الجواهري ...على أعتاب ذكرياتي .." أزح عن صدرك الزبدا " - الحلقة الرابعة /كريم مرزة الاسدي-امريكا

Fri, 27 Jan 2012 الساعة : 8:59

مرّ عليك في حلقتنا الأولى عن جواهرينا أنَّّ ولادته الميمونة كانت في (26 تموز 1899م / 17 ربيع الأول 1317هـ) , وعلى أغلب الظن ما دوناه هوالأصح , رغم ما نقل الدكتور عبد الرضا علي وغيره عن (فرات الجواهري) النجل الكبيرللشاعر الأكبر, أنّ الأخير فتح عينه للحياة في " 23 /7/ 1895م وكلُّ ما عداه ليس صحيحاً " (1) , ولماذا رأينا الأصوب ؟ لئنَّ ولادة أخ الشاعر الأكبر عبد العزيز , الذي يزيده تسع سنوات عمراً , كانت في (1308 هـ / 1890م) , وفق ما ثبتها السيد جعفر الحلي الشاعر الشهير (توفي 1315 هـ /1897م) في بيتيه الآتيين اللذين توجه بهما الى والده الشيخ عبد الحسين الجواهري ( 1281 هـ / 1864م -- 1335 هـ / 1916م) :
بشراكمُ هذا غلامٌ لكمْ مثل الذي بشر فيهِ (العزيزْ )
سمعاً أباه أنّ تاريخه أعقبتْ يا بشراكَ عبد العزيزْ
ومن الجدير ذكره أنّ الشيخ علي الشرقي الشاعر الشهير , هو ابن عمّة الجواهري , تربيا معاً في بيت واحد بداية حياتيهما , ويعتبر الأخ الأكبرللجواهري , ولد أيضا سنة (1890 م) , بعد عبد العزيز بعدة أشهر , والجواهري يزعم أنه أصغر من أخيه (العزيز) اثنتي عشرة سنة (2) , وهذا أيضا غير دقيق , والدقيق ما دونه الباحث القدير الشيخ جعفر محبوبة في (ماضي النجف وحاضرها) بالتاريخ الهجري , وحوّلناه الى التاريخ الميلادي ,و اعتمدناه بعد جهد وتدقيق , خلف الشيخ عبد الحسين الجواهري أربعة أولاد وبنت واحدة , وحسب التسلسل العمري , من الكبير الى الصغير : عبد العزيز - محمد مهدي (الشاعر) - هادي (المنتحر 1917م) - أختهم المدفونة في السيدة زينب - الشهيد جعفر (ت 1948).
ثم ماذا..؟ نعود والعود أحمد ! لماذا رصع شيخنا هذين البيتين المعبرين بادئاً ذي بدء ,
تعال معي لنتحادث خاطفا , والحكم لله ... يرى الجواهري أنّ مابين عمامه أجداده وجذوره الدينية ,وعراقة عائلته النجفية وتطلعه الأدبي - والاّ لم يكن هو سوى معلم بسيط - وبين " ملف..ساطع بك " يقصد ساطع الحصري (1) وبعض الملتفين حوله , أزمة كبرى , طرقت أبواب عصبة الآمم , وكتب عنها مَنْ كتب من كبار السياسيين والكتاب , بما فيهم الحصري نفسه , لذلك يقتضي الرد عليها , بل الأفاضة فيها , فأطال ونعتهم بوصف قاس ٍمرير , نتركه لـ (ذكرياتي), فالرجل متأزم منها حتى الممات , أمّا الشعرة التي قصمت ظهر البعير , والسبب الذي أدلع نيران الحرب بينهما بيت شعر ورد في قصيدة مشحونة بالحنين الى العراق أبان زيارته الثانية إلى إيران (1926م) مطلعها :
هبَّ النسيبُ فهبتِ الأشـــــواقُ وهفا إليكمْ قلبُهُ الخفـّــــاقُ
والبيت القضية ,أوالأزمة المستعصية يقول :
لي في العراق ِعصابة ٌ لولاهمُ ما كان محبوباً إليَّ عراقُ
وهل العراق الا بأهله؟ وهل الإنسان الا بالإنسان ؟ ! ألم يقلْ قيس ليلى من قديمٍ :
مرررّتُ على الديار ِديار ليلى أقبلُ ذا الجدارا وذا الجدارا
ومـــا حبُ الديار ِ شغفنَ قلبي ولكنْ حبّ مَنْ سكنَ الدّيارا
وأيضاَ الأستاذ (ساطع الحصري) , لم ينسَ المشكلة حتى وفاته , وذكرها في ( مذكراته ) الصادر سنة 1967م , ما كان لهذه القضية التي تقاذف بها الطرفان بتهمتي الشعوبية والطائفية , أنْ تأخذ هذا المدى الواسع , لولا الجذور التاريخية المريضة لحالة العراق والأمة الإجتماعية ,وتطرق إليها العالم الإجتماعي الدكتورعلي الوردي في العديد من مؤلفاته القيمة.
وربّ ضارة نافعة , وربَّ نافعة ضارة ! دفعت هذه المشكلة الشيخ (جواد الجواهري ) , أن يفاتح الشخصية النافذة في الحكم و البارزة في المجتمع السيد (محمد الصدر) لحلحلتها , فتدخل لدى الملك (فيصل الأول ) , وتمّ تعيين الشاب المعمم النحيف , والأديب اللطيف , ابن الثامنة والعشرين - وإنْ ذهب الشاعر للتصغير ! - في البلاط الملكي , وذلك سنة 1927م , وهذه المرحلة ربما يراها شيخنا جديرة بالتدوين , وفاءً لصاحب الجلالة , ومباهاة ً بزهو الإنتصار, وانتقالا لواقع حال ٍجديد فوجد نفسه بين دهاليز السياسيين , ومجالس الأنس , ومنتديات الأدب , العمامة على رأسه , وبين يديه كأسه , رمى العمامة وركب الهول :
وأركبُ الهول في ريعان ِ مأمنةٍ حبّ الحياة بحبِّ الموتِ يغريني
نعم مرحلة مهمة في حياته , وضعته بين بين , وعلى مفترق الطرق , بين إرضاء الحكّام ونزواتهم , أوالوقوف مع إرادة الجماهير وتطلعاتهم , معادلة صعبة , وتوازن رهيب , ولحظات حرجة , تارة ً يعترف بتقصيره :
تحوّلتُ من طبع ٍ لآخرِ ضدهُ من الشيمةِ الحسناءِ للشيمةِ النكرا
ومرات يتمرّد على نفسه, وينتفض طافرا لسبيله :
وليس بحرً مـــنْ إذا رامَ غايـةَ ً تخوّفَ أنْ ترمي بهِ مســـلكاً وعـرا
وما أنتَ بالمعطي التّمرّدَ حقـهُ إذاكنتّ تخشى أنْ تجوعَ وأنْ تعرى
وهلْ غيرّ هذا ترتجي من مواطن ٍ تريدُ على أوضاعها ثورة ً كبـــرى
فمن ثورته الجواهرية الكبرى قصيدته (الرجعيون) التي نظمها سنة (1929) , إثر المعارضة المتشددة لفتح مدرسة للبنات في مدينته , مدينة النجف الأشرف,ونشرتها جريدة (العراق) , ولم يُرعبها ( لصوصٌ ولاطة ٌ وزناة ُ) , وبعدها ( جربيني ) من (ضد الجمهور... في الدين ) إلى (بداعة التكوين) , و (النزغة) من (أصفق كاسه ) حتى ( يُملي " طباقه !" و " جناسه" ) , ما هكذا العهد بين الطرفين , وشتان بين (البلاط) و( الملاط) !!
فما كان ( الثائر) بقادر ٍ على الترف المقيد ,و العرف المزيف , فطفر من البلاط الملكي اللطيف الى الصراط الصحفي المخيف ,فطغت عليه صحيفته (الفرات ) ( منتصف 1930) , ولم تتجاوزعشرين عددا منها حتى غلقت أبوابها أمامه, وبعد الفوات لم يرَ نفسه الا بين المحاكم والغرامات ,والمشاحنات والعداوات ,ومهنة المتاعب والتيارات حتى أوائل الستينات , وما بينهما عاش الفاقة والحصار لثلاث سنوات , إذْ ضمّه ( جلالته) تحت رحمة قائمته السوداء ! :
فمن عجب ٍأنْ يمنح الرزق وادعٌ ويمنعهُ ثبت الجنان مغامرُ
وما هذا بعجبٍ, وإنمّا سنـّة الخلق , وطبيعة الحياة , ولا تذهب بك الظنون - أنت أيّها القارىء الكريم - إلى أنّ الصحافة وحدها سبب هذا البلاء , صاحبنا الشيخ الكبير كان يحركه دافعٌ غريزي قوي للعيش بلذة على حافة الخطر , وهاوية القدر,فهو على هذا الحال , يركض نحو الأهوال , فينظم (حالنا اليوم أو في سبيل الحكم) , وهي قصيدة قاسية ومريرة ضد الحكم القائم حينذاك , عندما إندلعت نيران المعارك المؤلمة بين عشائر الفرات الأوسط بتحريض من الساسة الكبار عام 1935م , إذْ كانت وزارة (ياسين الهاشمي) الثانية في أوج عنفوانها :
ولم يبقّ معنى للمناصب عندنا سوى أنها ملك القريبِ المصاهر ِ
وكانتْ طباعٌ للعشائر ترتجـى فقدْ لوّثتْ حتى طباع ُ العشــــائر ِ
بالرغم من أنّ السيد الهاشمي كان مؤمناً بحرية الصحافة , وصراحة القول - والحق يقال - , ولكن ربما لإضطراب الأوضاع ,وخشية من تأجيج الأوجاع ,غُلقت الصحيفة الناشرة (الإصلاح) , وأُقيمت الدعوى على الشاعر الثائر , وصاحب الجريدة العاثر , وبإيعاز ملعوب أجلت القضية ,ومن ثم أُلغيت الدعوى, و استدعى الهاشمي الجواهري ليساومه على عضوية مجلس النواب , مقابل دعم الأخير للأول ,أو سكوته على الأقل , ورفض دولة الرئيس طلباً للشاعر بإيفاده للخارج بإلحاح ٍ فامتناع ! , ولم يعلن اسمه كمرشح للمجلس , ولم تتم الصفقة , ولا إيفاده المعشوق إيفاد , ضيع المشيتين , وبعد يوم من إعلان اسماء المرشحين , يعلن الفريق ( بكر صدقي ) إنقلابه على (الهاشمي ياسين) ( تشرين الأول 1936م) ,ويُصدر شيخنا الشاب صحيفته ( الإنقلاب ) مناصرة , بل ناطقة بلسان الإنقلاب , فجبلته بُنيت لمساندة كل تمرد عادل ,أو انتفاضة وطنية محقـّة , أو ثورة شعبية صادقة , فحسَبَ الجماعة المنقلبة من العادلين المحقين الصادقين , ولم يخفت ظنـّه الحسن من بعدُ, حتى قال في ثورة ( 14 تموز ) :" جيش العراقِ ولم أزلْ بكَ مؤمنا " , وما ( لم أزلْ ) الا استمرارية (لما مضى ) , لو كنتم تعلمون !! فلكلّ جديد لذة ورنـّة , وبأنـّه " الأملُ المُرجى والمنى " !
ثمّّ أنـّه عدَّ صاحبه الهاشميَّ قد نكث العهد معه , وغدر به , فواحدة بواحدة ! وكان ممن مدحه سابقا بقصيدة مطلعها :
عليكم وإنْ طال الرجاء المعوّلُ وفي يدكمْ تحقيقُ ما يُتأملُ
وأنتمْ أخيرٌ فـــي ادّعاءٍ ومطمعٍ ٍ وأنتمْ إذا عُدَّ لميـامين أولُ
ويبدو لك من العجيب , قد رثاه أيضاً بعد وفاته , ومما قال:
ناصبتُ حكمك غاضباً فوجدتني بأزاءِ شهم ٍ في الخصام ِ كريم ِ
كمْ فترةٍ دهتِ العـــراقَ عصيبة فرّجتها بدهائــــــــــكّ المعلوم ِ
ومن المعلوم أنَ (ياسين الهاشمي ) ,غادرالعراق أبان إنقلاب بكر صدقي , متوجهاً إلى بيروت , وتوفي فيها سنة 1937م , ثم نقل جثمانه إلى دمشق , ليدفن جنب ضريح صلاح الدين الأيوبي , وربما جاء الرثاء لرد الإعتبار أو شبه اعتذار , أو كما قيل :
دعوتُ على عَمْر ٍفلما فقدتهُ بليتُ بأقوام ٍبكيتُ بكيت على عَمْر ِ
و( عَمرو ) تـُحذف واوها في الشعر عند تنوينها , فحذفتها , وحركتها , المهم الحقيقة أنَّ الهاشمي ياسين - كان أخوه طه الهاشمي رئيساً لأركان الجيش في عهده , وأبان الإنقلاب كان في زيارة للأردن - رجلٌ سياسي داهية باعتراف الجواهري نفسه , يسيره عقله باتزان محسوب , واللحظات الآتية مخطط لها من قبل , والشاعر لحظة الإلهام الشعري , يكون تحت هيمنتها تماما , لا تخطيط مسبق , ولا هم يحزنون ولا يفرحون !!لذلك هو صادق دائما في شعره مع نفسه , ومع مجتمعه , إنْ عذر أو عذل , إن مدح أو هجا , إنْ سخط أو رضى , وهذا ليس بتبرير ,ولكنه تحليل , ولك أنْ تأخذ منه ما تشاء . وأنا ذاهب للعشاء ,عشية ليلة قمراء , بعد عدة أيام من السنة الميلادية الغراء ( 2012م) , لقاؤنا في الحلقة الخامسة إن شاء الله , والسلام !
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) موقع المثقف الأحد 7 /8 /2011 - الشاعر الذي قهرت حافظته الشيخوخة - مقال بقلم عبد الرضا علي
(2)عبد نور داود عمران : البنية الإيقاعية في شعر الجواهري (مشروع رسالة دكتوراه - ص 7 - 8 .
(3) راجع الشيخ جعفر محبوبة : ماضي النجف وحاضرها ج2 ص 36 .

Share |