كالعصمة ، والعلم بجميع أنواع العلوم ، وغير ذلك .وهكذا يعرف الإمام الحسين عليه السلام أخته السيدة زينب حق المعرفة ، ويعلم فصائلها وفواضلها وخصائصها . ومن هنا يمكن لنا أن نطلع على شيء من مدى الروابط القوية بين هذا الأخ العظيم وأخته العظيمة . وقد جاء في التاريخ : أن الإمام الحسين (عليه السلام) كان يقرأ القرآن الكريم ـ ذات يوم ـ فدخلت عليه السيدة زينب ، فقام من مكانه وهو يحمل القرآن بيده ،كل ذلك احتراماً لها

السيدة زينب وفاجعة كربلاء
لا بد مِن أن نبدأ من أوائل الواقعة ، مع رعاية الاختصار ، ليكون القارئ على بصيرة أكثر من الأمر :

مات معاوية بن أبي سفيان في النصف من شهر رجب ، سنة 60 من الهجرة ، وجلس ابنه يزيد على منصّة الحكم ، وكتب إلى الولاة في البلاد الإسلامية يُخبرهم بموت معاوية ، ويطلب منهم أخذ البيعة له من الناس. وكتب إلى والي المدينة كتاباً يأمره بأخذ البيعة له من أهل المدينة بصورة عامّة ، ومن الإمام الحسين عليه السلام بصورة خاصّة ، وإن امتنع الإمام عن البيعة يلزم قتله ، وعلى الوالي تنفيذ الحُكم . واستطاع الإمام الحسين أن يتخلّص مِن شرّ تلك البيعة ، وخرج إلى مكة في أواخر شهر رجب ، وانتشر الخبر في المدينة المنوّرة أن الإمام امتنع عن البيعة ليزيد . وانتشر الخبر ـ أيضاً ـ في مكة ، ووصل الخبر إلى الكوفة والبصرة .وكانت رحلة الإمام الحسين إلى مكة بداية نهضته (عليه السلام) ، وإعلاناً وأعلاما صريحاً بعدم اعترافه بشرعيّة خلافة يزيد ، واغتصاب ذلك المنصب الخطير . وهكذا استنكف المسلمون أن يدخلوا تحت قيادة رجل فاسد فاسق ، مُستهتر مفتضح ، متجاهر بالمنكرات . فجعل أهل العراق يكاتبون الإمام الحسين (عليه السلام) ويطلبون منه التوجّه إلى العراق ليُنقذهم من ذلك النظام الفاسد ، الذي غيّر سيماء الخلافة الإسلامية بأبشع صورة وأقبح كيفيّة !

كانت الرسل والمراسلات متواصلة بين الكوفة ومكة ، ويزداد الناس إصراراً وإلحاحاً على الإمام الحسين أن يُلبّي طلبهم ، لأنه الخليفة الشرعي لرسول الله (صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم) المنصوص عليه بالخلافة من جدّه الرسول الكريم .فأرسل الإمام الحسين (عليه السلام) إبنَ عمّه مسلم بن عقيل إلى الكوفة ، والتفّ الناس حول مسلم ، وبايعوه لأنّه سفير الإمام ومبعوثه ، وبلغ عدد الذين بايعوه ثمانية عشر ألفاً ، وقيل : أكثر مِن ذلك . فكتب مسلم إلى الإمام يُخبره باستعداد الناس للتجاوب معه ، والترحيب به ونصرته ـ كما فهمه مسلم مِن ظواهر الأمور ـ وقرّر الإمام أن يخرج من مكة نحو العراق مع عائلته المصونة وأخوته وأخواته ، وأولاده وأبناء عمّه وجماعة مِن أصحابه وغيرهم .وخاصّة بعدما عَلِم بأنّ يزيد قد بعث عصابة مسلّحة ، مؤلّفة من ثلاثين رجل ، وأمرهم بقتل الإمام الحسين (عليه السلام) في مكّة ، أينما وجدوه .. حتى لو كان مُتعلّقاً بأستار الكعبة !.

(يوم عاشوراء)

أصبح الصباح من يوم عاشوراء ، واشتعلت نار الحرب وتوالت المصائب ، الواحدة تلو الأخرى ، وبدأت الفجائع تترى ! فالأصحاب والأنصار يبرزون إلى ساحة الجهاد ، ويستشهدون زرافات ووحدانا ، وشيوخاً وشبانا.ووصلت النوبة إلى أغصان الشجرة النبوية ، ورجالات البيت العلوي ، الذين ورثوا الشجاعة والشهامة ، وحازوا عزة النفس ، وشرف الضمير ، وثبات العقيدة ، وجمال الاستقامة .

ومن ابرز أحداث هذا اليوم غير قتل الإمام الحسين عليه السلام : هي

مقتل سيدنا علي الأكبر عليه السلام
مقتل أولاد السيدة زينب عليها السلام
مقتل سيدنا أبي الفضل العباس عليه السلام
مقتل الطفل الرضيع عليه السلام

السيدة زينب تجمع العيال والأطفال

لقد أوصى الإمام الحسين أخته السيدة زينب بالمحافظة على العيال والأطفال بعد استشهاده (عليه السلام) ، ويعلم الله كم كان تنفيذ هذه الوصية أمراً صعباً ، وخاصةً بعد الهجوم الوحشي على مخيمات الإمام الحسين (عليه السلام) وعبد إحراق الخيام وتبعثر النساء والأطفال في الصحراء!

ففي ساعة الهجوم على الخيام كانت النساء تلجأ إلى السيدة زينب ، وتخفي أنفسهن خلفها ، وكان الأطفال ـ أيضاً ـ يفزعون إليها ويتسترون وراءها خوفاً من الضرب بالسياط والعصي ، فكانت السيدة زينب (عليها السلام) تحافظ عليهم ـ كما يحافظ الطير على فراخه حين هجوم الصقور على عشه ـ فتجعل جسمها مانعاً من ضرب النساء والأطفال ، وقد أسود ظهرها ـ في مدة زمنية قصيرة ـ بسبب الضرب المتوالي على جسمها !.

وبعد الهجوم والإحراق بدأت السيدة زينب تتفقد النساء والأطفال ، وتنادي كل واحدة منهن باسمها ، وتعدهم واحدةً واحدة ، وتبحث عمن لا تجده مع النساء والأطفال !.

ونقرأ في بعض الكتب : أن السيدة زينب (عليها السلام) لما بدأت بجمع العيال والأطفال ، لم تجد طفلين منهم ، فذهبت تبحث عنهما هنا وهناك ، وأخيراً . . وجدتهما معتنقين نائمين ، فلما حركتهما فإذا هما قد ماتا من الخوف والعطش !!

ولما سمع العسكر بذلك قالوا لا بن سعد : رخص لنا في سقي العيال ....

وذكر في بعض الكتب أن طفلين لعبد الرحمن بن عقيل كانا مع الحسين ، أسمهما : سعد وعقيل ، وأنهما ماتا من شدة العطش ومن الدهشة والذعر ، بعد مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) وهجوم الأعداء على المخيم للسلب . وأمهما : خديجة بنت الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام .

خطبة السيدة زينب في الكوفة

تعتبر خطبة السيدة زينب ـ في الكوفة وفي مجلس يزيد في الشام ـ في ذروة الفصاحة ، وقمة البلاغة ، وآيةً في قوة البيان ، ومعجزة في قوة القلب والأعصاب ، وعدم الوهن والانكسار أمام طاغية بني أمية ومن كان يحيط به من الحرس المسلحين ، والجلاوزة والجلادين الذين كانوا على أهبة الاستعداد ينتظرون الأوامر كي ينفذوها بأسرع ما يمكن من الوقت .

وهنا سؤال قد يتبادر إلى الذهن وهو :

إن السيدة زينب كانت سيدة المحجبات المخدرات ، ولم يسبق لها أن خطبت في مجلس رجال أو معجم عام ، وليس من السهل عليها أن ترفع صوتها وتخطب في تلك الاجتماعات ، فلماذا قامت السيدة بإلقاء الخطب على مسامع الجماهير مع تواجد الإمام زين العابدين (عليه السلام) ؟

ومع العلم أن الإمام زين العابدين كان أقوى وأقدر منها على فنون الخطابة ، وأولى من التحدث في جموع الرجال ؟

هذا أولاً .

لعل الجواب هو : أن الضرورة أو الحكمة اقتضت أن يسكت الإمام زين العابدين طيلة هذه المسيرة كي لا يجلب انتباه الناس إلى قدرته على الكلام ، وحتى يستطيع أن يصب جام غضبه كله على يزيد ، في الجامع الأموي ، بمرأى ومسمع من آلاف المصلين الذين حضروا يوم ذاك لأداء صلاة الجمعة خلف يزيد . فلو كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) يخطب في أثناء هذه الرحلة . . في الكوفة وغيرها ، فلعله لم وين يكن يسمح له بالخطابة في أي مكان آخر ، فكانت تفوته الفرصة الثمينة القيمة ، وهي فرصة التحدث في تلك الجماهير المتجمهرة في الجامع الأموي ، علماً بأنه لم يبق من آل الرسول في تلك العائلة رجل سوى الإمام زين العابدين .ولهذا السبب كانت السيدة زينب تتولى الخطابة في المواطن والأماكن التي تراها مناسبة .وليس معنى ذلك أنها فتحت الطريق أمام النساء ليخطبن في جموع الرجال ، أو المجتمعات العامة كالأسواق والساحات وغيرها ، بل إن الضروري القصوى كانت وراء خطبتها عليها السلام .

ثانياً : لقد كانت حياة الإمام زين العابدين (عليه السلام) مهددة بالخطر طوال هذه الرحلة ـ وخاصة في الكوفة ـ فكم من مرة حكموا على الإمام بالقتل والإعدام ، لولا أن دفع الله تعالى عنه شرهم ؟
فما ظنك لو كان الإمام (عليه السلام) يخطب في شارع الكوفة أو في مجلس الدعي بن الدعي عبيد الله بن زياد ، والحال هذه ؟ !
هل كان يسلم من القتل ؟
طبعاً : لا
إنهم أرادوا أن يقتلوه وهو ـ بعد ـ لم يخطب شيئاً ، فكيف لو كان يخطب في الناس ويكشف لهم عن مساوئ بني أمية ومخازيهم ويبين لهم أبعاد ومضاعفات جريمة مقتل الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه وأهل بيته ؟ !

إلى الرفيق الأعلى

إذا كان الموت شبحاً مرعباً لكل إنسان . وإذا كانت مفارقة الحياة أقسى وأشد ما يزعج الإنسان فإن الأمر كان مختلفاً لدى السيدة زينب فالموت بالنسبة لها كان يعني لقاء الله والاقتراب أكثر من رحمته .والموت عند السيدة زينب قنطرة ومعبر إلى جنة الله العريضة الواسعة ونعيمه السرمدي الخالد . وكانت ترى في الموت وسيلة نقل سريعة توصلها إلى رحاب أحبتها السابقين حيث تلقى جدها النبي وأمها الزهراء وأباها المرتضى وأخويها العزيزين. لقد طال فراقها لجدها المصطفى وأمها البتول ، فامتلأت نفسها شوقاً إلى لقائهما لكن ستار الحياة يفصل بينها وبينهما ، فمتى يماط هذا الستار ليكتحل ناظرها برويتهما ؟ .

والموت بعد ذلك أصبح الوسيلة الوحيدة المتاحة للسيدة زينب للإعلان عن احتجاجها ورفضها وسخطها على واقع الألم والضيم والعناء لكن الأمر بيد الله فهو وحده يقرر الآجال وبيده الموت والحياة . . وحينما قدر الله ( تعالى ) لها الرحيل عن دار الدنيا ، استقبلت قضاءه بصدر رحب ، فذلك ينسجم مع ما يجري في أعماق نفسها من مشاعر وخلجات .

وأسلمت الروح لله . . ورجعت نفسها المطمئنة إلى الحق راضية مرضية لتدخل جنة الله بسعادة وهناء ولتلاقي صفوة عباده الأعزاء محمد وفاطمة وعلي والحسن والحسين. إنه لا يمكننا تصوير مدى سعادة السيدة زينب بعروج روحها إلى الملكوت الأعلى .هل نشبه تلك اللحظات بوصول المسابق إلى نهاية شوط السباق ناجحاً منتصراً فهو وإن كان حين الوصول في غاية التعب والمشقة لما بذله من جهد ، لكنه فور وصوله سينقلب إلى حالة أخرى هي ذروة السعادة ومنتهى الراحة .

نعم . . لقد أكملت السيدة زينب امتحانها بنجاج ، وقطعت شوط الحياة الصعب بإخلاص ويقين ، وطوت ستة عقود من سنيّ الدنيا في جهاد رسائلي متواصل واختلف المؤرخون في تحديد سنة وفاتها ، والأرجح عند كثير من الباحثين أنها توفيت سنة ( 62 هـ ) الموافق ( 683 م ) بينما ذهب آخرون إلى أن وفاتها سنة 65 هـ .

ويتفق المؤرخون على أن وفاتها كانت في الخامس عشر من شهر رجب .

وهكذا انتقلت العقيلة زينب إلى الرفيق الأعلى . . وبقي ذكرها خالداً ينير للبشرية طريق الكرامة والمجد . ويداً بيد للتعاون لأحياء ذكرى آهل البيت ولنتعاون ونتآخى جميعاً على أن نكون أخوان في نعمته ومتمسكين بدينه ولا نعيد الحق الذي زرعه البيت الأموي قبل 1392سنة وأن الوحدة والتعاون والإخاء هو أصل الدين الإسلامي والمرجو أن نكون يداً ضاربة لكل من يريد أن يفرق صفنا ووحدتنا ولنكن دعاة حق وإصلاح ولنزيد في العلم ولأن العلم نور ومرة أخر لنحي ذكر الله ورسوله ولنتعاون لبناء الصف ونبتعد عن كلمة سني وشيعي فكلنا من أصحاب الشهادتين وأن الأصل هو الإسلام ولنكن أخوة في الإنسانية قبل إن نكون أخوة في الدين لأن الدين لله والوطن للجميع وكلنا عباد الله نفخ به من روحه في آدم وأن رضى الله سبحانه هو الهدف ولنتعاون ونتآخى لحياة أفضل والله خير حافظ وهو أرحم الراحمين .

Share |