الصابئة المندائيون وأعيادهم ..!-نعيم عبد مهلهل-دوسلدورف
Mon, 23 May 2011 الساعة : 10:01

وفي الجنوب حيث الماء الوفير عاش المندائيون مع أهل البطائح دون أي شعور من الطرفين بالتنافر ، بل أن التعايش كان قائما على مدى الأزمنة وكانت القبائل العربية في الجنوب العراقي تستقبل الوافد المندائي الذي يحمل بضاعته ورؤاه وقراءات الطالع في سكن خاص وينال شيئا كبيرا من الاحترام من قبل شيخ القبيلة ، ويكفي للمندائيين أنهم عاشوا بين سكان الأهوار ومدنهم منذ تأسيسها وكان لهم الدور الكبير في تأسيس المناشط الحضارية الأولى في تلك المناطق وخاصة المؤسسات التربوية والإدارية . وأصبح ذلك التعايش يمثل صورة للاندماج الاجتماعي مع امتلاك هذه المكونات خصوصياتها الثقافية والروحية ولم يكتب يوما أن أهل الأهوار منعوا مندائيا من إقامة طقوسه بالرغم من حرص الصابئة على إقامة طقوسهم بعيدا عن المشاهدة العامة لسكان تلك المناطق وربما كان كهنتهم الروحيون يدعون من أشراف القوم من المسلمين وأصدقائهم الموثقين لمشاهدة وتأمل هذه الاحتفالات حيث أرتنا الوثائق والصور التذكارية للمجالس المحلية والبلدية لمدن وألوية وقصبات الجنوب العراقي في بداية الحكم الوطني في العراق وجود شخصية مندائية معروفة ومؤثرة ضمن أي تشكيلة من هذه التشكيلات.
ويمكن أن نقرب الصورة بشكلها الروحي والتذكاري مع لحظة عشتها في ناحية الكحلاء عندما كنت جندياً لأشاهد مرة أخرى متعة هذا الطقس في واحد من أعيادهم عندما صار الماء مغتسلا لطهارة الروح والبدن ، حيث نزل رجال الدين بملابسهم البيض الناصعة الى ماء النهر وسط تجمهر أبناء الطائفة حيث مراسيم زواج بين شابين مندائيين صبغت حمرة البراءة والخجل خد العروس لأرى في مرآة انعكاس أزمنة بعيدة كان فيها من فرط محبة التعايش بين المندائيين وسكان الأهوار أن يقولوا نحن من ( معدان الصابئة ).
كان الماء يغسل ذاكرة كل شيء ويديم وصل الحياة من خلال صناعة المتغير لأزمنة وجود أي هاجس حياتي ، وكانت الحضارات وحتى اليوم تخشى في موتها شيئين لاغير ،جنون أباطرتها وشح الماء ، فجنون الأباطرة يفضي الى الحرب المدمرة ، وشح الماء تفضي الى العطش وبالتالي موت الأخضر واليابس وكل حي.
لهذا نظر المندائيون الى الماء بوعي وقدسية وخشوع ،وربما هم تواصلوا مع الطقس الروحي الأول الذي اصبغ فيه يحيى المعمدان جسد يسوع ( ع ) ، ومنحه بركة الرؤيا والنبوءة والبشارة ، فكان يمثل في أدبياتهم الدينية والأسطورية والتراثية شيئا ذكرته الكتب ومشوا على الذكر ولم يحيدوا عنه قيد أنملة حتى قال أحد كهنتهم لي في ذلك المكان على ساقية ماء باردة في هور الكحلاء : منه نأخذ الحياة ، والحياة تأخذ وجودها من الرب المزكي.
هم يجدون في الماء مغتسلاً لكل خطيئة وصانعاً للشيء الذي يكونَ فيهم الشعور والتسامي والخانعة بما يملكون ، لهذا فهم بتكوينهم الطبقي يقتربون من الاشتراكية بمفهومها العلمي وقلما تجد بينهم الفوارق المادية وخاصة في الأزمنة القديمة ، وطالما يكون الماء تجدهم يجاورنه في ألفة العيش والمحبة برغم انهم لا يسترزقون منه ولكنهم يعايشونه في لحظة التكريس والتعميد واقامة النذور والأعياد وكل ما يحتاجه المندائي ليكون قريبا من خالقه كما يعتقد كهنتهم بالقول : (( إن الماء هو طريق للأيمان بان التعميد (المصبتا) هو الطقس الضروري لإنقاذ الأنفس من براثن الأسرار المادية وتقوية النفس البشرية بإنعاشها بنور الحياة المتجسد بالمياه الحية الجارية.))
فكل ماء جارٍ هو الحياة في تحولاتها التي لا تتوقف ، هكذا يعيش فيهم المعتقد هؤلاء الذين يسكنون في حضن الطبيعة وقرب مراعي القصب ومدن الجاموس والأساطير.
يحتفون مع معدان المكان بذلك الألق الحياتي الذي توارث من تلك الأزمنة التي لم تسقط في بئر الانقراض والنسيان بل أبقوها حية وفعالة ومبتهجة بما تؤديه من لحظة متسامية مابين الشعور والإحساس إذ يختلط المادي في الحسي فتولد نشوة الوصول وهي شيء من الغنوص كما عند المتصوفة في قولهم : كلما اسبح في خياله يمنحني بهاءه ودهاءه وفطنته. وكذا المندائيون يفعلون ذات الشيء لحظة اكتساب طهارة الماء وسيره إللا منتهٍ ، فصورتهم على ضفاف دجلة الكحلاء وهم يمارسون طقوسهم يعكسون للناظر الصورة الشجاعة والمؤمنة بما زرع في قلوبهم من إصرار وإدراك ، وهكذا أحسست هناك بأن المعدان ليسوا فقط هؤلاء الذين دفعتهم طبيعة القدر الحياتي وظروف المكان ليكونوا هكذا حراس الأبد لقطعان الجواميس التي كانت في يوم ما من الحيوانات المقدسة كما في غابر الزمن السومري وعند الهنود وغيرهم من الشعوب. فيكون الامتداد البيئي والروحي بين معدان الإسلام ومعدان الصابئة هو امتداد لحياة المكان وأصالته..!
دوسلدورف 2011