الزوال.. خطر يتهدد بيوت بغداد التراثية
Sun, 18 Sep 2011 الساعة : 8:45

وكالات:
مع ما نراه من إعمار غير منظم في بغداد تصاحبه أعراض حمى الحفر والترقيع وصنع تلال من الأتربة وتدمير بنى الإسفلت ، يقف خطر فقدان التراث المعماري والنسيج الحضري التاريخي لبغداد كإشكال في غاية الأهمية ،
الأمر الذي يدعونا للقلق من فقدان العاصمة هويتها التراثية وتغيير أنماطها المعمارية بأخرى عشوائية ولا تعبّر عن روحها وأصالتها .
التغييرات التي طرأت على شكل بغداد وأثرت في بيوتها التراثية لم تكن بسبب أضرار الحرب التي حدثت في المدن فقط ، ولكن أيضا بسبب عدم وجود سياسات التخطيط الحضري لحماية المناطق القديمة من العاصمة. ومن المعروف أن الهندسة المعمارية التقليدية في بغداد تمثلت في جماليات عديدة، إلا أن الإبداع الأكثـر ظهورا يكمن في الشرفات التي تخرج من الطوابق العليا وتطل على الأزقة الضيقة ، وغالبا ما تتقارب الشرفات من بعضها لضيق الشوارع ، ويبدو هذا واضحا في الكثير من الأزقة ، مثل المربعة والحيدر خانة وسوق حمادة ، فضلا عن مناطق أخرى في الاعظمية والبتاوين والكاظمية ، وعلى الرغم من أن أكثـر هذه المباني مهدمة ومتروكة إلا أنك حين تمر بجوارها تتخيل وكأنك تسمع أصداء الموسيقى العراقية التقليدية وصوت الغزالي ومحمد القبنجي ، وتشم رائحة الشاي مع الهيل.
ذكريات لا تقدر بأثمانٍ
يقول المهندس المعماري خالد إبراهيم إن " تراث العراق المعماري الثمين لا يمكن تعويضه بأي ثمن من الإثمان " . مشددا على انه يتعرض للتهديد المستمر من خلال الإهمال المتعمد ، وعمليات التجديد التي تقوم بها بعض الجهات الحكومية غير المنظمة . داعيا إلى وضع قانون خاص يقوم بحماية هذه المناطق من التلف وسوء الاستخدام ، فاغلب هذه البيوت جرى تحويلها الى مخازن ومحال تجارية .
وترى النائبة ميسون الدملوجي: أن الإهمال المتفشي في أوساط المجتمع العراقي بخصوص بيوت بغداد التقليدية المزينة بالشرفات ظاهرة غير مقبولة وان مسؤولية المحافظة على ما تبقى من وجه بغداد القديم تقع على عاتق الجميع. ودعت إلى وقم عمليات التدمير من خلال الاستخدام غير المناسب، فغالبية هذه البيوت تستخدم الآن لأغراض تجارية وصناعية وليست سياحية كما يفترض بها أن تكون.
من جانب آخر، دعا عدد من المهندسين إلى إنشاء مناطق تجارية جديدة لتخفيف الضغوط على المناطق التراثية التي نريد حمايتها.
ويوضح المهندس البلدي احمد عزيز أن التمدد الذي شهدته ورش الحدادة ومخازن المواد الاحتياطية على حساب المناطق التراثية بسبب انعدام البدائل للنشاط التجاري والصناعي ساهمت في تدمير التراث البغدادي إلى درجة كبيرة. وان ما فقدناه في السنوات الأخيرة من شواخص تراثية يعد بحق كارثة محبطة للآمال.معربا في الوقت نفسه عن مخاوفه من دعوات لإعادة إعمار بغداد "لتبدو وكأنها دبي" دون أي اعتبار إلى المناطق التاريخية ، ولاسيما في وسط المدينة. "هذا سيؤدي إلى خسارة كاملة لتراث بغداد" .
ويؤكد المتخصصون على الضرورة الملحة لبدء حملة فورية من جانب منظمات المجتمع المدني لزيادة الوعي بشأن المساكن التاريخية لبغداد والمحافظة على تراث الحضارة العراقية.
حلقة الوصل بين الحاضر والماضي
ويشير عمار حسن الناشط المدني إلى أن "البيوت القديمة في العاصمة كانت من أكبر مراكز جذب السياح في الماضي" ، مضيفا "ناهيك عن أنها تمثل ما تبقى من بغداد. مؤكدا "أن الضرر الذي أصاب المساكن التراثية القديمة يرجع إلى المدى الطويل من الجهل وبسبب تحويل بعض المنازل إلى محال تجارية ومرافق التخزين ، وخلق صورة مشوّهة للواقع المعماري لمدينة بغداد".
فيما يشير عدد من أهالي المناطق القديمة إلى أن الإهمال في أحيان كثيرة يكون مقصودا ، وأحيانا يحدث بصورة تلقائية ، كانعكاس للوضع الأمني والخدمي في العراق . منتقدين فكرة إعادة تطوير بغداد وشمول البيوت التراثية بالهدم دون النظر إلى القيمة التاريخية لهذه البيوت."
وعبّر بعض المقيمين في المناطق القديمة من مدينة الكاظمية ، وشارع حيفا عن الإحباط بسبب الأضرار التي وقعت على المساكن التراثية في المنطقة. وقد تم استخدام بعض المباني والمنازل لأغراض تجارية وقد استخدمت أيضا كمكاتب للأحزاب السياسية.
ويذكر أبو سعد وهو مقيم في الكاظمية منذ أكثر من خمسين عاما أن "هذه المنازل بدأت تختفي من منطقة الكاظمية بسبب الإهمال ".
ويواصل الرجل السبعيني ، "منذ عقود مضت و الحكومة لم تتخذ خطوات لمصلحة البيوت التاريخية والمقاهي التي تمثل بغداد القديمة ، والمسؤولون السابقون لم يقدروا تراث المدينة ، والحاليون يريدون تطوير وبناء أماكن العبادة فقط ، لاسيما وان معظم الأحزاب الحاكمة هي دينية" .
وأضاف أبو سعد أن "بعض المسؤولين يرغبون بإزالة حقب زمنية تعبر عنها تلك البنايات ، ويردون التخلص من بعض خصائصها التي "تزعجهم " –على حد قوله- . معربا عن أسفه لتقسيم المناطق الحالية وسوء التخطيط العمراني ، والتي قال إنها أدت إلى تآكل النسيج الحضري في بغداد التاريخية. قائلا إن على " الحكومة أن تقوم بإلغاء جميع التجاوزات التي وقعت على المباني التراثية وإعادة الحياة لها " ، منتقدا دور الحكومة في عدم محاولتها إعادة شارع الرشيد إلى حالته الأصلية". مصرا في الوقت نفسه على أن " معظم المباني والبيوت القديمة تحولت إلى مجمعات من محال التجارية ومرافق تخزين التي خربت كل شيء جميل. وادعى أبو سعد أن بعض الأطراف في الحكومة تخطط لتخريب التراث في بغداد من أجل إنشاء عاصمة جديدة تماما.
أما حارث الشمري ، 50 عاما ، ويمتلك "سكلّة " لتخزين مواد البناء في شارع الرشيد. يقول إن "استخدام الأماكن القديمة لقطاع الأعمال أمر طبيعي ، وسوف لن يضر أحدا." أصحاب المحال التجارية ومرافق التخزين يستخدمون هذه الأماكن لرخص بدلات الإيجار وقربها من سوق العمل ، وعدم وجود مناطق متخصصة .
ويؤكد الشمري انه مستعد لمغادرة منزله التاريخي، الذي يستخدمه للتخزين ، إذا تمكن من العثور على مكان آخر بديل.
ويبدو أن هذه الاستجابة جيدة ولكن شرط أن تتعهد الحكومة والجهات المختصة برعاية المناطق التراثية وليس إخلاءها فقط .
الحفاظ على هوية العاصمة
وكانت أمانة بغداد قد كشفت في وقت سابق بأنها تسعى إلى إعادة أحياء المواقع الاثارية والشوارع العريقة وصيانتها، وبدأت تركز مؤخرا على تطوير شارع الرشيد.
وأعلنت أمانة بغداد في تموز الماضي، خطة لإعادة إعمار شارع الرشيد بكلفة 120 مليار دينار عراقي، ضمن استعداداتها لاحتضان فعاليات بغداد عاصمة الثقافة العربية 2013.
ويتضمن المشروع إعمار محلة جديد حسن باشا (قرية الفنون والحرف)، والمدرسة المستنصرية، التي تضم عددا من الشواخص والمعالم الأثرية والتراثية لمدينة بغداد القديمة، وموقع وزارة الدفاع الذي يضم موقع القشلة القديمة، وقصور الخلافة، والحكم في الماضي.
كما تتضمن أيضا تطوير مقهى الزهاوي، والقصر العباسي، والسراي، والمتنبي، والبوسطة (مبنى البريد القديم).
وبحسب بيان الأمانة، فان الأعمال تشمل تحديث كامل البنى التحتية مع الاكساء بالكرانيت، وتبليط أرضيته بالرخام وأعمال الإنارة وزيادة المساحات الخضراء، مع ترميم الواجهات للمباني التراثية وصيانتها، وإعادة بناء المتهدم من المباني التراثية، وتحديد مستوى الشارع العام، والمقاهي، والمطاعم، والفعاليات الترفيهية من مستوى النهر. ويشير حكيم عبد الزهرة الناطق باسم الأمانة إلى وجود العديد من الإجراءات التي تسعى الأمانة لتنفيذها لحماية التراث، تصل إلى حد منع هدم مثل هذه البيوت وتحويلها إلى بناء آخر، بالرغم من كونها ملكاً صرف لأصحابها.
غير أن عبد الزهرة أكد أن الحفاظ على هكذا ارث حضاري وتاريخي من الضياع يحتاج إلى وقفة جادة من قبل المعنيين.
أما وزارة السياحة فتؤكد وجود لجان متخصصة من الهيئة العامة للآثــار والتراث، تذهب إلى المحافظات، وتحدد هذا البيت تراثياً أم لا، وبعد ذلك تقوم بشراء هذه البيوت، ومن التخصيصات المتوفرة.
ويكشف المكتب الإعلامي في الهيئة العامة للآثار والتراث عن قيامهم بشراء البيوت المتميزة مثل بيت رشيد عالي الكيلاني وبيتين في نهاية شارع الرشيد، وهما بيتان متميزان من الناحية الفنية والمعمارية ويعودان إلى عائلة خليل وجمال باشا، وهما من العوائل الغنية في بغداد، علما أن أمانة بغداد قامت بشراء بيوت تراثية في شارع حيفا ومستغلة حاليا من قبل دائرة المخطوطات التابعة للهيئة العامة للآثار والتراث. مؤكدة أن من حق المالك للبيت التراثي أن يبيع ويشتري لأنه ملك صرف ولكن لا يحق للمشتري أن يهدم البيت وتحويله إلى أي بناء آخر ويمكن أن يطبق عليه قانون حماية التراث.
في "قنبر علي "
وفي منطقة قنبر علي فأن من أكثر الأشياء التي تثير فيك روح الفضول هي مشاهد البيوت القديمة التي تزين واجهاتها بالشناشيل.
وهي من الطراز العباسي –كما يقول المهندس راضي وهو أحد ساكني المنطقة – مضيفا : الأقواس التي تزين مداخل البيت تعود إلى تلك الفترة فلا توجد أية لمسة أجنبية في بيوت الشناشيل، و كانت مواد البناء الشائع استخدامها في بناء البيوت هي إما الطابوق الطيني أو الحجر مع الجص، والهيكل الإنشائي يعتمد على الجدران الساندة ، حيث تبنى السقوف بطريقة (العقادة) فيمد الحديد أو الخشب أو الحجر الذي يرتكز عليه السقف إلى الشارع أو الفناء ثم يكمل البناء فوقه بالخشب المزخرف ويسقف أيضا بالخشب لخفة وزنه .
وطبقا لأحد ساكني هذه الشناشيل ومن المهتمين بها يقول حمودي أبو شامه "كما يدعوه الجيران": الخشب الذي تصنع منه الشناشيل هو من خشب الجام والصاج ، وعمليات التخريم والزخرفة التي في الخشب هي بالأيدي وليست بالمكائن.
وبالرغم من أن الأمانة ترفض إزالة هذه الشناشيل بعد أن أراد بعض الساكنين في هذه المنطقة هدم بعض البيوت (الشناشيلية) لينشئ مكانها بناية جديدة، إلا أنها في الوقت نفسه لم تقدم أي شيء للاهتمام بها، كما إن وزارة الثقافة لم تقدم على الحفاظ على روحية المكان على حد تعبير ساكني المنطقة.
بعض الساكنين الآن في هذه الشناشيل أو ما تبقى منها قد اختلفوا في عائدية هذه المنازل، فبعضهم ذكر بأن هذه البيوت تعود إلى الطائفة اليهودية ووجود ممثل لهم يجمع الإيجارات بشكل منتظم، والبعض الآخر يقول بأنها تعود إلى أمانة بغداد، فيما فريق ثالث يرجح عائديتها إلى وزارة المالية.
وبعض المقيمين يدفعون بدل إيجار إلى أمانة بغداد، والبعض الآخر لا يدفع لان البيت الذي يسكنه يعود إلى الطائفة اليهودية ، ويدّعي انه بعد 2003 لم يعد هناك ممثل شرعي يقوم بجمع بدلات الإيجار إلى الطائفة كما كان سابقا.
مظاهر الشناشيل وروح المكان الذي يذكرك بالزمن الماضي الجميل حيث المودة والألفة، تنغصه مشاكل العصر، فمجرد أن تمد ببصرك إلى الأرض ستجد النفايات وقد غطت أركان الأزقة وترامت على سطوح البيوت القديمة وبعضها أصبح تلالا أثرية استندت إليها البيوت ، وأزالتها تعد خطرا فلربما يسقط البيت الذي وجد النفايات متكأ له!.
نظريات المؤامرة
في المقابل، هناك من يؤمن بنظريات المؤامرة حيث يعتقد خريج كلية الفنون الجميلة احمد عبد الأمير، 28 عاما أن هناك "إستراتيجية متعمدة لهدم أي مبنى يمثل تاريخ بغداد من اجل أن تتحول إلى مدينة بلا ذكريات أو بلا حضارة."
وزعم أن قوى أجنبية وأخرى إقليمية تشارك في تدمير بغداد وجمالياتها المعمارية. مؤكدا "هناك دول تحاول استخدام الوضع الحالي في العراق لتدمير تاريخه وتراثه ومساكنه رغبة في الانتقام من الشعب العراقي " .
المصدر:المدى