الحيوان في الفكر العراقي القديم -عامر عبد الرزاق الزبيدي
Fri, 20 Jan 2012 الساعة : 22:32

رغم انه يعتبر من عالم الوجود وكائن حي قد خلق في الأرض مع البشر ألا إننا ننظر ألان للحيوان نظرة استحقار , وفي بعض الأحيان نتلذذ بضربة أو تعذيبه , فأنك ترى مشاهد تتكرر يوميا صبية يركضون خلف الكلاب من زقاق إلى زقاق ويضربونها , وأصحاب العربات التي تجرها الحمير (العربنجية) وهم يضربون ذلك الحمار ضربا قاسيا حتى خروج الدم من جسمه بلا رحمه أو رأفة مع العلم انه رب رزقهم الذي يعيشون عليه , أما إذا تحدثت مع أي إنسان وتكلمت عن أحد الحيوانات يجب أن تقول (تكرم عن طارية ) , أو (أجلكم الله) .
وأثارني كثيرا عندما أسس في السليمانية حزبا أسموه (حزب الحمار) وكان للأسف محط سخرية من قبل المشاهدين بعد أن عرض في قناة العربية , (وأنا أتوقع أن يكون ذلك الحزب هو الحل لمستقبل العراق وتخليصه من العقد التي يعيش بها) .
إن نظرة العراقيين للحيوانات اليوم التي هي ليست نظرة الأمس , فأن نظرة الشعب الرافديني للكائنات الحية الإنسان والحيوان والنبات نظرة احترام وتقديس , وصيانة لحقوقها لما تعطيه هذه الكائنات من قدسية للوجود ,فالحيوان ذلك الكائن الحي الثاني في الوجود الذي بدأ مع أول وجود الإنسان , فتفاعل معه وأصبح عدوا وصديقا وكائنا أسطوريا غريبا وربا واله يخاف من سطوته .
أول ما صورة في الكهوف في شمال العراق حتى يكون قريبا له يحس بالأمان وهو يراه .
فقدس الكائنات الحيوانية البرية وتفاعل معها ودجنها وستفاد منها فائدة كانت هي المنطلق لإنشاء أعظم حضارة في الوجود .
ونأخذ لكم مجموعة من تلك الحيوانات وكيف كان يتعامل معها الفكر العراقي القديم , فكانت الأبقار في حضارة وادي الرافدين تصور في مشاهد الأختام الاسطوانية التي عثر عليها المنقبين في مختلف المواقع الأثرية وهي جزء من مشاهد الحياة اليومية لبلاد العراق القديم , فالأبقار كانت تربى في الغالب للانتفاع منها في الإعمال خاصة في أعمال الري والحراثة , وكذلك للركوب والتنقل ,بالإضافة الاستفادة من حليبها ولبنها , وعمل الجبن الذي عرف آنذاك , فكانوا ينظرون للبقرة معطية الحياة فهي التي تساهم في زراعة الأرض بالحراثة , وإعطاء الإنسان من لبنها .
أما الثور فهو من الحيوانات المهمة في بلاد وادي الرافدين , فلا عجب أن يكون اسمه رمزا للالهه العظام , فالإله نركال اله العالم السفلي يرمز له بالثور , والإله انليل ملك الإله شبه بــ((الثور البري في الجبل)), وننار اله القمر سمي بـ((ثور السماء الصغير القوي)) , وكانت من ابرز أعمال الإله ((انو)) هو الذي خلق ثور السماء بناء على طلب الآلهة انانا ((عشتار)).
ورأينا رأس الثور في قيثارة أور الشهيرة التي عثر عليها المنقب البريطاني ((ليونارد ولي)) في المقبرة الملكية , وفي هذا العمل السومري نرى إنهم أعطوا تقديسا للحيوان والموسيقى وعلاقتهم في نضج الوعي السومري .
أما رمز جميع الإله في بلاد الرافدين هو ((قرون الثور)) فالشخص الذي تراه في المسلات والأختام الاثارية وعلى رأسه قرون الثور فهذا دليل على إن هذه الشخصية هي من صنف الإله المقدسة , وهذا ما أشار إلية القران أيضا بـ(( ذي القرنين)) الشخص العابد المصلح .
ونرى تلك القرون لدى كلكامش الذي ثلثينه من الإله وثلثه إنسان فأعطي تلك المكانة وذلك التاج ((قرون الثور)) .
أما الكلب فقد كان حيوانا عاش مع الإنسان في أول بدايات استيطانه في القرى الزراعية الأولى فكان صاحبا و أنيسا وحاميا وحارسا وصائدا ومساعدا , ويعتبر الكلب أول الحيوانات المدجنة وقد ظهر في أختام الوركاء والعبيد , وكان السومريون يجلبون الكلب معهم في السفينة أثناء إبحارهم وذلك لطرد الأرواح الشريرة , وكانوا يصنعون تماثيل للكلاب من الفخار وأخرى من الحجر باعتبارها تعويذة لطرد الشر والشياطين , ويوضع بعض الأحيان على عتبة الباب لكي يصد الأرواح الشريرة ويمنعها من دخول البيت .
ورأينا مجموعة كبيرة من القبور لسكان وادي الرافدين وهم يدفنون كلابهم معهم وذلك لاعتزازهم بالكلب حتى انه يوصي أن يدفن كلبه معه , وهذه الحالة نراها جليا في أحد القبور الذي اكتشف في مدينة العبيد , وقد نقله الاثاريين الى متحف الناصرية وهو يرجع الى أربعة آلاف عام قبل الميلاد .
ومن الالهه التي صاحبت الكلاب الالهه ((كولا)) وهي إلهه الصحة عند السومريين وتصور دائما مع كلب يكون هو رمزها , وهناك صور في القطع الأثرية تصور مرور الكلاب امام مواكب الملوك , ليس هذا فقط بل كان الكلب يذكر اسمه في الحكم والأمثال السومرية بكل فخر لهذا الحيوان المحترم في تلك الحضارة ويقول المثل السومري : ((أيتها الكلبة تتمشين خلف الرجل كالضبع)) , والمثل الأخر ((تتحدث الكلبة قائلة بفخر : اذا كان لأطفالي لون ضارب إلى الصفرة أو لون داكن فمهما يكن من شيء إني أحب صغاري)) , وهم يصفون حب الأمومة ويجسدونه بالكلبة لتعلقهم بهذا الحيوان لأعطاءة الصورة بمثال حب الأمومة , ويقول المثل السومري الآخر ((في مدينة بلا كلاب يصبح الذئب مشرفا)) .
أما الحمار فقد كثرة تصويره في مشاهد الأختام والرسوم الجدارية , وقد عثر المنقبين الاثارين رسم في موقع أم الدباغية وهي رسوم عديدة على جدران أبنيتهم التي كانت تمثل حيواناتهم المفضلة وهي الحمير .
ونرى في أحد النصوص المسمارية للإمبراطور شولكي ملك العراق القديم وهو يصف نفسه ويقول ((أنا كالبغل الجبلي)) لعملة وجدة وتحمله عناء العمل , وصبره وقوته , تلك الصفات التي يتحلى بها البغل فهو يفاخر حيث يصف نفسه بالبغل .
أما الجدي ((الماعز)) فكان حيوان مستخدم في العراق القديم بكثرة , وأرتبط بذاكرته وقدس لعملة ومثابرته مع الإنسان حيث تذكر الأسطورة الرافدينية إن أحد أسماء الإله انكي يرتبط بخلق الحيوانات إذ إن من أسمائه ((دراديم)) أي خالق الماعز البري , والماعز هو أيضا رمز للإله ((تموز))((دموزي)) اله الخصب والذكورة في العراق القديم , وقد عثر على تمثال للجدي الماعز وهو مجنح في المقبرة الملكية في أور مصنوع من الذهب ويرتكز بأطرافه الأمامية على شجرة مزهرة من الذهب , والماعز أيضا مطعم بالازورد .
أما العقرب فقد وجدناه في كثير من الرسوم الفخارية من سامراء وجرمو وحسونة وحلف وهي ترمز للإخصاب والعطاء, حيث يرمز العقرب إلى الإله ((اشخارا)) وهي ربة الزواج والتكاثر والولادة , والعقرب يرمز إلى أفكار الخصوبة لكثرة ما تبيض , وهي ترمز أيضا إلى الأم التي تأكلها أطفالها عند الولادة .
أما الثعبان فكانت له مكانه خاصة عند السومريين فقد كان لها ارتباط بالخلود كما جاء في ملحمة كلكامش , والأفعى هي رمز للإله ((نينكيزيدا)) واستفادوا من الثعبان للعلاج حيث وجد المنقبين الأمريكان في لكش على لوح فخاري ملتفة عليه ثعبانيين وتضع سمهما في ذلك الإناء , ويرمز الثعبان للخصب , وكثيرة هي الأختام والأحجار والفخاريات المصورة لشكل الأفعى .
أما الطيور فقد كانت محط إجلال لسكان وادي الرافدين بما لها علاقة بالسماء وارتباطها بالأعلى , وقد اهتم السومريون بالطيور وتربيتها والاستفادة منها , وهناك قوائم لأنواع الطيور وأسمائها مثل ((البطة ـ الوزة ـ الدجاجة ـ الحمامة ـ الصقر ـ النسر ـ الديك ـ الهدهد ـ الطاووس)) ,وقد مثل أحد أنواع الطيور وهو النسر في مسلة العقبان لملك لكش ((اي اناتم)) حيث تقوم النسور بمساعدة ذلك الملك بضربة للأعداء , والنسر هو رمز الإله ((ننكرسو)) اله الري والأقاليم , وكانت مقر عبادته مدينة ((كرسو)) .
أما الأسماك فكثيرا ما نراها في القطع الأثرية ومنها الأختام الاسطوانية , وعملت منها تماثيل من الصدف والفخار والحجر والذهب بشكل سمكة , ولقد نقشت مشاهد الأسماك قرب الإله ((انكي ـ ايا)) كما نقشت مع رمز الالهه وبكثرة لتبرهن على أهمية الأسماك في مراسيم التعبد المقدمة للالهه .
أما الخنزير فكان حيوان مهم لبلاد وادي الرافدين حيث دجنة وأصبح حيوان أليف لا يستغنى عنه , وكثيرا ما نرى بالقطع الأثرية الخنازير المستخدمة في المزرعة , وكان الخنزير يرتبط بالإله المقدس تموز .
وأريد ألان أن أرجعكم إلى قصة الطوفان لتلاحظ أهمية الحيوان لفكر وفلسفة العراقي القديم , ففي أسطورة الطوفان السومرية نقرأ انه بعد أن تم خلق الإنسان قامت الالهه بخلق الكائنات الحية ((تكاثرت الحيوانات في كل مكان , وأوجدت الحيوانات من ذوات الأربع من كل صنف وزينت بها السهول)) .
وأثناء عمليات التنقيب الحديثة التي جرت في العراق وجدنا بعض القبور وهي على شكل جرار لكن الملفت بذلك إن تلك الجرار كانت قبور لحيوانات لم يعرف نوعها لحد ألان .
كما عثر الاثاريون في مدينة ايسن الأثرية (أطلالها في الديوانية) على مجموعة من المقابر معظمها للكلاب وهذا ما أكدته الهياكل العظمية للكلاب التي دلت انه حيوانا مقدسا من قبل أهلها , وهذه القبور عددها ثلاثين قبرا , ويظهر أن الكلب عومل معاملة محترمة خلال عملية دفنه تدل على قدسيته في مدينة ايسن .
وليس هذا فقط بل كانت نصوص في القوانين العراقية القديمة تحفظ هيبة الحيوان , وعدم قتلة أو ضربة أو تعذيبه , حيث تضع أشد العقوبات بحق المخالف والمتجاوز , وأن كان ذلك نادرا ما يحدث .
وبهذا نستطيع أن نؤكد بأن حقوق الحيوان لم تبدأ من أمريكا أو أوربا بل بدأت في تلك البقعة المباركة وادي الرافدين (العراق) وأعطوه كل ما يستحق , واستفادوا من ذلك الكائن الحي ككائن مشارك في الحياة تفاعلوا معه وتفاعل معهم .
إذن كم نحن بحاجة أن نرجع إلى الفكر الرافديني الأصيل , وأن نكون أكثر رأفة ورحمة وعقلانية , فهاهم الغرب ألان بلغ بهم الحد إنهم لايستغنون عن الحيوان في كل نضريه أو تجربة أو رحلة , وبلغ بالحيوان الحد في ذلك العصر انه يضحي بنفسه لأجل البشر فلا يجرب علاج عالمي إلا على الحيوان أولا قبل أن يتم استخدامه للبشر وكذلك اللقاحات والأمصال .
منقب آثـــــار
دائرة آثــــــار ذي قار


